شاهدته ُيعلق الملصقات على جدران السوق التجاري، كان يحمل سلماً
طويلاً ُيتيح له الوصول الى ارتفاع لا بأس به، تجمع بعض المارة لقراءة ما
تم
تعليقه، إعلان عن فيلم هندي حائز على جوائز عالمية، بطولة شاشي
كابور، اميتاف
باتشان، امجد خان وريتشي، فيلم (العالم في جيبي)، تحدث الكثيرون عن أهمية
هذا
الفيلم وضرورة مشاهدته، كان الاهتمام بالسينما كبيراً في تلك السنوات، كانت
شاشة
العرض كبيرة وأكبر من شاشة التلفزيون الذي لم يكن ملوناً في
تلك الأثناء من
سبعينيات القرن الماضي. تحدث الجيران من اصحاب المحلات التجارية مع ُمعلمي
عن هذا
الفيلم المميز، ومن هنا بدأت علاقتي بالسينما، حيث قررت الذهاب مع اشقاء
معلمي
لمشاهدة هذا الفيلم يوم الجمعة.'
بسبب إكتظاظ القاعة، تم وضعنا على المنصة
الخشبية لمشاهدة هذا الفيلم الهندي، أي أنني كنت استطيع لمس
شاشة السينما القماشية
البيضاء لأتأكد من قدرة آلة العرض السينمائي على تغيير لون الشاشة من اللون
الابيض
الى اي لون يأتي به المشهد الفيلمي، كنت أجلس جانب أبطال الفيلم ويرافقني
بضعة عشر
صبياً ممن لم يستطيعوا الحصول على مقعد في الصالة بسبب الاكتظاظ.
كان لدينا
ثلاثة قاعات للسينما في مدينة نابلس، غرناطة والعاصي وريفولي، صنعت هذه
الصالات
السينمائية مناخاً ثقافياً رائداً في المدينة في وقت لم تمتلك فيه كل عائلة
جهاز
تلفزيون خاص بها، كنا وجيراننا نتشارك في استعمال نفس الجهاز، تجمعنا
والدتنا
وجارتنا في غرفة التلفزيون في المنزل كل يوم الساعة السادسة
مساء، حيث يبدأ البث
التلفزيوني بعرض للصور المتحركة لمدة نصف ساعة، كانت هذه الفترة هي الاهم
من بين
جميع ساعات البث التلفزيوني، أما العروض الفلمية فقد كانت محدودة جداً على
التلفزيون الاردني، كان تلفزيون اسرائيل يمتعنا كل يوم جمعة
بفيلم مصري او لبناني
او سوري، تجلس الاسرة أمام شاشة التلفزيون لمشاهدة الفيلم الاسبوعي، أو ما
أصطلح
على تسميته بفيلم الاسبوع، لم تكن لدينا حينها أي فضائيات او محطات ارضية
أخرى.
تميزت تلك الحقبة من السبعينات وأوائل الثمانينات بموديلات خاصة في
ملبس
الشباب، شعر طويل، بنطلونات عريضة من الاسفل ورفيعة من الاعلى، وقد عادت
هذه الموضه
في السنوات القليلة الماضية ولو بشكل مختلف نسبيا، بالاضافة الى لبس
الأحذية ذات
الكعوب العالية والتي ُتصدر صوتاً مميزا إذ كانت كعوبها مصنوعة
من الخشب فضلاً عن
السوالف الطويلة والكثيفة.
كانت السينما نافذتنا على العالم، كيف لا وقد كنا
نعيش في حصار دائم منذ عام 1967، حصار عزلنا فيه الاحتلال حتى عن أشقائنا
في الضفة
الاخرى والعالم، كنا نشاهد من خلال شاشة السينما كل ما نفتقده
من معان وقيم الحرية
والتحليق في عالم بعيد عن القتل والتدمير.
في الاعياد، يكتظ شارع سينما العاصي
بالمشاة الوافدين من مختلف قرى ومخيمات المدينة، وينتشر على
أطراف الشارع الممتد من
سينما العاصي وحتى سينما ريفولي مرورا بسينما غرناطة عشرات الباعة
المتجولين الذين
يبيعون مختلف الاطعمة من اللحوم التي يتم شواؤها في الشارع الذي تصبح
رائحته مليئة
برائحة المشاوي، أو بباعة الذرة والبزورات، والأهم بائع
المخللات الذي يحلو له
ترويج بضاعته بمقولات أصبحت شائعة في مدينة نابلس، (بيجي عالبال حامض)، إذ
يضع
المخللات في صحن صغير ويقدمه للزبائن الذين يلتهمونه بشهية كبيرة، ونطلب
منه (زيادة
البياع) بعضاً من مرقة المخلل الحامضة طبعاً والتي نستلذ شربها.
