كان من أحد تداعيات الأحداث الأخيرة في إيران، أو ما بات يعرف
"بالثورة الخضراء"، هو أن تجدد الطلب بضرورة إسقاط الرقابة على الأفلام
والإنتاج السينمائي الإيراني، وهو الذي يحتل المرتبة الثالثة على مستوى
العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية والهند.مطالب المخرجين والمنتجين
السينمائيين لم تؤيد وتتضامن مع مطالب المرشح الإصلاحي الخاسر "مير حسين
موسوي"، بل حاولوا انتزاع مكاسب جديدة بحيث جعلوا مطالبهم على صفيح ساخن.
غير أن الأهم برأي المراقبين والنقاد هو أن السينما الإيرانية ذاتها
وتطورها وواقعها ومحاولات السينمائيين التغلب على واقعهم تنبأت بما يجري
حاليا بالشارع الإيراني من أحداث عنف ومظاهرات ومطالب بالإصلاح.
انخراط بالدعاية
المخرجون كانوا منذ البداية في حمى الحرب الدعائية للمرشحين في
الانتخابات، فمثلا قام المخرج "جواد شمقدري" بإخراج فيلم لنجاد ليكون وسيلة
يعرض فيها للشعب الصورة الحقيقية لنجاد، وكونه أفضل من يمكن أن يمثل الشعب
في السنوات القادمة، في حين قام المخرج والمنتج "مجيد مجيدي" بإنتاج فيلم
مماثل للمرشح "مير حسين موسوي".
وعلى الرغم من أن هذا الفرز من قبل بعض المخرجين كان قد واجه اعتراضات
من سينمائيين ومخرجين على اعتبار أنه نوع من التجارة بالفن وتسخير الفن
السابع لتحقيق أهداف سياسية وانتخابية، فإن حمى الأحداث الأخيرة دفعت
بقطاعات واسعة من أصحاب الفن السابع إلى الانحياز للإصلاحيين وتبني رؤيتهم
ومحاولة استثمار ما جرى لتحقيق مكاسب تتمثل في الإفلات من قبضة القيود التي
فرضها أحمدي نجاد في ظل العلاقة المتوترة بينه وبين عموم السينمائيين منذ
عام 2005.
وهو ما جعلهم يصطفون وينخرطون في المعركة الدعائية، ومن بعدها في
معركة رفض نتائج الانتخابات، سواء المتواجدين منهم في داخل إيران أو أولئك
الذين يتواجدون خارجها.
وأحد أهم الأصوات كان المخرج الكبير "محسن مخملباف" المقيم في باريس،
صاحب فيلمي الفلسفة والجنس، وصراخ النملة، وكذلك ابنته "سميرة مخملباف"
المقيمة في فلندا، وصاحبة فيلم "الطفل الحصان" الذي يتناول الفروق الطبقية
بين الأغنياء والفقراء في إيران.
وبدا كل من محسن وسميرة وكأنهما متحدثان باسم "موسوي" في خضم الأحداث
الأخيرة، وهو ما جعل من موسوي نفسه أن يطلب من سينمائيي إيران في بلاد
المهجر رفضهم لنتائج الانتخابات الأخيرة.
وهو ما يدلل على أن ذلك الرفض أو الاحتجاج له قيمة كبيرة على المستوى
السياسي، سواء داخليا أو خارجيا، فالسينما الإيرانية منذ نشأتها تتقاطع مع
السياسة وتتأثر بها وتؤثر فيها، وتشكل صورة عن إيران ذاتها في العالم كله.
المخرجون التسجيليون أيضا انخرطوا في الصراع الدائر؛ حيث قام مخرجو
الأفلام التسجيلية بإصدار بيان أكدوا فيه أن "وظيفتهم هي البحث عن الحقيقة،
محذرين من نهج إخفاء الحقائق"؛ حيث وقع على البيان 113 مخرجا وسينمائيا
طالبوا فيه بـ"وقف عقود طويلة من الرقابة".
ويرى البعض أن طرق فهم تصرف السينمائيين الإيرانيين وانحياز أغلبهم
للمرشح الإصلاحي مبعثه الواقع السينمائي الذي تكرس خلال فترة حكم أحمدي
نجاد؛ حيث اتسمت العلاقة بالتوتر والعداء، وهو ما جعل السينمائيين
الإصلاحيين ينتفضون لتحقيق فك قبضة القيود الرسمية على عملية الإنتاج
السينمائي في ظل تحكم المحافظين عليها.
