أنجزَ المخرجان جودي الكناني وباسل علي عمران الفيلم الوثائقي المعنون
"الأخضر بن يوسف". وكما هو معروف فإن هذا العنوان مستقر في الذاكرة
الثقافية العراقية على وجه التحديد، والعربية بشكل عام. فديوان "الأخضر بن
يوسف ومشاغلهُ" الصادر عن مطبعة الأديب ببغداد عام 1972 حاضر في أذهان
المثقفين العراقيين والعرب على حد سواء. ولو توخينا الدقة فإن شاعراً بقامة
سعدي يوسف لا يحتاج الى رمز أو قناع أو صورة يتماهى بها، لأنه، ببساطة
شديدة، تحوّل الى أسطورة شعرية بفضل كدّه ومثابرته ووفائه للشعر خاصة،
وإخلاصه للأدب بصورة عامة. فلا غرابة إذاً حينما يصبح هذا الشاعر الكبير
محطّ أنظار المخرجين السينمائيين العراقيين أو العرب أو الأجانب، وأن تصبح
حياته الشخصية، وتجربته الشعرية المترامية الأطراف مادة لفيلم أو ربما لعدة
أفلام وثائقية ثقافية، خصوصاً وأن المشهد السينمائي العراقي يعاني من نقص
فادح في هذا المضمار، وأنا أعزوه الى قصور المخرجين السينمائيين العراقيين
الذين لم يولوا هذا الجانب ما يستحقه من إهتمام. ومن خلال تحليلنا لبنية
هذا الفيلم الناجح فنياً سنكتشف أهمية الخطاب البصري في كشف الأبعاد الفنية
والفكرية والجمالية والنفسية لشاعر عميق ذي تجربة شعرية أثرّت، ولا تزال
تؤثر، على أجيال شعرية متلاحقة. وقبل الخوض في تفاصيل الفيلم لا بد من
الإشارة الى أن كاتب هذه السطور سيتوقف عند ست مراحل لا خيار له فيها لسبب
بسيط وهو إستجابته لطبيعة البنية التحتية التي كوّنت الفيلم، والسياق
السردي الذي تبناه الشاعر سعدي يوسف في الإجابة على الأسئلة المُفترضة التي
أثارها المخرج من أجل ملامسة أعماق الشاعر، وربما إستفزازه بقدْرٍ أو بآخر
من أجل الحصول على مزيد من المعلومات الراسخة في طيات ذاكرته المتوهجة على
الرغم من تقادم الأعوام. وعلى وفق هذه الرؤية فإنني سأقسّم المقالة الى ستة
أجزاء وهي " الطفولة، السيّاب ومؤثراته، التوطِّن في المنفى، حيدر وفلسفة
الموت، العلاقة مع الطبيعة، والحرب على العراق" من أجل الإحاطة بكل المحاور
الجوهرية التي أثارها الشاعر على مدار هذا الفيلم الوثائقي القصير الذي بلغ
طوله "35" دقيقة. لا بد من التنويه أيضاً الى أن كل قراءة شعرية لسعدي يوسف
كانت بمثابة التمهيد للحديث عن هذا المحور الفكري أو ذاك.