وحين ُعرض فيلم
الرسالة للمرة الاولى بعد إنتاجة ووصوله الى مدينة نابلس، إحتشدنا ساعات
طويلة أمام
سينما غرناطة للحصول على تذكرة دخول، إكتظت صالة السينما وشرفتها بنا، تم
وضع
العشرات من الأطفال على الارض لمشاهدة الفيلم وكذلك على كل
درجة من درجات السينما
التي لم يكن فيها أي فسحة لطفل آخر، اصطحبت شقيقي الصغير معي بناءً على
تعليمات
العائلة لمشاهدة فيلم 'الرسالة'، كان طابور المصطفين على البوابة طويلاً،
كان
الحارس قاسياً، أذكر كيف إنقض علي بالشتائم لأنني اصطحب شقيقي
الاصغر الذي لم يبلغ
السادسة من العمر.
تدفقت المدارس تباعاً لمشاهدة فيلم 'الرسالة'، هذا الفيلم
الذي قدم عرضاً قوياً للدعوة الاسلامية لم يستطع أحد تقديم عرض مشابه له
حتى الآن،
وكما ُكتب للسينما في نابلس ان ُتغلق على أيدي دعاة الوطنية،
تم قتل مخرج هذا
الفيلم بأيدي دعاة الوطنية أيضاً في التفجير الاخير في عمان عام 2005.
شاهدت
خلال صباي مئات الافلام الهندية التي كانت تكتسح سوق السينما، بكيت مع كل
من بكى
على مشاهدها المؤلمة والمأساوية، تعلمت منها الكثير من قيم الانسانية
والتعلق
بالعائلة وإحترام الانسان لأخيه الانسان، لكنني انقطعت عن هذه
الافلام حين وصلت
مرحلة من العمر أصبحت قادرا فيها على تلمس نقاط التشابه بين قصص معظم هذه
الافلام
الهندية.
شاهدت مئات أفلام الكونغ فو والكراتيه والجودو، كانت هذه الافلام تحظى
بإهتمام كبير من قبلنا كصبية في مقتبل العمر، كنا نحاول تقمص شخصية الابطال
الذين
يمتلكون هذه المهارات القتالية وحاولنا التشبه بهم قدر
الامكان، ولكن دون جدوى.
كنا نعيش في عالم من الالوان داخل قاعة السينما، كنت أشاهد ثلاثة
أفلام في كل
يوم من أيام العيد، العرض الاول في تمام الساعة العاشرة والنصف صباحاً،
والثاني في
تمام الساعة الثانية عشرة والنصف، والثالث في تمام الساعة الثالثة والنصف
عصراً،
أما العرض الاخير، عرض السادسة والنصف، فقد كان من نصيب العشاق
والعائلات والًخطاب
ومن يستطيعون التأخر عن منازلهم ليلاً.
كانت القاعة تضج بالتصفيق والتصفير الحار
للبطل الذي يظهر في اللحظة الحاسمة، تبكي العيون على مشاهد
كهذه وتقشعر الاجساد
لهولها، إذ لا يظهر هذا البطل الا في اللحظة التي تكون فيها الحاجة إليه
مسألة حياة
أو موت، ففي الليلة الظلماء ُيفتقد البدر. ينهال البطل على الاعداء ضرباً
وقتلاً
وتمزيقاً وسط تصفيقنا وتشجيعنا، كأنه سيسمع أصواتنا أثناء
المعركة، كنا نشعر أننا
جزء لا يتجزأ من المشهد، لم تكن الشاشة صماء، بل كنا جزءً منها، نؤثر فيها
تماماً
كما تؤثر بنا.
كان يسير بين المشاهدين في صالة العرض بائع متجول، ينادي بكلمات
معهودة ومعروفة، أصبحت معروفة ومقتصرةً على البائعين داخل قاعات السينما،
يقول
البائع فيها: (عسيس بارد، عسيس متلج) أي كازوز، او ما أصبح
يسمى لاحقاً بالكولاً،
يقوم هذا الرجل بفتح الزجاجة بحركة رشيقة منه تصدر صوتاً لذيذاً، ويقدمها
لمن
إستطاع شراءها، كنا نأخذ معنا كميات كبيرة من البزر الى السينما ونبدأ
بفصفصته طيلة
فترة العرض، وكثيراً ما وقعت إشتباكات يدوية بين المشاهدين على
خلفية القاء سيجارة
من (البلكون) على الصالة أو قيام البعض بفصفصة البزر وقذفة من أفواههم
مباشرة الى
الامام حيث يجد البزر طريقة على رقاب وأكتاف المشاهدين الذي يجلسون في
المقدمة.
