عندما أعلنت جوائز الأوسكار في بداية هذا العام كانت المفاجأة الوحيدة
تقريبا هي فوز فيلم «الرحيل» الياباني لأفضل فيلم أجنبي، فيما كانت جوائز
الفئات الأخرى، وخصوصا جائزة أفضل فيلم، تكاد تكون محسومة لصالح «المليونير
المتشرد». فحسب التوقعات كان المرشح الأكبر لهذه الجائزة هو الفيلم
الإسرائيلي «رقصة فالس مع بشير» أو فيلم «بين الجدران» الفرنسي، حتى إن
مخرج الفيلم الياباني، يوجيرو تاكيتا، تفاجأ بهذه النتيجة. ووجه الاستغراب
هنا أن هذين الفيلمين تحديدا كانا من الأفلام التي حازت على استحسان كبير
في مهرجان «كان» السينمائي، مما جعل الفيلم الفرنسي «بين الجدران» يقطف
السعفة الذهبية. وتلا ذلك بفترة فوز «رقصة فالس مع بشير» بالكرة الذهبية
لأفضل فيلم أجنبي وهو الذي جعله المرشح الأكبر للأوسكار. ويبقى السؤال:
ماذا ميز «الرحيل» ليتم اختياره للجائزة؟ أول ما يمكن أن يلفت النظر في هذا
الفيلم هو أنه بعيد تماما عن أجواء التجريب التي كانت واضحة في الفيلمين
الآخرين، ففيلم «بين الجدران»، على سبيل المثال، مغرق في الواقعية بأسلوب
جديد على هذا النوع من الأفلام الذي يتناول علاقة المدرس بتلاميذه، فقد أخذ
شكلا آخر هو أشبه بالوثائقي الذي يصور الحياة الطبيعية كما هي، وذلك بأن
يرينا ما يحدث في صف في إحدى المدارس الفرنسية خلال عام دراسي، بعيدا عن أي
حبكة درامية معتادة في الأفلام الروائية، وبدون أي رتوش تدفع به إلى أن
ينتمي إلى واقع متخيل. في حين أن «رقصة فالس مع بشير» التحريكي كان أيضا
على الرغم من اتخاذه التحريك شكلا له، فإنه أقرب للسيكودراما الوثائقية،
حتى إنه في سرده أحداث صبرا وشاتيلا نحا نحو أسلوب رواية الأحداث من خلال
لقاءات ببعض جنرالات الجيش الإسرائيلي الذين شاركوا في أحداث صبرا وشاتيلا،
ثم انتهى الفيلم بصور فوتوغرافية لضحايا المجزرة ليؤكد الجانب التوثيقي.
وفي هذا يبرز الاختلاف على أشده مع فيلم «الرحيل»، الذي ابتعد تماما عن
التجريب، وعن الإغراق الزائد في الواقعية، وبعد عن السياسة وأبعادها، ليأخذ
خطا إنسانيا آخر، وإن كان قد ضمنه الكثير من النقد الاجتماعي، إنما بسلاسة
استثنائية. يعتمد سيناريو الفيلم، الذي كتبه كوندو كوياما، بشكل كبير على
السيرة الذاتية لأوكي شينمون كما رواها في كتاب بعنوان «صانع التوابيت:
يوميات حانوتي بوذي». وهو يحكي قصة ديجو (ماساهير موتوكي) عازف آلة
التشيللو
Cello في فرقة أوركسترا نراها تعزف سيمفونية بيتهوفن التاسعة بشكل جميل،
ولكن بحضور قليل جدا؛ ونظرا لذلك يقرر صاحب الفرقة حل الفرقة وفصل الأعضاء.
وبهذا ينهار حلم ديجو في أن يصبح عازفا شهيرا وتواجهه ديونه الكبيرة التي
دفعها ثمنا لآلته. هذا الدين وحل الفرقة يجعلانه يقرر العودة مع زوجته ميكا
(والتي قامت بدورها رايكو هيروسو) إلى الريف، حيث البيت الذي تركته له
والدته قبل مماتها، وحيث ذكريات الماضي تحيا من جديد. عند عودة ديجو إلى
الريف يفاجأ بإعلان عن وظيفة تختص بالرحلات براتب مغر، ويذهب معتقدا أنها
وكالة سفريات، ليفاجأ بأن الوظيفة هي عن الراحلين، وهي تخص تكفين الموتى.
أمر لم يكن ليفكر فيه أو ليقبله، ولكن إغراء الراتب دون وجود بدائل أخرى
للدخل وحماسة صاحب العمل له، جعلاه يوافق على مضض. في البداية، لم يكن أداء
هذه الوظيفة بالأمر السهل أو الممتع، كما أنه لم يجرؤ على البوح بها لزوجته
لخجله منها. ولكنه ورغم تردده الذي تكشفه لنا الصورة في لقطات متتالية يمضي
في عمله تحت إلحاح رب العمل أولا ثم بعد ذلك مدفوعا برغبة أخرى داخلية
تجعله يعيد النظر في أهمية عمله وما تحمله هذه الوظيفة من معنى لمن فقدوا
أحبتهم بالموت.
