هناك تعبير نستخدمه فى مصر كنت أتصوره عاميا فاكتشفت أنه فصيح، لكن
الاكتشاف المثير للمرارة أنه يصف جانبا كبيرا من طريقتنا الراهنة فى
الحياة، هذا التعبير هو أن نقول إن شيئا "كَرَف" على الأشياء الأخرى بمعنى
أنه نقل إليها رائحته فأفسدها، ضع البصل على سبيل المثال فى خزانة مع العسل
والتفاح واتركها تتخزن طويلا، مثل أحوالنا جميعها الموضوعة فى مخزن مهمَل
مظلم منذ وقت طويل، وسوف تجد أن طعم البصل ورائحته قد طغت على كل الأشياء.
وهذا ما يحدث لنا الآن، حيث أرى الشيخوخة تدب فى كل نواحى حياتنا وقد
"كَرَفت" على كل شيء، وسادت حالة من الكسل التى تصل إلى درجة البلادة، فى
الحكومة والمعارضة والاقتصاد والرياضة والصحافة والفن وحتى العلم، لم يعد
هناك طموح، ولم تعد هناك مراجعة لما وصلنا إليه، وإذا فعلت لوجدت نفسك
متهما بجلد الذات!! هناك حالة من الرضا حتى بالجهل، وكأننا تعودنا على
الظلام ولا نريد أن نرى النور، وربما نخاف منه أيضا. وإذا أردت مثالا قد
يبدو ثانويا، وإن كانت له دلالته إذا طبقته على النواحى الأخرى، فقل لى
بالله عليك أين يحدث فى أى بلد فى العالم تتداول الصحافة الفنية تعبيرات
مثل "الزعيم" و"البطولة المطلقة"؟ كيف يمكن ترجمة هذه التعبيرات إلى أى لغة
أخري؟! واستحالة هذه الترجمة تؤكد لك أن هذه التعبيرات لا تدل على مفاهيم
أو دلالات محددة.... إنها تعبيرات مثل "الحوار المجتمعي" و"تمكين المرأة"
و"الاستهداف الجغرافى للفقر" التى تروجها الدوائر السياسية الحاكمة
والمتحكمة!!
إن تداول مثل هذه التعبيرات الفارغة من المعنى امتد حتى إلى بعض
الكتابات النقدية حول الأفلام، تأمل على سبيل المثال كيف قام المخرج يسرى
نصر الله فى فيلمه السابق "جنينة الأسماك" بالحديث إلى الصحافة، فقال إن
فيلمه يدور حول "البوح"، يعنى "الفضفضة" بكل ما فى النفس، بما يذكرك بقول
الشاعر صلاح جاهين: "دا اللى مايتكلمش ياكُتْر هَمّه"، فإذا بمعظم المقالات
تذكر التعبير ذاته: "البوح" وليس أى تعبير آخر، مع أننى أعترف أننى لم أفهم
الفيلم، ولم أجد فيه أثرا مما تحدث عنه المخرج، وهذا ما يتكرر الآن مع
فيلمه الأخير "احكى ياشهر زاد"، الذى قال عنه إنه يتناول "سيطرة المجتمع
الذكوري"، وأراهنك من الآن أنك سوف تجد هذا التعبير فى عشرات المقالات التى
سوف تقرأها عن الفيلم، خاصة أن كاتبه هو وحيد حامد الذى اشتهر بأنه "يحطم
التابوهات" (وتلك عبارة أخرى نرددها دون أن نحدد معناها)، فمن إذن سوف يجرؤ
على انتقاد الفيلم، الذى إذا عرضته بدون اسمى كاتب السيناريو والمخرج لوجدت
نفسك أمام عمل فنى يتسم بقدر هائل من الضعف، سواء على مستوى الشكل أم
المضمون؟!