توطئة بصرية
بذائقة بصرية عالية يفتتح المخرج جودي الكناني فيلمه بلقطة كبيرة مقرّبة
على مشهد في غابة كثيفة الأشجار باسِقتُها. لقطة تذكرِّنا بلوحات الفنان
البريطاني تيرنر، وربما تُحيلنا الى أنتون موف، جوزيف إسرائيلز وجاكوب
ماريس. المهم في هذا المشهد الإفتتاحي هو هذا العدد الكبير من الاشجار
الرشيقة الباسقة، والى جانبها أشجار مقطوعة إما بفعل الطبيعة أو بفعل
الإنسان. "سيعقد الشاعر سعدي يوسف لاحقاً مقارنة بين موت الإنسان وموت
الاشجار". ثمة طفل صغير يعدو ويتسلّق تلاً مرتفعاً بعض الشيء في تلك
الغابة. لا يخلُ وجود هذا الطفل من دلالة رمزية تُحيلنا الى ابن الشاعر
حيدر الذي خطفته يد المنون قبل الأوان بكثير. وما أن تنفتح عدسة المخرج
على بعض البحيرات الصغيرة التي يلهو فيها الإوّز حتى نسمع دوي القنابل التي
تأخذنا الى بغداد مباشرة والتي تحولت بفعل القصف المروِّع الى شجرة عيد
ميلاد ملتهبة في قلب الظلام كما ذهب أحد الصحفيين الأمريكيين. هذه المزاوجة
هي التي تدلل على قدرة المخرج من الناحية الفنية على تقديم النقيضين في آنٍ
واحد، منتهى الهدوء والسلام والطمأنينة، وذروة الرعب والفوضى والفزع. لا شك
في أن القصيدة الأولى التي تلاها سعدي يوسف كانت مدخلاً موفّقاً للولوج في
تجربته الشعرية والروحية في آنٍ معاً.
"سأرحل في قطار الفجر / شعري يموجُ وريشُ قبعتي رقيق". ثمة قصيدة أخرى
تتغنى بالبجع الأبيض، والأشرعة البيض بينما يتجول سعدي يوسف عند ضفاف
البحيرة الصغيرة الكائنة في منْزَه الأنهار الثلاثة، هذه الضاحية الريفية
التي إختار أن يتوطّن فيها.
ثمة توطئة ثانية ومهمة مُوقّعة بإسم الشاعر محمود درويش أعدّها بمثابة
الإقرار الحاسم بأهمية المشروع الشعري لسعدي يوسف حيث يقول:" منذ بدأت
قراءتي لكتابات سعدي يوسف أصبح بالنسبة لي الشاعر الوحيد الذي يعبِّر عن
ذائقتي الشعرية بإعتباره واحداً من أعظم شعرائنا. قادهُ الشعر أو بالأحرى
هو الذي قاد الشعر بالثورة على التعالي في اللغة الشعرية وخلق لغة شعرية
جديدة في الشعر . . . تارة في التميّز في البساطة وأخرى في البحث عن
الجوهر. وبهذه الطريقة يصبح الشاعر في قصائده الحياة نفسها. الحياة بكل
معانيها وعفويتها."
وهج الطفولة
لا شك في أن أي إنسان حينما يعيش خارج مكانه الأول لا بد أن تضعف علاقته
بذلك المكان بفعل عوامل عديدة منها النأي، وهيمنة المكان الجديد، وتأسيس
ذاكرة بصرية جديدة وما الى ذلك من عوامل لا ينكرها سعدي يوسف نفسه، لكنه
"يصر على شيء واحد يظل متألقاً وهو الطفولة" وكأنها غير قابلة للإنطفاء
والتلاشي مهما تقادمت السنوات، وتراكمت ذكريات جديدة. فالطفولة من وجهة
نظره "كنز محتفظ بألوانه وبهائه، وتستطيع أن تستعمله كمادة فنية بصورة
مطلقة وفي كل وقت." ثم يختم حديثه في هذا الشأن حينما يقول:" هذا هو الشيء
الباقي" وكأنَّ كل الأشياء زائلة إلا الطفولة، فهي راسخة في ذاكرة الإنسان
ولا تغادرها إلا إذا طوى الموتُ الإنسان نفسه.