وكثيراً ما كان بعض الشبان يشاهدون الفيلم عدة مرات، كان الجلوس
بجوارهم مدعاة للغثيان والاشمئزاز، إذ يصمت هذا الشاب طيلة العرض ولا يتحدث
الا في
لحظات الذروة، حين تنحبس الانفاس لتعرف ما سيجري، فيتطوع هذا
الشاب، كثير الغلبة،
بالحديث الى من حوله، سواء عرفهم أم لم يعرفهم، يتبرع لطمئنة المشاهدين بأن
البطل
لن يموت رغم سقوطه من الطائرة، لانه سيقع في بركة من المياه، فتذهب جهود
المخرج
هباءً وتضيع قوة المشهد وحلاوته.
شاهدت أفلاماً مصرية كثيرة في سينما غرناطة
التي كانت ُتعتبر الأرقى والاوسع في مدينة نابلس، كانت نساء
حارتنا يذهبن بشكل
جماعي الى السينما، كنت من الاطفال الذين يتم إدخالهم اليها دون بطاقة،
أجلس الى
جانب والدتي وجاراتها لمشاهدة الافلام المصرية، كانت سعاد حسني بطلة الشاشة
المصرية
بينما كانت ميرفت أمين فاتنة الشاشة العربية وملكة جمالها.
أما الافلام
اللبنانية فقد كانت الأجمل، كانت تخاطب العاطفة بشكل أكثر قوة، كانت ُتقدم
مشاهداً
لبلد عرف بسويسرا العرب، بلد يتمتع بحرية فكرية لم تنعم بها دولة عربية
أخرى، أفلام
لسامي كلارك كسرت الدنيا، مشاهد لفتيات لبنانيات لا تقل جرأة
عن أي مشهد يتم تصويره
الآن في هوليوود، كان لبنان ساحة حرة لممارسة الحياة بكافة أشكالها، أذكر
كيف كنا
ننتظر المشاهد التي يتم تعليقها على لوحة الترويج طيلة فترة عرض الفيلم،
وحين يقترب
البطل من تقبيل البطلة، تنحبس الانفاس وتراقب عن كثب ما سيحصل،
وبعد أن يتحدث
البطلان برهة من الزمن، يقترب كل منهما من الآخر لتقبيله، ينقطع المشهد
فجأة فتنهال
الشتائم من كافة الاشكال والالوان على الرجل الذي يعمل في شاشة العرض
السينمائي في
مؤخرة (البلكون) والذي يحصل على نصيب الاسد من الشتائم متعددة
الاشكال التي تطال
أمة وأباه واخواته جميعاً وأنسباءهم وكل من يمت بصلة لهذا الرجل هادم
اللذات.
كانت مواقع ترويج الافلام قليلة، كان أهم المواقع لوحة جدارية في داخل
البلدة القديمة مقابل عين السكر، في حين كانت كل سينما تعلق ورقة بيضاء
كبيرة الحجم
على بابها للترويج لعرض الاسبوع، لم تكن هناك الكثير من نقاط الترويج، لم
تكن هناك
منافسة من قبل التلفزيون او الفضائيات ولم يكن الفيديو قد تم
انتشاره بعد، ناهيك عن
الكمبيوتر والاقراض المدمجة واليو تيوب والانترنت عموماً.
مررت منذ فترة على
أطلال السينما في نابلس، شاهدت ذكريات تم تدميرها، في هذه القاعة شاهدنا
أجمل افلام
الحرب الباردة لجيمس بوند وحرب النجوم، أصبحت قاعات السينما الثلاث في
نابلس جزءاً
من الماضي السحيق بعد أن قامت طيور الظلام بإحراق بعضها والتدخل فيها
وحرمانها من
توفير المناخ الثقافي الوحيد المتاح لسكان المدينة وجوارها،
هذا المناخ الذي حاولت
عدة مؤسسات محلية إعادة إحياءه بعرض بعض الافلام السينمائة بين الفينة
والاخرى.
قد يكون جيل الشباب الحالي من أتعس الاجيال في موضوع السينما رغم
إمتلاكه لفضائيات متعددة، بلغ هذا الجيل قرابة العشرين سنة، قضى أولى سني
عمره في
الانتفاضة الاولى وآخر ثمانية أعوام من عمره ضاعت في الانتفاضة الثانية، لم
يستمتع
هذا الجيل خلال هذه الفترة كلها الا ببعض السنوات من الاستقرار
والهدوء التي لم تكن
كافية لبلورة شخصيته المستقلة ولم يتمكن خلالها من التعرف على التراث
العالمي
والثقافي من خلال السينما، بل تعرف على نمط آخر للحياة المقيدة المقتصرة
على آخر
أخبار القتل والتدمير والعذاب والحصار ومرارة الايام، كبر هذا الجيل بالعمر
ولم يمر
بفترة حياة طبيعية لتنضج معها مشاعره وأفكاره.