بالطبع سوف يصبح اسم الفيلم ذاته مغريا للتحليل واستخراج الدلالات إلى
درجة التعسف، فأنت تعرف أن شهر زاد هى الزوجة الحسناء للملك شهريار، التى
ظلت تحكى له حكاية بعد حكاية، وحكاية داخل حكاية، حتى تثير شوقه إلى معرفة
الأحداث التالية، ما سوف يجعله يؤجل قطع رأسها كما فعل مع كل زوجاته
السابقات. إنه "إطار" سردى يسمح بالاستطراد إلى عشرات القصص، سوف أترك تأمل
مضمونه إلى جزء لاحق، لكن على مستوى الشكل يعنى أنه إذا لم تكن حكايات شهر
زاد مصاغة بقدر هائل من التشويق وإحكام الحبكة فإنها كانت ستواجه الموت منذ
الليلة الأولى، لكن الأمر يأتى على العكس تماما فى فيلم "احكى ياشهر زاد"،
الذى ينضح من المشهد الأول حتى المشهد الأخير بالملل، ويخلو تماما من أية
"حبكة" سواء كانت محكمة أو فضفاضة، ولك أن تتخيل ـ على سبيل المثال ـ أن
المشهد الافتتاحى، الذى يفترض أنه المشهد التأسيسى الذى يؤسس للدراما كلها،
هذا المشهد يمكن حذفه بل إن المتفرج ينساه تماما بعد ذلك!! إليك هذا
المشهد: الكاميرا تتحرك بشكل غامض لتفتح باب شقة، وتتجول فى أنحائها،
وتتأمل الصور على الجدران، وتقوم بتشغيل الأجهزة (!!)، وتضيء الأنوار
وتطفئها، بينما يحرك الهواء الستائر، وتتصاعد أصوات غامضة تأتى من حيث لا
ندرى، حتى ينتهى الأمر إلى أن ذلك كان كابوسا للبطلة هبة (منى زكي) التى
تستيقظ من نومها فى فزع. ظللت طوال الفيلم أنتظر تفسيرا لوجود هذا المشهد
فلم أجد، وهكذا تدرك منذ اللحظة الأولى أن الفيلم يفتقر إلى "البناء"، لأنك
تستطيع أن تحذف مشهده الافتتاحى دون أن تفتقد شيئا!
إليك الآن العلاقة المركزية فى الفيلم: إن البطلة هبة مذيعة تليفزيون
صاحبة برنامج يحمل عنوان "نهاية المساء وبداية الصباح"، يقولون إنها تناقش
فيه أفكارا سياسية جريئة، مع أن المتفرج لن يرى أثرا ولو باهتا لهذه الجرأة
السياسية المزعومة، المشكلة الآن هى أن هبة متزوجة ـ للمرة الثانية فى
حياتها ـ من الصحفى كريم (حسن الرداد) وتحاول الإبقاء على هذه الزيجة، لكن
كريم الطموح يجد من المسئولين من يلوِّح له، صدقا أم كذبا، بأمل أن يكون
رئيس تحرير، بشرط أن تتوقف زوجته هبة عن تناول قضايا سياسية، وإذا تغاضت عن
أن السلطة لها وسائلها لقتل برنامج تليفزيونى (هل تحتاج إلى أن أضرب لك
أمثلة؟!)، فإن المقصود هنا من صناع الفيلم أن يستخدم "الرجل" سلطته
"الذكورية" على "المرأة" (معادلة رياضية، أليس كذلك؟!)، وأرجو أن تتأمل
نصيحة المسئول الكبير لكريم بما تحمله من تلاعب لفظى وإيحاءات جنسية:
"هدِّيها بدل ما هى هايجة علينا"، وبالفعل فإن كريم يحاول احتواء زوجته
بمغازلاته ومداعباته، وتكون النتيجة اقتناعها بالتحول فى برنامجها من
القضايا السياسية إلى القضايا الاجتماعية التى تدور حول "أحوال المرأة"،
لكى تكتشف سريعا (وإن يكن متأخرا جدا) أن "كل شيء سياسة"، وهو قول لا يمكن
أن يختلف عليه أحد، لكن أرجو أن تبحث عن "السياسة" فى النماذج التى
اختارتها هبة، أقصد اختارها صناع الفيلم.
فبدءا من تلك اللحظة سوف يعرض لك الفيلم "عينات عشوائية"، بالمعنى
الحرفى للكلمة، من قضايا المرأة كما يراها الفيلم. البداية (ويمكن أن تكون
النهاية أو أن تستغنى عنها تماما) مع امرأة يطلقون عليها فى الفيلم، لسبب
لا أدريه، سلمى حايك المصرية (فاطمة الناصر)، التى تقول عن نفسها فى جملة
تقريرية: "أنا مقسومة اتنين"، فهى فى الصباح تعمل بائعة متبرجة فى محل
لأرقى العطور، بينما تعود إلى منزلها فى الحى الشعبى فى المساء وقد ارتدت
حجابا لتمضى فى شوارع يملؤها الدخان والقمامة. إن تلك الشخصية كانت جديرة
بأن تكون بطلة الفيلم، إذا كان الفيلم جادا حقا فى تناول قضية الفصام التى
يعانى منها المجتمع فى مصر الآن، لكن الشخصية تظهر سريعا وتختفى سريعا،
فكأنها لم تتواجد إلا لكى "يستخدمها" صناع الفيلم ليضعوا على لسانها بعض
العبارات الساخنة، لينتقلوا سريعا إلى القضية التى تهمهم: العلاقة الجنسية
بين الرجل والمرأة.