السيّاب ومؤثراته
حينما تظهر صورة زيتية للسيّاب معلقة على جدار المنزل النائي الذي يسكنه
سعدي يوسف يتبادر الى ذهننا السؤال الجوهري الذي طرحه المخرج جودي الكناني
عن تأثير السياب على سعدي يوسف، وربما على الشعراء العرب، فيجيب سعدي
بأمانة شديدة:"بدر كان له تأثير عميق في تكويني الشعري. كنت أتابعه منذ
قصائده العمودية الأولى التي كان يُلقيها في المظاهرات. وكنت أحفظ بعض هذه
القصائد. وأذكر أنني إستنسختُ بعض قصائده على ورق أسمر. كنا لا نستطع أن
نشتري ورقاً أبيض. إستنسخت على ورق الأكياس الأسمر قصيدتي بدر المشهورتين
في ذلك الوقت، وهما "حسناء القصر" و "حسناء الكوخ". وإستمر تأثير بدر عليَّ
حتى الآن. الى الآن أنا أتعلّم من بدر قيماً فنية وجمالية معينة. وعندما
رحل عام 1964 كنتُ في الجزائر، وكتبت عنه مرثية. إسمها مرثية، وهي بشكل ما
ثناء على أسلوبية بدر بإعتبار أنَّ القصيدة كانت تنحو نحوه، وتحاول أن
تقلّده في رثائه. وأعتقد أنها كانت تكريماً معيناً للرجل، وأنه سيظل مثالاً
في الشعر العربي.". إن هذه الإعترافات الدامغة بتأثير السيّاب على شعرية
سعدي يوسف هي نوع من الوفاء للسياب الذي طبقت شهرته آفاق العالم العربي في
الأقل، وهي نوع من الإنفتاح على شعراء آخرين سواء أكانوا من مجايليه أو من
الناس الذين جاؤوا بعده، لكنه يتابع منجزاتهم الشعرية بمحبة كبيرة.
التوطِّن في المنافي
يحضر المخرج الكناني بقوة حينما يسأل الشاعر سعدي يوسف عن جدوى الكتابة
وسببها ومغزاها. وهو سؤال منطقي وإن كان ينطوي على نوع من الإستفزاز: لماذا
نكتب؟ يجيب سعدي يوسف بيقين تام: "كتبتُ لإلغاء المنفى" فالمنفى لا وجود له
في حياة سعدي يوسف طالما أنه يكتب، وطالما أنه يبدع نصوصاً شعرية يفرغ
بواسطتها همومه وهواجسه الداخلية المستعرة على الدوام. إذاً، أن الفرق
الوحيد بينه وبين أناس آخرين لا يحب أن يسمّيهم أنه يكتب لكي يلغي سطوة
المنفى نهائياً. ثم يمضي الى القول بأنه "كتب لكي يتوطّن" وهذه مفردة قوية
الدلالة، وشديدة الإيحاء. فمعنى "التوطّن" في هذا الجانب هو أنك تحمِّل
نفسكَ ما لا طاقة لها على تحمُّله الى أن تذِّل وتتوطَّن شيئاً فشيئاً،
وتتخذ من المكان الجديد وطناً لها. وقد إنتبه سعدي مبكراً الى خطورة الحنين
الذي يصفه دائماً بالعدو. ويبدو أن درجة الحنين لدى العراقيين أقوى وأشد من
الحنين لدى الشعوب الأخرى. والسبب هو إلتصاق العراقيين بموطنهم، وحُبهم
لمضاربه، ولا يغادرونه إلا في ظروف قاهرة يضطرون إليها إضطرارا. وربّ سائل
يسأل: وما الضير في أن يحِّن الإنسان الى وطنه ومسقط رأسه ومحط أحلامه
الأولى؟ والجواب لدى سعدي هو "أن الحنين يدعو الى الكَذِب، وإجتزاء
الحقيقة، وإرتكاب الحماقات." وكما هو معروف فإن سعدي قضى معظم حياته
الإبداعية خارج العراق متنقلاً من بلد الى بلد ومن عاصمة الى أخرى. ومع ذلك
فهو لا يسمّي هذه الآلية "رحيلاً " وإنما " توطّناً".
