«أولاد
أرنا» لا يكفي
الكلام عنه كفيلم، رغم انه لم يقصّر في هذه الناحية. بل يمكن القول اننا
امام سينما
قوية. لا بد أنه استخلص من مئات الساعات من التصوير. منذ اللحظة الأولى،
منذ أن
أسست أرنا لاطفال مخيم جنين مسرحاً وبدأت في تدريبهم على
التمثيل والكاميرا لا
تتفرق عن الحياة. الاطفال يتدربون ويمرحون ويتشاجرون أمام أرنا وابنها
والكاميرا
تعمل. انهما معاً، الكاميرا او الواقع، متوازيان تماما، نعيش ونصور ما
نعيشه في
الوقت ذاته، بدون ان يحرج أحدهما الآخر. لا نعرف اين كانت
الكاميرا حتى يكمل
الاطفال وغير الاطفال حياتهم بدون ان يعيروها اهتماما زائدا. بدون ان
يتموضعوا لها
ويقلدوا انفسهم امامها ويتصرفوا من أجلها. انهم، وكذلك أرنا وكذلك ابنها
معهم،
يعيشون كما يعرفون ان يعيشوا والكاميرا تتابعهم كأنها حياة
ثانية. نرى أرنا بادئ
بدء على جانب الطريق تحمّس السائقين الفلسطينيين لكي يسرعوا ولا يكترثوا
للجنود
الاسرائيليين. أي قوة وأي اندفاع للمرأة التي نلاحظ من شبه صلعها انها ليست
في تمام
صحتها وان شبه الصلع هذا يستدعي فورا العلاج الكيماوي. سنراها تدخل الى
المسرح
وتقعد إلى المنصة وتخطب بعربية متفاوتة فهي يهودية ولا تزال
لكنتها بادية. (يهودية
متزوجة من فلسطيني وابنها فلسطيني). الكاميرا تتابع، فلاش باك ونعود إلى
أرنا قبل
مرضها وبدل الصلع هناك شعر كثيف مرفوع على شكل ذيل الحصان. انها تدرب
أطفالا على
التمثيل لكن أي تمثيل: «ماذا تفعل لو استطعت ان ترد كما تحب
على استفزاز جندي
اسرائيلي، افترض ان زميلك هو هذا الجندي، افترضه انا. نعم أضرب أضرب بقوة
أكبر»
وتحتمل أرنا قبضتي الطفل، الاطفال يتدربون
ينقلب لعبهم أحيانا الى حقيقة، يتضاربون
فعلا، يضحكون من انفسهم ومن تدريبهم. الكاميرا المرئية وغير
المرئية تعمل. حين ذهب
الابن وآخرون ليجلبوا أرنا المصابة بالسرطان من المستشفى لتحضر حفل
الافتتاح، بناء
على اصرارها، كانت الكاميرا معهم. كانت معهم وهي يخرجون جثمانها وينحني
الابن عليه
في التابوت. التدريب لم يكن شيئا مختلفا جدا. رغم ان المسرحية خيالية الا
انها ليست
بعيدة. انها بلغة أخرى تتكلم عن الخروج من الحصار والمخيم
(جنين خصوصا) ليست سوى
حالة حصار دائمة. لكن التدريب كما رأينا يجعل من المسرح ايضا حياة موازية «إفعل
ما
كنت تود فعله».
من البداية لم تجد أرنا ولم يجد جوليانو تضاربا بين «الفن»
و«المعيش». لم يكن التصوير فنا فحسب، كان جانبا من العيش. لا بد أن الجميع
اعتادوا
الكاميرا واستمروا، كما يحبون ان يفعلوا، في وجودها. لم تعد عنصرا ضاغطا بل
باتت
جزءا من عملية العيش. لم نلاحظ ان الكاميرا أثرت على تصرف
جوليانو وهو ينحني على
جثمان أمه. كان الأطفال وبعد ان صاروا كبارا يقولون لجوليانو انهم في
البداية
ارتابوا بأمه، ظنوها عميلة للمخابرات الاسرائيلية. لم يفكروا بالكاميرا وهم
يقولون
ذلك لكن الأمر جرى بدون دراماتيكية. لقد حدث وحسب، ما من حاجة، حتى، لدروس
أو عبر،
يمكن الكلام عن سينما الواقع او حتى عن نوع من البوب سينما.