وكما ظهرت هذه الشخصية لتؤدى هدفا محدودا دون أن يكون لها "وجود" فنى
وواقعى حقيقى، فسوف تتوالى الشخصيات الأخرى جميعها، فى نمر تدور حول
"هواجس" العلاقات الجنسية، التى تكاد تخلو من أى أبعاد اقتصادية واجتماعية،
وسياسية أيضا إذا صدقنا زعم الفيلم أنه يرفع شعار أن "كل شيء سياسة". هناك
ثلاث حالات يعرض لها الفيلم (ويمكنك أن تقدم حالة على أخري)، الأولى هى
أمانى (سوسن بدر) العانس التى قررت ألا تتزوج وتكتفى "بملاعبة نفسها" (كما
يقول الفيلم) لأنها لم تجد رجلا يحبها، والدليل على ذلك هو الخطيب الثرى
اللزج أحمد درويش (حسين الإمام) الذى يتصور أن الزواج يعنى أن يأخذ الرجل
كل شيء مقابل أن "ينام مع زوجته" (مرة أخرى، هذا مايقوله الفيلم). الحالة
الثانية هى وفاء (رحاب الجمل) التى مات أبوها وترك لها الأختين صفاء (نسرين
أمين) وهناء (ناهد السباعي) بلا رجل يحميهن، بينما هناك فى المحل الذى
ورثنه العامل الشاب سعيد الخفيف (محمد رمضان)، ولسبب غامض ما فإن أحدا لا
يتقدم للزواج بأى منهن، فتتحول العلاقة على الفور بين البنات الثلاث
والعامل إلى علاقة جنسية، تخفيها كل منهن عن الأخرتين، مع وعد لكل منهن من
الشاب بالزواج، وعندما تتكشف الحقيقة تقوم الأخت الكبرى وفاء بقتل وحرق
الشاب لتدخل السجن. ثم نأتى أخيرا إلى قصة الطبيبة ناهد (سناء عجرود)، التى
يتقدم للزواج منها الخبير الاقتصادى الدكتور أدهم (محمود حميدة)، لتقيم معه
علاقة جنسية (أيضا!!) قبل الزواج فتحمل منه، ولتفاجأ بأنه يساومها على عدم
فضيحتها، وتكتشف أنه صياد للنساء من أجل ثرواتهن، فى الوقت الذى يعين فيه
وزيرا (!!)، لتسير ناهد فى الشارع وهى ترفع لافتة تتساءل فيها عن طريقة
اختيار الوزراء ما يعرضها للمضايقات الأمنية. (شايف السياسة؟!! وكأن هذه
الحدوتة الملفقة تدعو المتفرج حقا للتفكير فى طريقة اختيار المسئولين.. إن
لدى المتفرج معلومات أكثر خطرا ألف مرة من تلك التى يقدمها له الفيلم!!).
وينتهى الفيلم بعدم تعيين كريم رئيسا للتحرير، فيعزو الأمر إلى برنامج
زوجته، فيضربها ضربا مبرحا، وتظهر البطلة هبة فى البرنامج على الشاشة وقد
أثخنتها الجراح.
أقول إن الفيلم لو لم يحمل اسم وحيد حامد لوجد فيه النقاد نقاط ضعف
كثيرة، لعل أهونها هى تلك الصورة السينمائية شديدة التسطيح للرجال الذين
يظهرون جميعا على أنهم أشرار، بينما النساء هن الضحايا، بينما لا أفهم على
سبيل المثال كيف يمكن أن تكون البنات الثلاث غير مشتركات فى ارتكاب هذه
العلاقة المشوهة ولسن ضحايا لها فقط، ولا كيف رضيت الدكتورة ناهد بصفقة
زواج بالملايين لتكتشف أنها تلعب لعبة قمار مع نصاب محترف (ودعك من اختياره
وزيرا، فتلك ليست إلا مزايدة سياسية بلا دلالة)، وحتى العانس أمانى ترد على
الخطيب اللزج الذى يتحدث عن "النوم معها" بأن تقول فى فجاجة: "وأنا من حقى
اختار الراجل اللى أنام معاه"، وكان الأجدر بها إن كانت امرأة ناضجة الوعى
كما يزعم صناع الفيلم أن تقول إن من حقها أن تختار الرجل الذى تريد أن
"تعيش معاه".