قبل عشرين عام من الآن، ُأحرقت
بعض دور السينما في مدينة نابلس، لا لشيء مقنع، سوى لان
السينما تشكل عائقاً أمام
مقاومة الاحتلال، تم حرمان المجتمع النابلسي من أحد أهم مقومات الثقافة
والانفتاح
على العالم، وبدأت مرحلة ظلامية من الانعزال عن العالم.
بعد مرور أكثر من مئة
وعشرة أعوام على تأسيس السينما وإنتشارها في العالم، قمنا بالامس القريب
بإعادة
إفتتاح السينما في مدينة نابلس، تم ذلك في عام 2009 بينما تم إطلاق مشروع
السينما
في العالم عام 1896 وقامت السينما الصهيونية بإنتاج بواكير
أفلامها قرابة عام 1912،
أي قبل قرابة مائة عام، قامت خلالها بتهيئة الرأي العام العالمي لتقبل
الفكر
الصهيوني بينما لا زلنا نتناقش في امورنا الصغيرة.
حاولت إكمال مسيرتي في عشق
السينما حين أنتقلت للدراسة في دمشق، ويبدو أن دمشق كانت
محفلاً هاماً للدفع بإتجاه
عشق السينما، كيف لا وقد كانت دمشق مكاناً للثقافة والادب، تمتعت العروض
السينمائية
للافلام المختلفة في جامعة دمشق ببعدها الثقافي، إذ رافقت تلك العروض
السينمائية
جلسات للحوار يشارك فيها نخبة من المثقفين والمحللين والنقاد،
إنتقلت الى مرحلة
أخرى من إهتمامي بالسينما حين أدركت ذلك البعد الخطير الذي تلعبه في تشكيل
العقول
وبناء الرأي العام، واظبت على متابعة الافلام الثقافية والمهرجانات
السينمائية
الدولية لا لمشاهدة الفنانين فقط بل للتعرف على نتاج السينما
العالمية، ليس فقط
الغربية منها، بل والشرقية أيضاً.
كنا من رواد سينما الشام الكائنة في الصالحية
في دمشق، تمتعت هذه السينما بجوها الجميل ومناخها الثقافي
المحبب للطلبة والفنانين
والمثقفين الذين كانو يحتشدون قبل عرض الفيلم بفترة كافية لتبادل وجهات
النظر حول
الابعاد الاجتماعية لكل فيلم من هذه الافلام ومعالجته لقضية إنسانية تتعلق
بالعدالة
الاجتماعية ومضمونها الانساني، وكثيراً ما وقفوا على باب
السينما بعد إنتهاء العرض
لتبادل وجهات النظر والتعليق على ما شاهدوه وانتقاد الفيلم.
كانت لصديقي هواية
غريبة، إذ كان يقوم بكتابة إسم كل فيلم نشاهده سوياً على التذكرة بالاضافة
الى
تاريخ الفيلم وأسمائنا، كنا نضحك عليه لقيامه بهذه الحركة بعد مشاهدة كل
فيلم، لكنه
كان يقول لنا أن كل شيء سيصبح ذكرى في يوم من الايام، ولا زال
يحتفظ بكمية كبيرة من
التذاكر في بيته حتى الآن، يحلو له ان ينظر اليها بين الحين والآخر ليستذكر
قصصاً
ومغامرات وأحداث مضى عليهاً، كنا نذهب لمشاهدة أحد أفلام السينما في
الليالي التي
تسبق الامتحانات النهائية، بحيث نذهب لمشاهدة فيلم سينمائي
للترويح عن انفسنا، كنت
اجلس وصديقي في فترة الاستراحة بين العروض الفلمية لتسميع ما حفظته من مادة
فلسفية،
كان يدرس الصيدلة لكنه أصبح مهتماً بالشؤون الفلسفية من كثرة حواراتنا
الفكرية
والفلسفية.
وتمر السنوات، وتعود نابلس الى ألقها، ويتم إفتتاح صالة جديدة
للسينما بعد طول غياب بجهود ابناء المدينة، بعد اكثر من عشرين عاماً، لتعود
الحياة
ولو جزئياً الى هذا الجزء المنسي من الوطن، ولتعود الروح الى
الروح بعد أن أهملناها
كثيراً، لندرك أكثر من اي وقت مضى أننا شعب يحب الحياة ويرفض كل ما يرفضها،
نرغب
بالتواصل مع نظرائنا في العالم ولا نحترم العزلة، خاصة تلك التي نفرضها
بأيدينا على
أنفسنا.
''كاتب من فلسطين
القدس العربي في
07/07/2009 |