حدث هذا عام 1984: ابتكار شكل حديث للعلاقة الملتبسة بين الحاضر والمستقبل،
من
خلال الصراع القائم بين الآلات والبشر، والممتد بين الأزمنة
وتداخلها بعضها مع
البعض الآخر. فالآلات باحثة في الدنيا عن المنقذ لتصفيته، وبعض الناس ساع
إلى
حمايته من أجل خلاص البشرية. والشكل السينمائي، المرتكز على الأسئلة
الوجودية
ومعاني القيامة والآخرة والمقبل من الأيام، بدا موغلاً في
ثنائية التشويق والفلسفة،
ما أدّى إلى إضافة بند جديد على لائحة الأفلام المنتمية إلى الخيال العلمي،
لكن
المستندة إلى الواقع وفضائه المفتوح على ألف سؤال وسؤال. في ذلك العام،
حقّق
السينمائي الأميركي جيمس كاميرون الجزء الأول من «الناهي»،
مقدّماً فيه آرنولد
شوارزينيغر في شخصية آلة ساعية إلى إفناء البشرية قبل ولادة منقذها، جون
كونور؛
وجاعلاً العمل المصنوع أساساً كفيلم منضو في الفئة «ب» عملاً كلاسيكياً،
فإذا
بالفيلم يحوّل مخرجه المبتدئ إلى واحد من كبار السينمائيين
الأميركيين (له، لاحقاً،
«تايتانيك»،
مع الثنائي كايت وينسلت وليوناردو دي كابريو).
لا أحد يعلم السرّ
الذي جعل المنتجَين الأساسيين، اللبناني الأصل ماريو قصّار وشريكه الهنغاري
الأصل
أندرو فاجنا، ينتظران سبعة أعوام أخرى لإنتاج الجزء الثاني، الذي حمل
عنواناً
فرعياً هو «يوم الحساب»، مع المخرج نفسه والممثل الأساسي نفسه
أيضاً، الذي اشتهر
بجملته الأثيرة: «سأعود»؛ بينما تولّى جوناثان موستو إخراج الجزء الثالث
«قيامة
الآلات»، الذي أُنتج قبل ستة أعوام، علماً أن العروض التجارية العالمية
للجزء
الرابع «الولادة الثانية للناهي» لماك جي (تمثيل: كريستيان
بال) بدأت منذ أسابيع
قليلة فقط. المهمّ، في هذا كلّه، أن الصراع بين الآلات والبشر مستمرّ، وأن
جون
كونور «صامدٌ» في مواجهته الدموية والعنيفة نماذج متفرّقة من التطوّرات
التقنية
الفائقة الذكاء والوحشية، وأن «نهاية العالم» معلّقة في برنامج الخطط
المستبقلية
للمنتجين والمتعاونين معهم، علماً أن الثنائي قصّار/ فاجنا نقل المادة
الأصلية إلى
الشاشة الصغيرة، قبل تنفيذ الجزء السينمائي الرابع، في محاولة
تحريضية واضحة لإعادة
الحيوية والشعبية إلى السلسلة السينمائية، فإذا بشخصية الأم، ساره كونور،
تحتلّ
واجهة المشهد التلفزيوني، بعد أن استأثر ابنها جون بالحبكة السينمائية
كلّها، إلى
جانب حاميه الذي أراد، في الجزء الأول، أن يقتله.
وُلدت السلسلة التلفزيونية
الجديدة «الناهي: تأريخ ساره كونور» في مطلع العام الفائت، من دون أن
يتسنّى لها
الاستمرار أكثر من موسمين اثنين فقط، يُعاد عرضهما حالياً على شاشة المحطّة
التلفزيونية «أم بي سي، أكشن». هنا، اختلفت الأمور: وجدت ساره
(لينا هايدي) وابنها
جون (توماس ديكير) نفسيهما وحيدين في عالم عدواني ومعقّد، بعد تغلّبهما على
الناهي.