لكن تلك هى بالضبط بؤرة رؤية صناع الفيلم للعلاقة بين الرجل والمرأة
على أنها علاقة جنسية خالصة، وهو ما يتجسد فى النماذج الثلاثة التى
اختاروها للنساء، وبدلا من أن يرفع الفيلم من شأن المرأة ككائن إنسانى فإنه
يختزلها بدوره إلى كائن جنسى، ويصبح الفيلم ذاته تجسيدا للرؤية الذكورية
التى يقول إنه يهاجمها، بل إنه يجهل أن "ألف ليلة وليلة" تحتشد فى كل
سطورها وحكاياتها بنزعة ذكورية مفرطة، حتى أنه يمكنك أن تعتبرها تعبيرا عن
اللاوعى الجمعى فى التراث العربى لنظرة الرجل إلى المرأة.
من ناحية الشكل السينمائى فتلك هى التوليفة السهلة التى استمرت مع
سيناريوهات وحيد حامد منذ "كشف المستور" وعبر "معالى الوزير" و"ديل السمكة"
و"عمارة يعقوبيان"، فى البناء الذى يعتمد على فقرات تشبه المسلسلات المتصلة
المنفصلة، إنك تستطيع أن تشاهد أى حلقة قبل الأخرى، ولا تشاهد حلقة منها
فلا يفوتك شيئا، برغم أن البناء ذا الفقرات شديد الصعوبة ويحتاج إلى جهد
فائق (يبدو أن نجومنا فى كل المجالات لم يعودوا مستعدين لبذل أى جهد،
فنجوميتهم تكفي!!)، وأرجو أن يقارن القارئ هذا البناء فى فيلم لوى بونويل
"شبح الحرية"، فكل فقرة تقود إلى الأخرى ولا تستطيع تبديل أى منها. من جانب
آخر فلا ندرى كيف تروى شخصية فى "فلاش باك" مشاهد لم تكن هى ذاتها موجودة
فيها، كما حدث مع وفاء بينما رأينا على الشاشة مشاهد العلاقة السرية بين
العامل وشقيقتيها!!
إن فيلم "احكى ياشهر زاد" هو وجه العملة الآخر من السينما المصرية
السائدة الآن، فإذا كان الصخب يطغى على معظم الأفلام فإنك سوف تجد هنا درجة
كبيرة من الرتابة، وبطء الإيقاع لا يصبح تأملا بل مللا إذا كانت الصورة
والدراما تخلوان من دلالات متضمنة تحتاج من المتفرج أن يشارك فى التفسير.
وإذا كانت الأفلام السائدة الآن تخلو من الرسالة (أو تحشرها حشرا)، فإن
الرسالة هنا تصبح مجرد عبارات تصلح فى مقال صحفى لأنها لا تتجسد فى سينما
تترك أثرها فى المتفرج. إننى أسأل نفسي: أى انطباع سوف يخرج به المتفرج من
الفيلم؟ هل كشف له عن أن القهر يقع على الرجل والمرأة معا فى السياق الذى
نعيشه؟ هل حقق الفيلم رغبة بطلته حين قالت: "عايزة أشوف بنى آدمين
حقيقيين"؟ أم أنه اختار عينات تدور جميعها حول "الجنس" بين الرجل والمرأة؟
لقد تصادف قبل أن أشاهد الفيلم مباشرة أننى قرأت قصة قصيرة لخيرى شلبى
بعنوان "أكل العيال"، أرجو أن يقرأها صناع الفيلم ليعرفوا المعاناة
الحقيقية للشعب المصرى، والمرأة على نحو خاص، التى تتحمل ماهو فوق طاقة
البشر لتمسك دفة الأسرة فى هذا الطوفان الكاسح الذى نعيش فيه. هذا هو "التابو"
الحقيقى الذى يستحق تحطيمه: لماذا لا يجد الناس، النساء والرجال، حقهم فى
الحياة، المأكل والمسكن والتعليم والعلاج وما يتيح لهم إقامة علاقة جنسية
سوية؟!! أما إذا اختزلنا قهر المرأة إلى البعد الجنسى فهذا يعنى أن هناك
صراعا أزليا أبديا بين الرجل والمرأة، ومثل هذه الصراعات، التى لا نضعها فى
السياق الاقتصادى والاجتماعى والسياسى، تؤكد للمتفرج أنه لن يجد لها حلا
سويا، ولا يبقى هناك إلا حل واحد أترك للقارئ أن يبحث له عن إجابة!!
العربي المصرية في
07/07/2009 |