تنبؤ بالثورة
إن نظرة عميقة للسينما الإيرانية وتاريخها تجعلنا نكتشف أنها لم تكن
فقط مرآة للمجتمع الإيراني، بل يمكن القول إن السينما تنبأت بالأحداث
الحالية ليس بشكل مباشر, فالرحلة التي مرت بها هذه السينما في مواجهة
الرقابة الصارمة والحظر والمنع ونفي بعض القائمين عليها، وسجنهم في بعض
الأحيان إلى أن عبرت الحدود وحققت النجاح العالمي المشهود يشبه إلى حد كبير
ما يحدث الآن على المستوى السياسي.
فقد كان للرقابة الصارمة على السينما والسينمائيين منذ قيام الثورة
الإسلامية دور شديد الإيجابية في أن يكون للسينما الإيرانية مذاقها الخاص
المتفرد من خلال خلق القائمين على السينما لغة بصرية ورمزية شديدة الخصوصية
للالتفاف حول تلك الرقابة وتجنب الاشتباك معها، مما لفت أنظار العالم كله
إلى السينما الإيرانية، ونالت أرفع الجوائز في أهم المهرجانات العالمية،
مثل مهرجان كان ومهرجان فينيسيا وبرلين وغيرها؛ حيث حصلت الأفلام الإيرانية
على أكثر من 300 جائزة دولية.
فالسينما الإيرانية في بداياتها، قبل الثورة تحديدا، بدت متأثرة
بالسينما الهندية، ومن ثم بدأت تأخذ خطا مستقلا لها يعبر عن شخصيتها
المستقلة، وإن كان هناك ضغوط من الدولة للاتجاه نحو العصرنة، وإظهار إيران
بشكل عصري منفتح على الغرب، وقد كان هذا تحديدا في فترة الستينيات؛ حيث
ظهرت موجة جديدة من المخرجين الإيرانيين الذين ابتدعوا تقنيات جديدة في
السينما ولم يخشوا من النقد الاجتماعي.
ومن أهم أفلام هذه الفترة فيلم "البقرة" 1969، الذي أخرجه داريوش
ميهرجيو، فقد أسس هذا الفيلم الذي صور بأكمله في قرية إيرانية لمنهج
الواقعية الجديدة الذي نادت به السينما الإيطالية، وهي المدرسة التي
سيتبعها أهم مخرجي إيران فيما بعد، منع هذا الفيلم من العرض أيام الشاه،
لأنه -على حد زعم الرقابة- يتعارض مع صورة إيران العصرية، لكنه هرب إلى
الخارج، وعرض في مهرجان البندقية عام 1971، ولقي احتفاء واسعا من قبل
النقاد.
ومع وصول الخميني للحكم كانت السينما صناعة كبرى في إيران، ففي عام
1977 كانت إيران واحدة من أكبر أربع دول منتجة للأفلام السينمائية مع
الولايات المتحدة والهند وفرنسا، وكانت الأفلام السينمائية الإيرانية تشارك
وتفوز بالجوائز في المهرجانات العالمية، مثل كان وبرلين وشيكاغو وموسكو،
وكان عدد العاملين بالسينما الإيرانية يبلغ 40 ألف شخص، وكان هناك حوالي
900 دار عرض سينمائي في إيران، وكان بطهران وحدها 88 دار عرض، أي أكثر مما
يوجد في لندن اليوم، وكانت السينما واحدة من أهم عشر صناعات في القطاع
الخاص الإيراني.
وخلال فترة حكم الخميني تم تجريد أصحاب دور العرض السينمائية من
ملكياتهم ومنع حوالي 80% من الممثلين والممثلات من العمل؛ حيث اتهم ملاليو
الثورة السينما بأنها إحدى أدوات الاستعمار الثقافي الغربي لإيران، وكانت
هدفا مفضلا للسخط الثوري، وأصبحت دور السينما هدفا للهجمات الخمينية،
وبحلول عام 1979 تم تدمير 180 دار عرض سينمائي من قبل الثورة الإيرانية.
