بات الأمر لافتاً
للانتباه: منذ أعوام قليلة، لعلّها بدأت إثر اغتيال رفيق الحريري تحديداً،
ازداد
اهتمام مثقفين وناشطين ثقافيين وفنانين بموضوع الحرب
اللبنانية، بشكل لا مثيل له
منذ النهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية مطلع التسعينيات المنصرمة.
شكّلت تلك
الحرب مادة أساسية لنشاطات ثقافية وفنية متفرّقة، تنوّعت مضامينها من معارض
فوتوغرافية إلى أفلام فيديو وتجهيزات، ومن ملصقات ومحاضرات إلى
أعمال مسرحية
وموسيقية، استلهمت كلّها المعاني التي أشاعتها الحرب اللبنانية المعلّقة في
لامبالاة القطاع الرسمي والأحزاب التي تناحرت طويلاً وتطوّعت اليوم لإبرام
تحالفات
غريبة مع أعداء الأمس، وفي لامبالاة مجموعة كبيرة من المثقفين
والفنانين والأدباء
والسياسيين والمفكّرين والشباب. ولأن الأعوام التي تلت النهاية المزعومة
للحرب لم
تُقرأ كما يجب، ولم تخضع للتحليل والمعاينة النقدية من أجل إنتاج مصالحة
جدّية بين
اللبنانيين تسمح لهم، من بين أمور أخرى، الانتفاض على الساسة
الذين أمعنوا فتكاً
بهم أيام الحرب، وباتوا أبطال السلم الهشّ والمنقوص، الممتدّ في الجغرافيا
اللبنانية مانعاً على البلد وناسه إقامة وفاق أهلي حقيقي وكتابة عقد وطني
جديد
يحصّن التنوّع الثقافي والإنساني والحياتي والفكري، وجاعلاً
الحرب منفلشة في جسد
المجتمع وروحه وبين الناس وعلاقاتهم، وإن بأنماط مغايرة للمألوف؛ لأن هذا
ما حصل
على مدى خمسة عشر عاماً تلت الأعوام الخمسة عشر التي أشعلت الأرض وخرّبت
البيئة
ودمّرت الناس، ما أدّى إلى اندلاع حرب أهلية جديدة إثر اغتيال
الحريري؛ فإن
الالتفات إلى المرحلة السوداء من التاريخ القريب تُعتبر، على الرغم من كثرة
عناوينها وتدفّق نشاطاتها، محطّة ضرورية ومهمّة للتعمّق، أكثر فأكثر، في
المعاني
الناتجة من الحروب وما تلاها من سلم مرتبك وغير نافع.
ضمن هذا الإطار الاستعادي
الهادف، من بين أمور أخرى، إلى النبش في أعماق الحرب وتفاصيلها وفضاءاتها
لتبيان
معالمها وأسبابها وأسئلتها الملتبسة والباحثة عن أجوبة، يبدأ اليوم نشاطٌ
ثقافي/
فني جديد أعدّته لميا جريج ومنال خضر لحساب
«مركز بيروت للفن» (جسر الواطي)، حيث
تُلقى محاضرتان باللغة العربية («لبنان: أطوار التنازع وسلطة
التحكيم» لأحمد بيضون،
الثامنة مساء الأول من تموز المقبل؛ و«حيوات في حالة حرب» لجونا شولهوفر ـ
ول،
الثامنة مساء الثامن من تموز المقبل) وتُنظّم ندوة باللغة الإنكليزية («حيوات
الأعمال الفنية في وبعد الحرب»، مع صالح بركات وكيرستن شايد
بإدارة كرستين خوري،
الثامنة مساء الرابع والعشرين من حزيران الجاري)، وتُعرض ثلاثة أفلام
(«مصائب قوم»
لعمر أميرالاي و«غياب» لمحمد سويد و«لأن
الجذور لا تموت» لنبيهة لطفي)، وذلك
بمناسبة معرض «طريق السلم: لوحات من زمن الحرب، 1975 ـ 1991»، الذي يُقدّم
مجموعة
تجارب ذات صلة بالحرب الأهلية اللبنانية لفنانين لبنانيين، علماً أن «مركز
بيروت
للفن» ارتأى، بهذه المناسبة، تنظيم سلسلة نشاطات موازية بعنوان
«عن الحروب
اللبنانية» تقارب موضوع الحرب وتقدّم إطاراّ للنقاش.