لكن المسألة لا تنحصر
في ذلك. لم يكن الفن غرض أرنا وجوليانو فمن الجنون ان نتصور ان غرضا كهذا
يمكن ان
يمتد على طول حياة كاملة، حياة الأطفال منذ طفولتهم حتى رحيلهم شبانا. من
الجنون ان
يكون هذا مشروعا فنياً. يمكن للكاميرا ان تراقب البعض في مكان وزمان
محدودين لكنها
لا تتبعهم طوال حياتهم. يمكن اختراع فانتازيا كافكاوية كـ
«استعراض ترومان» تتحدث
عن واحد لا يعي ان حياته ليست سوى ستديو تلفزيوني وانها بكاملها معدة
للشاشة، لكن
هذا فيلم. جرى ضغط حياة متخيلة في ساعة ونصف، اما في حال أرنا فان من الصعب
تصور
تحويل حياة حقيقية الى فيلم، الا ان يكون الحياة والفيلم وجدا
بدون أي افتعال معا
وتكونا بدون ان يستعمر أحدهما الآخر. يصعب ان يكون الغرض ايضا بحت سياسي.
لا بد
ان ما فعلته أرنا وجوليانو يتعدى ذلك كله. فيه ما فيه من الفن والسياسة
والالتزام
الانساني، لكن ما نتج يتعدى ذلك كله. انه بعد آخر للفن والسياسة والحياة.
بعد أتى
من صدفة لن تتكرر، هي هذا التوازي الغريب الذي جعل من الفيلم
حياة والحياة فيلما،
ذلك لا يمكن تقصده مرة ثانية. لقد حصل وتستحيل اعادته. لذ فان فيلم «أولاد
أرنا»
يتيم ويبقى يتيما.
يكبر الاطفال وجوليانو الذي غادر المخيم بعد نكبته يعود
ليصوّر هذه المرة ماذا حصل للكبار. الاربعة الذي رأيناهم اطفالا يتدربون
اختلفت
مصائرهم. احدهم قضى في عملية استشهادية. احدهم قتل وهو يقاتل. احدهم لم
ينخرط ولم
يقتنع بالانخراط وعاش يغالب وحدته. اما الرابع فبقي بعد مصرع
زميليه وتحدث وأكل
وماحك تحت كاميرا جوليانو الى ان رأينا بعد ذلك ملصقا يحمل نبأ استشهاده
كقائد «حماس في المخيم». هنا ايضا شيء آخر يتعدى
السياسة والفن يجعلك تتهدج. تفكر أبعد من
ذلك، تفهم انه لا يمكن تلخيص حياة كاملة في أي شيء كان، سواء
أكان هدفاً أم خلاصة
أم عبرة. تفهم ان ما شاهدته لم يكن فيلما فحسب، لقد رأيت شيئا بقوة الحياة
ولن يكون
في امكانه محاكمته او تصنيفه، لكن مرارته تبقى في حلقك وستعرف عندها انك
اقتربت
اكثر مما يجب، اكثر مما تستطيعه السياسة او الفن. وربما الحياة
نفسها. اننا في
منطقة خاصة للغاية، لقد تحقق الانساني والفني والحياتي بدون واسطة، كل شيء
غدا
انطولوجيا وممتلئا، ونحن نمتلئ معه، نمر عندئذ بلحظات «كاملة»، بنضج داخلي
واكتفاء.
لحظة نتواصل فيها ونعمر وندخل بدون سؤال إلى الصميم، لم يكن في الفيلم أي
عاطفوية
أو دعاوية، مع ذلك خرجنا منه كبيري القلب وكأننا، للحظة، وجدنا أنفسنا.
السفير اللبنانية في
05/06/2009 |