كما فرضت الرقابة المشددة على السينما أمام استحالة القضاء على صناعة
السينما بين عشية وضحاها، فمن عام 1979 إلى 1984 لم يسمح إلا بإنتاج حوالي
25% من الأفلام التي تم تقديمها للرقابة كسيناريوهات للإجازة، وبعدها منع
حوالي 1958 فيلما من مجموع 2208 أفلام تم إنتاجها في تلك الفترة.
غير أن الهروب من مقص الرقيب ساهم في منح السينما الإيرانية لغتها
الخاصة، فأغلب الأفلام الإيرانية مثلا تحتوي على حوار أقل وتركز على الحوار
البصري؛ لتجنب المشكلات حول التعبيرات والكلمات، كما أصبحت أغلب الأفلام
تدور في القرى؛ حيث لا يوجد الملالي، وكذلك كان التركيز على الأماكن التي
توجد بها أغلبية سنية مثل طاليش وكردستان وسهل تركمان بلوشستان، ولهذا نجد
مثلا أن الفيلم الشهير «اللوحة السوداء» لسميرة مخملباف تم تصويره في قرية
إيرانية لا تتحدث الفارسية، وكان ذلك وسيلة للهروب من الرقابة، وكذلك كانت
الاستعانة بالأطفال في الأفلام، فالطبيعي أن الأطفال ليس لديهم توجهات
سياسية.
السينما الجديدة
ومنذ بداية التسعينيات وحتى منتصف العقد الحالي اجتذبت أعمال صناع
الأفلام الإيرانيين اهتمام النقاد ومحبي السينما ولجان التحكيم في
المهرجانات في جميع أنحاء العالم، في الوقت الذي دخلت فيه الثقافة
السينمائية الإيرانية الثرية التي مرت بمرحلة طويلة من الخمول في ظل الثورة
الإسلامية والحرب الطويلة مع العراق مرحلة مميزة من إعادة التجدد.
وقد حقق مخرجان على وجه التحديد، وهما عباس كيارستمي ومحسن مخملباف،
شهرة عالمية بفضل أفلامهما التي تتناول الحياة الإيرانية بعمق وتكثيف
شديدين.
وكان محمد خاتمي في منصب وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي (بين عامي
1989 و1992) يشجع على التوسع في إنتاج الأفلام، وجاء انتخابه للرئاسة في
عام 1997 بعد أقل من أسبوع من فوز كيارستمي بالسعفة الذهبية مناصفة في
مهرجان كان عن فيلم «مذاق الكرز»، وكان هذان الانتصاران يمثلان شعاعا من
الأمل للمثقفين والسينمائيين في أن تصبح إيران أكثر ليبرالية وعالمية، ولكن
فترة خاتمي في الرئاسة تميزت بالإحباط الذي أصاب الطموحات الإصلاحية أكثر
من تنفيذها، وجاء المحافظون من جديد إلى الرئاسة ممثلين في أحمدي نجاد.
وعلى الرغم من التضييق الشديد الذي يفرضه أحمدي نجاد على السينما
المستقلة الحقيقية التي تعبر عن الواقع وحظره عرض أفلام المخرجين
الإيرانيين الكبار داخل إيران وتبنيه للسينما الدعائية التي تمجد الثورة
ورجالها وجنودها وتظهرهم على أنهم أبطال لا يخطئون، استمرت السينما
الإيرانية في الإثمار وبرز مخرجون شبان، أمثال جعفر بناهي، تلميذ كيارستمي
وسميرة ابنة مخملباف، بأعمال كانت توجه النقد بصورة مباشرة للظروف
الاجتماعية الإيرانية أكثر من أسلافهم، وتحول تركيز الأفلام من الريف إلى
المدن ومن الأطفال إلى النساء والمحاربين القدامى واللاجئين والفقراء.
تلك الرحلة من عدم الاستسلام والمقاومة الإبداعية كان جرس إنذار لم
يتنبه له النظام الإيراني، جرس الإنذار كان يحمل رسالة مفادها أنه لا يمكن
أن تقتل الإبداع، وما حدث على المستوى السينمائي كان من الممكن أن يحدث على
مستويات أخرى، أولها المستوى السياسي الذي كان السينمائي فاعلا فيه بحق،
وهو ما نراه في حراك السينمائيين الإيرانيين ومساندتهم للشارع وقوى
المعارضة التي مهما اختلفنا معها فإن لمواقفها الحرة هذه تحية واحترام.
من أسرة إسلام اون لاين
إسلام أنلاين في
06/07/2009 |