في عام 1976, ولم يكن
قد مضى على وصولي إلى موسكوللدراسة سوى أسابيع معدودة , دعاني أحد الأصدقاء
لمشاهدة
فيلم سينمائي ذاع صيته بين الموسكوفيين أنه جدير بالمشاهدة.. فذهبنا إلى
إحدى دور
السينما (وكانت دور السينما في ذلك العهد تمتاز بجمالية المكان
وتعتبر فضاء مناسباً
يجمع المتعة والفائدة معاً).. ولما كنت لا أعرف وقتذاك من اللغة الروسية
سوى بضع
كلمات فقد تابعت الفيلم «بالنظر»فقط , ولكنني رغم ذلك خرجت بانطباع رائع
وبمشاعر
طيبة ومتعاطفة مع بطل الفيلم وزوجته.. بعد ذلك بسنوات فقط عرفت
بأنني إنما شاهدت
فيلم Pechki Lavochki
للكاتب والمخرج والممثل السوفييتي الراحل فاسيلي شوكْشِن الذي
لقِّب بعد رحيله بـ«ضمير الأمة».. والفيلم باختصار يصوِّر رحلة
مواطن (شوكْشِن )
وزوجته (فيدوسييفا - شوكْشِنا) من قرية روسية نائية وهما يسافران بالقطار
عبر موسكو
قاصدين شاطئ البحر للراحة والاستجمام. وفي الطريق يتعرضان لمواقف كوميدية
لكنها
تحمل دلالات معينة.. ففي إحدى المحطات ينضم إليهما في المقصورة
مسافر يقدّم نفسه
كمهندس طيران.. في مصلحة السكك الحديدية ؟! ليتبين لاحقاً أنه لص مطارد من
قبل
الشرطة ؛ فتأتي ردة فعل الزوج والزوجة على هذا الخبر منسجمة مع الطبيعة
الريفية
الصادقة والبسيطة, حيث يسعيان للتخلص من كل ما يشير إلى
معرفتهما به , خصوصاً
وأنهما شاركاه المأكل وتقبّلا منه هدايا رمزية.. وعلى أثر ذلك تتشكل لديهما
قناعة
ضمنية كما لو أن جميع المسافرين لصوص , وهذا ما يكتشفه المشاهد في المحطة
القادمة
–
إذ ينضم إليهما في المقصورة رجل تشي هيئته بالوقار وبالرصانة والجدّية
ولكنهما
يسحبان عليه قناعتهما الحديثة ويتعاملان معه على أساس أنه لص كسابقه
فيرفضان
مشاركته المأكل والمشرب وأي شيء. حتى الحديث... ليكتشف المشاهد أنه أمام
عالم لغات
Linguist
ثم يعودان إلى سجيتهما الحقيقية. إلى آخر الفيلم.
والقطار هنا , كما
يرى النقاد , يرمز لمسيرة بناء الاشتراكية. وقد لاقى الفيلم قبولاً
جماهيرياً منقطع
النظير.. ربما لأنه انتقد الواقع السوفييتي من الداخل بجرأة وبطريقة ساخرة.
والفيلم
من إنتاج عام 1972. في ذروة الدعاية الإيديولوجية التي كانت تروج نظرية
الانتقال
لبناء المجتمع الاشتراكي المتطور , وذلك بعد أن انتهوا من بناء
الاشتراكية (العادية
؟!). والأرجح أنهم كانوا يقصدون اشتراكية الفقر , والله اعلم !
أن ترهق نفسك
إلى حد العبقرية
عندما جاءوا في عام 1933 لاعتقال والده كان فاسيا في الرابعة
من عمره. كان آل شوكْشِن في قرية سروتسكي من مقاطعة آلتاي مصنفين من طبقة
الفلاحين
متوسطي الحال. انتسب الأب مَكَار شوكْشِن في عام 1933 إلى الكلخوز «ويده
على قلبه
«..
إلا أن ذلك لم ينجه من الاضطهاد والتعسف.
فكان أن فقدت الأم ماريا
سيرغييفنا معيل العائلة وهي في الثانية والعشرين من عمرها لتبقى مع طفليها
الصغيرين. وقد وصل بها اليأس درجة جعلت أفكاراً مرعبة تراودها
: أن تسمم نفسها
وولديها. إذ لم يكن بإمكانها أن تنتظر العون من أحد. فلكل
أخت من أخواتها سبعة
أطفال. إلا أن القدر حماها من ارتكاب الخطيئة.
لاحقاً سيتذكر فاسيلي شوكْشِن
عمه زوج أمه بافل كوكسين كإنسان نادر الطيبة والقلب. فقد تزوج بدافع الحب.
