يقرر الكثير من علماء وفلاسفة علم الجمال أن هنالك اتجاهين تسلكهما
الاتجاهات الفلسفية والفنية: الاتجاهات المثالية، والاتجاهات الواقعية..
فالواقعية في تراكيبها تهتم بالواقع لغاية خلقية مباشرة، إما بالثورة على
الواقع وتغييره، وإما بالمصداقية في نقله كما هو. أما النزعة المثالية فهي
التي لا ترتبط بالواقعية لا إنتاجا ولا نتيجة، كالرمزية ومذهب الفن للفن
وغيرها، وهي تُمحوِرُ التطور الإنساني على «الأفكار»، بينما تمحور الواقعية
التطور على «الأفعال».
وهنا تبرز لنا جزئية مهمة من فلسفة الألماني هيغل، فالأفكار والأخيلة لديه
لا تستلم للخواطر الذاتية فقط، بل يجب أن يُسيِّرها التفكير العميق في جوهر
الأشياء، وما يحيط بها من متغيِّرات ونظم العصر وتقاليده، ومن هنا انطلقت
بوادر الواقعية كفكر فلسفي. فبرز الفرنسي إميل زولا صاحب المنهج الطبيعي
الذي كان ينادي بضرورة التزام الفنان بالرجوع إلى التفكير العلمي الدقيق
واستقراء الواقع – على طريقة الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون – بطريقة
علمية مدروسة، فاستفاد من علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأحياء في أعماله،
التي لم تعد مُركَّزة على الجانب التفاعلي بقدر ما هي مركزة على الجانب
الواقعي الحقيقي، تكشف عنه بكل جرأة وفي أقسى أشكاله خشونة وتعسفا، كردة
فعل على المذهب الرومانسي المثالي الذاتي الذي ساد أوروبا لحقب كثيرة. ولذا
فإن الواقعية كمصطلح نقدي يبدو معقدا ومتداخلا، يجوب التاريخ في عدة مراحل
متباينة، ويرتبط بأسماء عديدة من زولا وبلزاك ومرورا بستريندبرغ وتشيكوف
وانتهاء ببريخت ومسرحه الملحمي وعصبة التجريبيين المتجردين من عناصر الفن
والمكتفين بمعطيات الواقع. ولذا فهو في حقيقته، ودون الالتزام بالمعطيات
التاريخية، مصطلح لغوي نستخدمه في مجرد الدلالة ليس إلا، أكثر من كونه
مصطلحا نقديا له مرجعيات محددة وأساليب قطعية متبعة، إذ إنه يتغيَّر
ويتبدَّل كثيرا. ولذا فهو يبرز في السينما غير واضح الملامح إلى حد بعيد،
متداخل المفاهيم والدلالات.. تقترب من تطبيقه والانصياع له الكثير من
الأعمال على مدار التاريخ السينمائي، دون الانتماء إلى الواقعية كمصطلح.
ولكن إذا تناولناه كمفهوم ذي دلالات لغوية فقط؛ فإنه سيبدو للمتتبع تاريخيا
متأرجحا بين مفهومين معقدين: واقعية المضمون، وواقعية الشكل. وهذه
المصطلحات الفضفاضة أيضا ليس لها أي مرجعية نقدية دقيقة، ولكنها مجرد
دلالات لغوية نستخدمها للشرح والتفريق ليس إلا. فواقعية المضمون هي التي
تتكلم عن محسوسات واقعية دون التجميل أو التحريف أو التراخي، وإنما واقعية
صادمة، مباغتة، لا تُحرِّف المحيط، ولا تفعِّـل الشخصيات بطرق درامية
مفتعلة وغير محسوسة، تخترق الشارع والحارة والقصور وتتعامل مع شخصياتها
المختلفة والمتباينة بنفس الطريقة وبالتلقائية ذاتها، ولا تحاول خلق
تفاعلات درامية ودراماتيكية تحرف من خلالها الانعكاس الواقعي، وإنما تكون
قريبة جدا من الصورة والمضمون الواقعي، سواء في البناء أو التفاعل الحدثي
أو الشخصي. وهنا تأتي المدرسة الواقعية الإيطالية كأكبر المدارس السينمائية
وأقدمها التي تعكس هذا التوجه كمنهج واضح وذي أبعاد تاريخية. فهذه المدرسة
– رغم تعقيداتها التاريخية وموجاتها المتعددة – وخصوصا الموجودة في أعمال
الثلاثي روبرتو روسيليني وفيتوريو ديسيكا وأوائل أعمال لوتشينو فيسكونتي
وعمل وحيد بارع للفرنسي جان رينوار
The Rules of the Game
؛ لا تهتم سوى بالواقع كمادة خام ومموِّل رئيسي للعمل الفني. إنها لا تهتم
كثيرا بخلق تفاعلات درامية مكثفة من شأنها أن تضفي نوعا من الدراماتيكية
على الأحداث أو الشخصيات، وإنما تحاول قدر الإمكان نقل الواقع كما هو، بدون
رؤى مثالية أو فبركة درامية أو تفاعلات مختلَـقَة، وتفتح بذلك المجال
للارتجال الفني في أن ينقل جماليات حسية متكدسة في عمق المجتمع البسيط بكل
تلقائية وانسيابية. ولذا خرجت هذه الأفلام حينها صادمة، ومباغتة، وقريبة من
الواقع إلى أبعد حد. ولكن كان هناك بلا شك محاولات تطمح لذات الغاية قبل
الواقعية الإيطالية، ولعل من أهمها هي سينما الفرنسي روبرت بريسون ـ
Robert Bresson،
التي تعكس سينماه فرادة الحس الواقعي في أدق صوره، ويبالغ فيها بأصالة
متقشِّفة لدرجة التراخي والخمول، ولا يركز على شكليات الفيلم الأساسية بعكس
تركيزه في القبض على الإحساس الواقعي الصادق الذي يحرك شخصياته ويتفاعل مع
أحداثه.
ولذا فإن أغلب أفلامه لا تهتم بالصورة في انعكاسها الجمالي، ولا بالتمثيل
أيضا في صورته الدرامية التفاعلية، وإنما تسير غالبا وفق سرد قصصي متتابع
يدور في محيط شديد الواقعية في صورته، وبانسيابية وتلقائية في حركة
الكاميرا وتنقُّـل اللقطات، لدرجةٍ تُشعرنا بأن ما نشاهده ليس من صنع
الوهم، وإنما هو عمل تسجيلي يقترب من الشخصيات ويتفاعل مع الأحداث! ولكن
رغم هذه المحاولات المتفرقة، يظل نشوء الواقعية الإيطالية كمنهج ذي أسس
واضحة له أهمية قصوى، خصوصا في الجانب التاريخي، إذ أعطى مفهومَ الواقعية
أبعادا أوسع وأكسبها نضجا أكبر، أسرع بالزوال مع تغير كثير من مخرجيها
واتجاههم إلى ابتكار أساليب خاصة بهم.. ولكنها بقيت موجودة ولو في حيِّز
التأثير الذي خلقته، والذي أصبح موجودا في السينما إلى وقتنا هذا عبر أعمال
لا عدَّ ولا حصر لها تتبنى هذا المنهج الواقعي المضموني.
ahmad ـ
alhokail@hotmail.com
الشرق الأوسط في
26/06/2009 |