فلسفة الموت
كان وقعُ الرحيل المُبكَّر والمُفجع للدكتور حيدر قاسياً على سعدي يوسف،
الإنسان الشاعر الذي يكتب من أجل أن يُعيد للحياة بهجتها المفقودة. فلا
غرابة في أن يُطعَن في سويداء القلب كلما تذكّر إبنه الغائب الحاضر.
والغريب أن سعدي يوسف بات يكلّم إبنه الراحل أكثر مما كان يكلِّمه وهو على
قيد الحياة. أي أنه يُكلِّمه ويُناجيه في أحلامه، وفي خلواته الخاصة مع
نفسه مُستحضراً إياه كإبنٍ بار غابَ عنه وتلاشى مثل لمح البصر. هل أن
الكلام الآن مع الولد الغائب هو تعويض عن اللقاءات الناقصة والمبتسرة والتي
كانت تمر على عجلٍ وتتلاشى مثل البرق الخُلّب؟ يفلسف سعدي يوسف هذا الموقف
ويقول عنه "بأنه لا علاقة له بالموت، وإنما بالحياة" لأن الحياة ذات طبيعة
أخرى تقف في إزاء الموت دائماً، وتتحدّاه بتجددها وحيويتها وتناسلها
اللانهائي. يؤكد سعدي بأن هذه المُناجاة لا علاقة بها بالموت من قريب أو
بعيد. فهو "شخص غير معنّي بالموت" والموت، من وجهة نظره "حق كما الحياة حق"
أي بمعنى أننا كلنا سنموت، وهذا الطرح العقلاني الذي ينطوي على خوفٍ دفين
نكابر في التكتم عليه هو الذي يقود سعدي الى القول " نحن كالأشجار"، أي
أننا نموت كما تموت الأشجار، وكما تموت كل المخلوقات الأخرى في الطبيعة. ثم
يخلص الى القول بأن هذه القضية "هي قضية إحتفاء بالحياة. وأنني حينما أسأله
"حيدر" فربما لكي يعينني أنا في الحياة". يتوفر المخرج الكناني على رؤية
إخراجية ذكية تستنفر الدراما الى أقصى مدياتها. فما أن يعقِد سعدي يوسف
المقارنة بين موت البشر وموت الأشجار حتى يقدِّم لنا جودي الكناني صورة
لشجرة تهوي بقوة على الأرض وكأنها تجرف معها صورة الشاب "مسار" الذي يرمز
بطبيعة الحال الى النجل الراحل حيدر، فتأتي القصيدة عفوية، مناسبة ومليئة
بالشجن.
"حيدر يا ولدي
ولدي!/ هل أضِعنا الطريق الى البيت؟/ كانَ لنا منزل قد وُلِدتَ به أنتَ/ لا
شكَ أني هرمتُ وذاكرتي وهنت مثل عينيّ/ لكنك الآن يا ولدي تتساءل عن بيتنا/
كيف؟/ماذا أقول إذاً للضيوف الذين يجيئون؟/ماذا أقول لمن يرسلون الرسائل؟/
يا ولدي!/قل لهم إنني أعرف الدرب/ أخبِرهُمو بالذي أتذكّر/ بيتي على النهر
لا شكَّ/ بيتي به نخلة/ وحديقة ورد ونافورة للحشائش/ ليمونتان وأرجوحة أنتَ
تعرفها جيداً/ ولدي!/موقفُ الباص كان قريباً من البيت/قد كنتَ تقصِده أنتَ
ياولدي حينما تقصِدُ المدرسة/هل تذكّرته؟/هل تذكّرتني؟/فالتُعِّني بُني."