بهذا المعنى، يُمكن إدراك
المغزى الكامن وراء اختيار ثلاثة أفلام وثائقية أُنجزت في مراحل متفرّقة من
مراحل
تلك الحروب القذرة، لاستعادة محطّات سوداء في الذاكرة اللبنانية، بحثاً في
وقائع
تلك الأيام ودلالاتها النفسية والاجتماعية والثقافية
والسياسية، وقراءة في بنية
العمل الوثائقي السينمائي، الذي مال إلى الابتكار المتمرّد على تقنيات
الوثائقي
العادي (خصوصاً مع السوري عمر أميرالاي واللبناني محمد سويد)، أو الذي حافظ
على
الشكل التقليدي (اللبنانية المصرية نبيهة لطفي) من دون أن
يبتعد عن سمة تلك المرحلة
الغنية بالشهادات الوثائقية المصوّرة. فعند الثامنة من مساء اليوم، يُعرض
«مصائب
قوم» (1982، 52 د.، ناطق بالعربية ومترجم إلى الإنكليزية والفرنسية)
لأميرالاي،
يليه (بعد استراحة ربع ساعة) «غياب» (1990، 45 د.، ناطق
بالعربية ومترجم إلى
الإنكليزية) لسويد، الذي يلتقي المُشاهدين إثر عرضه في نقاش مفتوح حول
السينما
والحرب والناس والعلاقات القائمة بينهم جميعهم؛ علماً أن فيلم لطفي «لأن
الجذور لن
تموت» (1977، بالأبيض والأسود، 54 د.، ناطق بالعربية)، يُعرض
عند الثامنة من مساء
الخامس عشر من تموز المقبل. فالأول، المشغول بمزيج السخرية والمرارة
والتصوير
المباشر لتفاصيل متشعّبة من الحياة اليومية البيروتية في ظلّ الخراب الفظيع
الذي
ألمّ بالعاصمة اللبنانية عشية الاجتياح الإسرائيلي في العام
1982، مرآةٌ صادمة
لبشاعة اللحظة المرتهنة للدم والموت في داخل البؤر الإنسانية المصابة
بالخيبة
والتمزّق والانهيار. والثاني، المصنوع بلغة سينمائية أسّست نمطاً وثائقياً
مغايراً
للتقليدي بإنشائه مكاناً أوسع للمتخيّل، غاص في متاهة الموت وتعقيدات
صُوَره
المعلّقة على جدران الألم والانكسار والجنون والتعب الذاتيّ،
عند المفترق الأخطر
الذي صنعه التحوّل الخبيث من حرب ساحقة إلى سلم قاتل. في حين أن الثالث،
الذي اختار
الفلسطينيين ومعاناتهم مادة له، ذهب إلى إحدى أعنف البدايات البشعة للحروب
اللبنانية، عندما تابع النتائج المدمِّرة التي عصفت بفلسطينيي
تل الزعتر، بعد
انتهاء المعركة الوحشية التي خيضت ضد المخيم في العام 1976.
ثلاثة مخرجين
انتموا إلى أشكال متفرّقة من العمل السينمائي، يلتقون في نشاط ثقافي/ فني
يستعيد
تلك الحروب بهدف تشريحها والتمعّن في دلالاتها وشوؤنها. ثلاثة مخرجين جاؤوا
من
جنسيات مختلفة وتراكمات ثقافية متنوّعة والتزامات سينمائية
وسياسية عدّة، فصنعوا
نتاجاً صادماً، إذ فكّك بعضُه البيئة المجتمعية اللبنانية والعربية، كي
يعيد بناء
المشهد الإنساني بلغة وثائقية تجديدية؛ وصاغ بعضُه الآخر خطاب الوعي العام
والالتزام الإنساني بفلسطين، كي يرسم شيئاً من تاريخ شعب
وعلاقاته بالحيّز المكانيّ
المقيم به؛ علماً أن الالتزام بمسألة الفلسطينيين ومعاناتهم الإنسانية
والتعاطي
معهم كأفراد لم يغب عن هواجس المخرجين جميعهم في أفلام أخرى واختبارات
ثقافية
متنوّعة.
السفير اللبنانية في
17/06/2009 |