خرقا القوانين، وواجها مشاكل جمّة في
محيطهما، في الآنيّ كما في المستقبل. غير أن
ساره قرّرت مواجهة مطارديها، بعد أن توقّفت عن الهرب، لعلّها
تحظى براحة ما إلى
جانب ابنها، الذي لا يزال محوراً أساسياً في مقارعة النهاية المحتومة
للعالم. وإذا
عرف الموسم الأول (عُرض على شاشة «فوكس») نجاحاً لافتاً للانتباه، خصوصاً
أن أحد
عشر مليوناً ونصف مليون مُشاهد تابعوا حلقاته الأولى، قبل أن
يُحقّق انطلاقة جيّدة
للغاية، بجذبه ثمانية عشر مليون مشاهد (اعتُبر الرقم مرتفعاً، قياساً إلى
الأرقام
الخاصّة بالمسلسلات الجديدة والأولى)؛ إلاّ أن المُشاهدين الأميركيين
انفضّوا عنه
سريعاً، فتراجع العدد إلى ثمانية ملايين وثلاثمئة ألف مشاهد فقط، ما أدّى
إلى إيقاف
المسلسل.
لم تخرج الأفلام الأربعة على تقنية التشويق النابعة من قوّة النزاع
الحاصل بين الآلات والبشر، بالارتكاز على سؤال الوجود البشريّ
على الأرض. وعلى
الرغم من الاهتمام الأبرز بهذه الثنائية، ومع أن جيمس كاميرون نفخ في
الجزءين
الأولين براعته وحنكته في صناعة هذا النمط التشويقي والأفكار المُقلِقة؛
حافظت
سلسلة «الناهي» على خصوصية العلاقة الإنسانية بين الأم وابنها
أولاً، ثم بين الابن
والناهي نفسه ثانياً. لكن الأمور تبدّلت، لأن المسلسل التلفزيوني مال أكثر
إلى
حميمية العلاقة الأولى (بين ساره وجون)، وإن على مرأى من آلة جديدة تُدعى
كاميرون
فيليبس (سامّير غلان)، كُلِّفت بمهمّة حماية الأم والابن معاً
من الموت الذي
يُطاردهما في الأمكنة والأزمنة كلّها.
والاسم يُحيل إلى المخرج جيمس كاميرون، إذ
ارتأى صنّاع المسلسل التلفزيوني توجيه تحية إليه، لقدرته على جعل الفيلم
«ظاهرة
سينمائية» بامتياز. في حين أن الحلقات التلفزيونية بدت منقسمة بين المسعى
اليومي
إلى تأمين حدّ معقول من الحماية، والبحث في شؤون الذات والعالم
والصدامات، وإيجاد
منفذ حقيقي للتحرّر من قذارة الدنيا وبشاعة التحدّيات المنصبّة على الثنائي
ساره
وجون، الذي بدا كأنه مقيم دائم في بؤرة الشقاء وقسوة الحياة. وهذا كلّه في
مناخ
درامي متوتر وحادّ، لا يخلو من لحظات تأمّل إنساني، بعيداً عن
فساد العالم وخشونة
ناسه. وإذا قدّمت الممثلة ليندا هاملتون دوراً عادياً كأم خائفة على مصير
ولدها
الوحيد، بعد صدمتها بحقيقته، في الجزء السينمائي الأول؛ فإن الجزءين الثاني
والثالث
تحرّرا من حضور الأم لحساب شخصيات أخرى، أبرزها «الزوجة المستقبلية» (كلير
دانس)
التي خسرت كل شيء قبل أن تكتشف مصيرها. في حين أن المسلسل التلفزيوني ممعنٌ
في جعل
الأم محوراً أساسياً، مع التنبّه إلى أن الشكل الفيزيولوجي للممثلة هايدي
مائلٌ إلى
القسوة الناتجة من المصاعب الجمّة التي تحاصرها، ومن تدفّق
المنعطفات اليومية في
مسارها الحياتي، ومن الكَمّ الهائل من الأسرار المنكشفة أمام عينيها.
لا يُمكن
فهم الدافع الأساسي الذي أدّى بالمُشاهدين الأميركيين إلى الانفضاض عن
المسلسل بعد
موسمين اثنين فقط، تماماً كما فعلوا مع المسلسل الآخر «جيريكو»
(أريحا)، الذي رفضوه
بعد موسمين اثنين أيضاً، إثر متابعتهم تفاصيله المتعلّقة بالحالة الإنسانية
العامة
التي أفرزها اعتداء إرهابي نووي على الولايات المتحدّة الأميركية (بعد
جريمة الحادي
عشر من أيلول 2001، طبعاً). فهل بات الأميركيون منزعجين من كثرة الأعمال
العنفية
على الشاشة، أم أن بنية مسلسل «الناهي» معقودة على أمور لم تعد
تثير حشرية
الأميركيّ وحماسته وتعاطفه؟
السفير اللبنانية في
19/06/2009 |