تتنقل كاميرا جودي الكناني من بلدٍ الى آخر بحثاً عن المكان الدقيق الذي
يحيلُ الى الوقائع ليؤكدها ويستنطقها. فمثلما إنتقل من "منزَه الأنهار
الثلاثة" في ضواحي لندن الى كوبنهاغن لكي يصوِّر بحر الشمال. فها هو ينتقل
بنا الآن الى مقبرة السيدة زينب في دمشق التي إحتضن ترابها جثمان الفقيد
حيدر، حيث نقرأ بواسطة لقطة قريبة الجمل التالية التي تختصر حياة الراحل
حيدر، طيّب الله ثراه، "تُوفي الدكتور حيدر ابن الشاعر سعدي يوسف المولود
في العراق، مدينة البصرة 1964 وتُوفي في الفليبين وذلك في 11/8/1997."
تتجول عدسة الكاميرا بين عدد كبير من القبور البيض ذات الشواهد المنتصبة
التي تختصر حيوات السابقين الذين رحلت أجسادهم الى باطن الأرض، وحلّقت
أرواحهم الى شاهق السماء.
العلاقة مع الطبيعة
على الرغم من أن فيلم "الأخضر بن يوسف" يركِّز على المحاور الستة التي ورد
ذكرها سابقاً، إلا أنه في جانب منه فيلم إنطباعي لأن الشاعر يحتفي
بالطبيعة، كما أن عين المخرج تحتفي هي الأخرى بالطبيعة أيضاً من خلال
تركيزها على مشاهد مختلفة من الغابة والبحيرة والبحر. لكن السؤال الأهم هو:
ما الذي تعنيه الطبيعة للشاعر سعدي يوسف؟ ولماذا إنقطع إليها دون غيرها؟
يقول سعدي أنه "بدأ بمعالجة الطبيعة في شعره منذ أواسط التسعينات" ولكي
يعزز هذه المعالجة بالدليل الدامغ فإنه يؤكد على أن " جنة المنسيات هي
بداية العلاقة مع الطبيعة" و " جنة المنسيات" هي مجموعة شعرية إتضحت فيها
معالم الحوار مع الطبيعة. وقد تعمّق هذا الحوار حينما إنتقل الى المملكة
المتحدة، وإستقر في ضواحي لندن البعيدة والهادئة هدوءاً مطبقاً. لا شك في
أن الشاعر سعدي يعيش في شبه عزلة، و "بسبب قلة العنصر البشري فقد إتجهت الى
الطبيعة وصار هذا الإتجاه كدراسة ومبحث." تتجول الكاميرا في منزل سعدي يوسف
وترصده وهو جالس أمام شاشة الكومبيوتر يقرأ واحدة من قصائده التي كتبها عام
2008 والتي يركز فيها على "الوادي الموحش الممتد كئيباً" أمام عينيه
الهائمتين الباحثتين عن شيء ضائع. يستثمر جودي الكناني لقطات تؤرشف لحركة
السفن الحربية وحاملة الطائرات التي تجوب في عرض البحار. فيُغمض سعدي يوسف
عينيه وما أن يفتحهما حتى يرى الطائرات المقاتلة وهي تنطلق صوب بغداد وبقية
المدن العراقية.