وكيف سوى
ذلك ؟ إذ تزوج أرملة مع طفلين. وما إن بدأت حياتهم تتخذ مساراً أفضل حتى
بدأت الحرب
الوطنية العظمى. ذهب «الأب الثاني «لشوكشِن إلى الجبهة
ليستلموا بعد ستة أشهر ورقة
صفراء تنعي استشهاده.
هكذا أصبح فاسيلي مَكَاروفيتش شوكْشِن الرجل الوحيد في
البيت ومعيلاً للعائلة. وهذا ما انعكس على شخصيته فنشأ على طبع
صارم وقاس. فراح
يطالب أقرانه بأن ينادوه فاسيلي حصراً وليس فاسيا أوفاسكا[. انتسب بعد الصف
السابع
إلى مدرسة حرفية لكنه لم يكمل تعليمه فيها لأن الحاجة لإطعام العائلة دفعته
للعمل
ميكانيكي سفن في مدينتي غالوكا وفلاديمير , كما عمل في بناء
سكة الحديد في مدينة
كورسك. تم استدعاؤه إلى الخدمة الإلزامية في الأسطول حيث تدرب على العمل
لاسلكياً
فانتقل إلى القاعدة البحرية في سِفاستوبُل.. وبسبب كرهه للثرثرة أطلقوا
عليه لقب
«الصامت».
عينان قويتان
جاء شوكْشِن إلى لجنة الفحص وهو يحمل دفتراً سميكاً
بتجليد فني وفيه قصصه. لكن الصبايا خلف المنبر تكاسلنَ فلم يُكلّفنَ أنفسهن
عناء
القراءة , وقمن «بدحرجة» الشاب الموهوب والمميز إلى كلية التمثيل بدلاً من
الإخراج.
وهناك فقط عرف فاسيلي بوجود كلية للإخراج أيضاً. وعلى الفور قرر أنه سيصبح
مخرجاً.
لقد كان شوكْشِن متطرفاً في مواقفه وحاداً في التعبير عن آرائه , وهذا ما
كان
يقلق المشرفين , إلا أن المخرج السوفييتي المعروف ميخائيل
الكساندروفيتش روم غامر
ووافق على دعوة الطالب المشاكس إلى حلقته وذلك على الرغم من أن شوكْشِن راح
يزعق
حرفياً على المخرج روم أثناء المقابلة عندما طلب منه الأستاذ أن يحدّثه عن
مشاعر
البطل بيير بيزأوخَف خلال معركة بَرَدينو (من رواية «الحرب
والسلم» لليف تَلْصتوي).
أنا لم أقرأ «الحرب والسلم» بعد. إنه كتاب كبير , وحتى الآن لم تسنح الفرصة
لقراءته.
فأي مدير مدرسة أنتَ إذاً , بل إنك ببساطة إنسان غير مثقف ومن المشكوك
فيه أنه يمكنك أن تصبح مخرجاً ـ قال روم بامتعاض.
فما كان من فاسيلي شوكْشِن
إلا أن انفجر عليه وراح يصرخ بأن ما يشغل بال مدير المدرسة ليس التفكير
بمشاعر بيير
وإنما بالكتب المدرسية وبالمقاعد والحطب الضروري لكي لا يتجمد الأولاد في
المدرسة
من البرد.. والحطب يتطلب تجميعه في الغابة ثم جلبه ثم تكسيره..
وكل هذا عليك القيام
به بمفردك وفي الأوحال ! لذلك لا وقت لدي للتفكير بقراءة الكتب...
فكان قرار
المعلّم روم التالي: وجهات نظر غير تقليدية لكنه إنسان موهوب. قبول في حلقة
الإخراج.
كان فاسيلي شوكْشِن أشبه ببركان نائم مستعد في كل لحظة للانفجار. لذلك
كانت ثورات غضبه مصحوبة بشحنة عالية من الانفعال , الذي لطالما
حاول جاهداً السيطرة
عليه. وقد انعكس هذا الصراع الداخلي على طباعه وعلى شكله الخارجي. وقد عبّر
عن ذلك
أحد المواطنين من قريته فقال: «كانت لديه عينان قويتان».
في عام 1964 شارك في
فيلم « ثمة مثل ذلك الفتى » ـ فكتب سيناريوالفيلم وقام بإخراجه ولعب دور
البطولة
فيه.. (وقد نال الفيلم الجائزة الدولية في مهرجان فينيسيا
السينمائي عن مجموعة
الأفلام المخصصة للأطفال واليافعين).