يتمكن ديجو من خلال عمله، وهو يقوم بتكفين الموتى بكل احترام وتوقير، أن
يجعل أهل الميت يرون فقيدهم في أبهى حالاته، فيتدفق شعور الحب ويمسح ألم
الفقد كل مشاعر الغضب والعتاب التي حملوها لسبب أو آخر تجاه فقيدهم؛ ولذا
فهو يكسب امتنان أهل الميت وتقديرهم دون أن ينعكس هذا إيجابا على ردود فعل
الآخرين تجاه وظيفته حتى أقرب الناس إليه وهذا ما يعقد الأمور أكثر. أثناء
ذلك يتصالح ديجو مع الموت بعد أن كانت مجابهته في بداية الفيلم تقض مضجعه
وتفسد عليه القدرة على الاستمتاع بحياته، وهو الأمر الذي يرينا إياه كاتب
السيناريو بشكل رمزي وذكي من خلال عزوفه عن الأكل في بداية عمله ثم إقباله
عليه فيما بعد بشهية واضحة.
لكن «الرحيل» ليس فيلما عن الحياة والموت فقط، فهو وإن كان يؤكد على قيمة
الحياة، فقد قال ذلك قبله بفترة طويلة المخرج الياباني العظيم أكيرا
كيروساوا في فيلمه «Ikiru». إن يوجيرو تاكيتا بفيلمه هذا يرسل رسالة واضحة للمجتمع الياباني
تجاه تعاملهم مع بعض المهن ونظرتهم للموتى بشكل عام. فحسب معتقدات الديانة
الشينتوية التي يدين بها الكثير من اليابانيين يعتبر الموت نوعا من التلوث
والقذارة. ونتيجة لذلك فهم يعتقدون بنجاسة جسد الميت ووجوب عدم لمسه.
والأشخاص الذين يعملون في أي مجال له علاقة بالموتى هم من الفئة المنبوذة
بالمجتمع الياباني، بل وتكاد تكون معزولة اجتماعيا بشكل كامل. إن توالي
لقطات العازف، في «الرحيل»، وهو يعزف الآلة بكلتا يديه ثم وهو بنفس اليدين
يكفن الموتى يشير إلى قيمة ونبل هذا العمل، ثم ينقل لنا الفيلم أحاسيس
عائلات الموتى بعد التكفين فنشعر دون وعي منا بمشاعرهم تجاه من تعامل
باحترام واهتمام بموتاهم. وربما أكبر دليل على نجاح المخرج في توصيل رسالته
بشكل سلس وعذب هو النجاح الجماهيري والفني الذي حفل به الفيلم في اليابان
حيث تجاوزت مبيعات التذاكر 60 مليون دولار. وهو رقم يعد كبيرا بالمقاييس
التجارية للسينما اليابانية. فيما حصد أهم الجوائز على مستوى اليابان
وآسيا، فقد نال أهم جوائز الأكاديمية اليابانية وجائزة الديك الذهبي
الصينية لأفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل ممثل أول. ومن الجدير بالذكر أن
الفيلم، رغم قتامة الموضوع الذي يحكي عنه ومشاعر الحزن التي ينقلها، لم يكن
يخلو من الطرافة والمواقف المضحكة؛ كما أنه تميز فنيا من خلال عدة عناصر
أولها جماليات التصوير السينمائي والزوايا المدروسة بعناية، إضافة إلى دقة
المونتاج وإتقانه. وهناك أيضا الأداء العفوي والمتميز لموتوكي بطل الفيلم
الذي كان قادرا في كثير من المشاهد من خلال عينيه ولغة جسده على أن يحكي
الكثير. لكن الموسيقى التصويرية الرائعة قد تكون أفضل عامل طغى على طول بعض
المشاهد الزائد وتكرارها، وهو المأخذ الوحيد على الفيلم، فقد قام بتأليفها
الموسيقار الياباني المبدع جو هياسيشي، مؤلف الموسيقى التصويرية لفيلم
التحريك الياباني الشهير
Spirited away.
يبقى أن نقول إن فيلم «الرحيل» بتكراره للحظات الفراق يترك لنا رسالة كونية
مفادها أن لا نبخل على أحبائنا بالحب أثناء حياتهم، بدلا من أن نترك للوعة
الغياب أن تفجره بعد فوات الأوان.
haom@hotmail.co.uk
الشرق الأوسط في
26/06/2009 |