الموقف من الحرب
لا شك في أن أي شاعر أو فنان أو إنسان سوي يمقت فكرة الحرب. غير أن الحرب
التي شُنت على العراق بهدف إسقاط الدكتاتورية كانت باهضة الثمن لأنها حطّمت
معظم البنى التحتية للعراق وأعادته عقوداً الى الوراء. ولعل أغرب ما فيها
كما يذهب سعدي يوسف " أن القوى المعارضة كانت ترحِّب بإحتلال العراق. هذا
الشيء ظل يتطور الى أن صار الترحيب الأكبر والدعوة القذرة الى الأمريكيين
لإحتلال البلد." ثمة مشاهد مؤسية لبناية وزارة التخطيط وهي تٌرشق بنيرات
الأسلحة الرشاشة. يقرأ سعدي قصيدة "عليك يا أرضي السلام" وكأنها تعويذة
يعلّقها على صدر العراق. ثم يبدأ بتوضيح موقفه الأخلاقي من الحرب. ويقول:
"إن هذه المسألة قديمة جداً. وهي ليست قبل الإحتلال أو بعده، وإنما هي سيرة
حياة في أن تقف ضد الظلم". يعتقد سعدي يوسف " أن ما حدث عام 2003 سوف
يمتد أثره المدمر والخبيث الى ما لا يقل عن نصف قرن" كما يرى "أن هذا
الدمار سيظل ذا مفعول بطئ ومستمر ويؤدي في النهاية الى تدمير شبه تام
للبلد." لقطات متفرقة تعزز هذه الآراء لمشاهد قصف مروعة، وجنود أمريكان
يشهرون أسلحتهم على الأطفال والنساء والمواطنين العراقيين العُزّل. ثم
يواصل سعدي يوسف سرد رؤيته الفكرية والأخلاقية للحرب حيث يقول: "أنا إنسان
حر، وبداهة بإعتباري فناناً حرّاً، أن أقف ضد إستعباد أي بلد، أو بلدي
أيضاً. هذا ليس أمراً جديداً ولا هو بالخارق." ثم يمضي الى القول: "لستُ
محاصراً من قبِل هؤلاء. الحقيقة أنا أحاصرهم بموقفي الحقيقي. أنا أضعهم
موضع الحرج دائماً." وعن طبيعة مشاعره الداخلية يقول سعدي يوسف: "لا أشعر
بالأسى لكوني في هذا الوضع، بل بالعكس أنا أشعر بالفخر." ثم يقرأ قصيدة
يرِد فيها ذكر الجنرال الفرنسي، ونقرة السلمان التي كان فيها سعدي سجيناً
قبل ثلاثين عاما. وهي من القصائد المعبرة والمؤثرة جداً والتي تكشف عن
معدنه الداخلي النفيس. خلاصة القول يؤكد سعدي يوسف بأن الذي يتلّقاه من
مواطنين عراقيين وأناس بسطاء هو حب وتقدير ووفاء حقيقي. ويتوقع سعدي يوسف
"بأن هؤلاء الناس الذين جاؤوا بالمحتل سيذهبون مع هذا الزمن الملتبس." وفي
الختام لا بد من الإشارة الى أن التركيز في الفيلم الوثائقي الثقافي ينصّب
على الشخصية الرئيسة التي يتمحور حولها الفيلم، فكيف إذا كانت هذه الشخصية
من طراز سعدي يوسف الذي أصدر حتى الآن سبعين كتاباً في الشعر والترجمة
واليوميات وبقية الأجناس الإبداعية كالقصة والمقالة النقدية وما الى ذلك.
وعلى الرغم من العدد الكبير من القصائد التي قرأها والمحاور الفكرية التي
توقف عندها إلا أن تقنيات الفيلم قد أخذت مداها ضمن الفضاء الضيق الذي ظل
مُتاحاً لها. فالتصوير الذي نفذّه الكناني كان متقناً وجميلاً وباعثاً على
الدهشة على الرغم من أنه لم يستعمل الإنارة، مثلما كانت المونتاج دقيقاً
ومحسوباً وعلى درجة عالية الرهافة الفنية، وربما لا نستغرب حينما نعرف أنه
الفنان التقني الدنماركي إيان باك لارسن. وهذه الدقة والرهافة تنسحب على
الموسيقى المعبِّرة التي نفذها طه حسين رهك وكانت منسجمة مع طبيعة
الموضوعات التي كان يتحدث عنها الشاعر سعدي يوسف.
تجدر الإشارة الى أن الكناني قد أهدى فيلمه هذا الى المخرج المسرحي
قاسم محمد الذي غادرنا هو الآخر قبل أن يكحِّل عينيه برؤيته وقد جاء
الإهداء بالصيغة التالية: "لا زلتَ المغني الذي يحمل فانوسه. يفتح المدى
على ضفافٍ أشدُّ زرقة. يبتكرُ للنهر مرايا ويدفع موكب الشموع الى أعالي
الضوء."
إيلاف في
08/06/2009 |