وفي منتصف ستينيات القرن الفائت ولدت عند
فاسيلي شوكْشِن الفكرة حول إخراج فيلم عن ستيبان رازِن ـ بطل الثورة
الفلاحية
الشعبية في روسيا. وقد امتلكته تلك الفكرة لدرجة أنه امتنع عن التمثيل وراح
يقرأ كل
ما يتعلق بتلك الثورة وبقائدها.. كما اطلع على العادات التي
كانت سائدة في ذلك
الزمن في أوساط القوزاق. وفي نفس الوقت استغل شوكْشِن ما جمعه من معلومات
لكتابة
رواية تاريخية بعنوان «جئتُ لأمنحكم الحرية».
تم تحديد بدء التصوير في صيف عام 1967..
لكن مزاج المسؤولين عن السينما تغير فجأة: وجدوا أن إخراج فيلم تاريخي من
جزءين ـ عمل مكلف وغير راهن. فاضطر شوكْشِن لأن «يضع رازِن في الثلاجة» حتى
تحين
أوقات أفضل... ما كان له فعل الصدمة بالنسبة للمخرج وكاتب
السيناريو. وقد عبّر
شوكْشِن عن ذلك بقوله : «تخيلّوا امرأة حملت جنينها تسعة أشهر مليئة بشتى
صنوف
العذاب والألم والانتظار.. وفي آخر لحظة يقولون لها : «ليس من الضروري لك
أن تلدي ,
أيتها الأم.. فالوقت غير مناسب. ولذلك سوف
نتريث !»
بعد «طي» فيلم ستيبان رازِن
أراد شوكْشِن أن يخرج فيلماً ساخراً بعنوان «نقطة الغليان» (ها أنا أقدم
لكم
موضوعاً عصرياً...) لكنهم رفضوا العمل في مؤسسة غوركي السينمائية حيث كان
شوكْشِن
موظفاً... حتى إن أصدقاءه من المخرجين وقفوا ضده أثناء المناقشة قائلين:
ليس في
مكانه الضحك على الصعوبات والنواقص عشية الاحتفال باليوبيل الستين للسلطة
السوفييتية». باختصار , سدّت جميع المخارج في وجهه.
فلم يبق سوى الكحول والسكْر
علاجاً للاكتئاب والإحباط. والسفر من حين لآخر إلى القرية. وإلى هذه الفترة
تعود
الملاحظة التي وجدت في دفتر يوميات شوكْشِن: «لم أسمح لنفسي ولا مرة في
حياتي أن
أعيش مسترخياً... بل كنت مشدوداً ومتحفزاً بشكل دائم... أما
الآن فقد بدأت أتوتر
وصرت أنام وكلتا يداي مقبوضتان. وهذا قد ينتهي بشكل سيء. يمكنني أن انفجر
من
الاحتقان والتوتر... ».
مخزون المتانة
انتهى الأمر على خير. خرج من المحنة
دون أن ينتحر (علماً أن المحيطين كانوا يخشون ذلك). بعد أن كادت تضيع منه
ابنته
الصغرى أثناء حفلة سُكْر مع بعض الأصدقاء في المقهى. أقسم لنفسه: «ولا قطرة
بعد
الآن!». والتزم بقسمه. حتى أثناء وجوده في ضيافة شولوخَفْ لم
يسمح لنفسه بأن يلمس
الفودكا وهذا ما جعل الأخير يتذمر.
تخطى شوكْشِن بنجاح موجة الرسائل المنددة
بعد أول عرض لفيلمه Pechki – Lavochki
والتي جرى نشرها في بعض الصحف الرسمية بصورة
منظمة من قبل جهة ما.. خصوصاً وأن تلك الرسائل كانت تأتي من بلده آلتاي..
فقال: «هذا غير متوقع... ومحزن «.
حين بدأ فاسيلي شوكْشِن بتصوير فيلم Pechki - Lavochki
حاول أن يوثّق التزامات استوديو» غوركي « بالاستمرار في التحضير لفيلم «
ستيبان رازِن «. فهذه كانت شروطه لكي يعمل
على كتابة وإخراج أفلام ذات «صبغة
عصرية». لكن المسؤولين عن المؤسسة لم يفوا بوعدهم وتابعوا تجاهلهم للمشروع.
حتى إن
شوكْشِن اضطر أن يبعث برسالة إلى اللجنة المركزية بهذا الخصوص , لكنه تلقى
جواباً
مبهماً وفوقياً. ولأنه لم يحصل على أي دعم لا من القيادة ولا
من السادة في مؤسسة «
غوركي « فقد قرر الانتقال إلى « موسفيلم « , بعد أن تلقى وعداً من
بَنْدارتشوك (رئيس «موسفيلم» آنذاك) بتقديم الدعم له في
إنجاز فيلم «ستيبان رازِن » ( تم تصوير
الفيلم في « موسفيلم « ولكن بعد مماطلة وتأخر زمني طويل وبعد
جهد جهيد. ويعتبر فيلم
«ستيبان
رازِن» من أهم أعمال شوكْشِن السينمائية ويشكل غاية وحلم كل مخرج , إذ يشعر
المخرج بعده أنه لم يكن مجيئه إلى مهنة الإخراج عبثياً).
لكن فيلم « العناقيد
الحمراء» كان من أنجح الأفلام التي كتبها وأخرجها ومّثل فيها شوكْشِن. وقد
شاهد
الفيلم أكثر من 62 مليون متفرّج. وكل واحد منهم كان يجد ما
يخصّه هو عند بطل الفيلم
–
المجرم وصاحب السوابق. نال الفيلم الجائزة الأولى في مهرجان باكوالسينمائي
السابع
مع تنويه خاص بموهبة الكاتب والمخرج والممثل فاسيلي شوكْشِن.. مع أن إدارة
المهرجان
لم تكن تمنح الجائزة الأولى فيما مضى للحفاظ على مستوى وسمعة عالية
للمهرجان. إلا
أنها خرقت القاعدة بعد عرض فيلم « العناقيد الحمراء».
لقد كلّف فيلم «العناقيد
الحمراء» فاسيلي شوكْشِن الكثير من صحته وعافيته.. إذ تعرض للقرحة المعدية
أثناء
التصوير.. ثم اضطر للهروب من المستشفى عندما بدأ مونتاج الفيلم
بسبب خشيته من تشويه
الفيلم من قبل الرقابة.. فقام بتصحيح الملاحظات بنفسه رغم آلامه المبرحة
والتي راحت
تتكرر كل ساعة أوساعتين.
وفاة لحظة التحليق
لقد دشّن فيلم « العناقيد
الحمراء « سلسلة من النجاحات في السنة الأخيرة من حياة شوكْشِن. فبعد
النجاح الباهر
سواء على المستوى الجماهيري أو الرسمي للفيلم , صدرت مجموعته القصصية «
طِباع»، كما
قام المخرج المسرحي المعروف توفستونوغَف بوضع مسرحية على أساس نص شوكْشِن «
أناس
نشطون « على خشبة المسرح الدرامي الكبير في موسكو. حتى الجانب
الشخصي كان موفقاً إذ
انتقلت العائلة إلى شقة جديدة. كما راح بوندارتشوك يتابع مساعيه لانتزاع
الموافقة
اللازمة لإنتاج « ستيبان رازِن ».. ولكنه اقترح على شوكْشِن الموافقة
مبدئياً على
لعب دور لوباخين في فيلمه الجديد «لقد قاتلوا في سبيل الوطن »
(المأخوذ من رواية
بنفس العنوان للكاتب السوفييتي شولوخَف الحائز على جائزة نوبل).
جرى تصوير
المشاهد والمعارك في منطقة الدون.. ومع نهاية أيلول وبينما كان شوكْشِن مع
زميليه
الممثلين غيورغي بوركوف ويوري نيكولين ينتظرون في غرفة المكياج
أخذ شوكْشِن علبة
سجائر فارغة ورسم عليها لوحة ما..
ـ ماذا ترسم ؟ سأله بوركوف
ـ ها...
سماء.. ومطر.. على العموم جنازة.
ـ آه , دعك من هذا ـ قال له بوركوف.
ـ
أشعر بأن مصيبة ستحلّ.. أردف شوكْشِن.
في اليوم التالي اتصل شوكْشِن بموسكو
وتحدث مع ابنتيه, ثم ذهب مع بوركوف إلى الساونا وبعد ذلك ذهبا ليشاهدا
مباراة
بالهوكي على الجليد بين الاتحاد السوفييتي وكندا. وفي الساعة الرابعة
صباحاً خرج
بوركوف من غرفته (كان الممثلون يعيشون على باخرة ترسو في
النهر) ليرى شوكْشِن
قابضاً على ناحية القلب. لم يكن يوجد طبيب في تلك الليلة.. كان شوكْشِن قد
تناول
فاليدول (عقار مضاد للتشنج القلبي كان شائعاً جداً في صيدليات الاتحاد
السوفييتي)
دون أية نتيجة.. وجد بوركوف عند أحدهم نقاط
زيلينين (مركب آخر ضعيف للتخفيف من آلام
الذبحة الصدرية).. فشرب شوكْشِن القارورة بكل ما فيها وذهب إلى
غرفته.
حوالي
الساعة التاسعة صباحاً وجدوا فاسيلي شوكْشِن ميتاً. نقل الراحل إلى موسكو
وكانوا
يريدون دفنه في مقبرة متواضعة لكن بوندارتشوك ألحّ على دفنه في
مقبرة نوفوديفتشي
وتدخل لهذا الغرض لدى رئيس الوزراء آنذاك كَسيغين.
)كاتب
سوري(
السفير اللبنانية في
03/07/2009 |