هل يُمكن القول إن
الأمسية الموسيقية التي أحياها غبريال يارد مساء أمس الأول السبت، في إطار
«مهرجانات
بيت الدين»، انتصارٌ جديد للسينما، وتأكيدٌ إضافي على كونها أم الفنون،
أو بالأحرى «الفن السابع» بامتياز؟ أم ان المناخ الجميل الذي قدّمه الفنان
في حفلته
اللبنانية الأولى تعبيرٌ شفّاف عن قناعة جوهرية، مفادها أن الموسيقى
المندمجة في
صناعة الأفلام السينمائية تبقى فنّاً قائماً بحدّ ذاته، قبل أن
تؤلّف والسينما
عملين إبداعيين مستقلّين ومتداخلين مع بعضهما البعض في آن واحد؟
لا شكّ في أن
هواة الفن السابع مالوا إلى اعتبار الأمسية تفعيلاً لعلاقتهم المتينة
بالسينما، من
خلال الموسيقى؛ في حين أن المقبلين إلى تلك الحفلة الوحيدة
حاملين معهم شوقاً إلى
المشهد الفني المرسوم على شكل فرقة أوركسترالية، وجدوا في لقائهم غبريال
يارد
و«أروكسترا بودابست للحفلات الموسيقية» بقيادة ديرك بروسّي تواصلاً حميماً
بالمعاني
المتفرّقة التي أفرزتها الآلات الموسيقية والأوتار النغمية والأيدي العازفة
لغة
الفنان وانفعاله. وفي مقابل هذين الفريقين، هناك من اكترث
بمسألة واحدة فقط:
الموسيقى، بل المتعة الناتجة من الاستماع إليها، سواء كانت مؤلَّفة خصّيصاً
بالسينما أم لا، إذ بدا أن هذا الأمر لا يعنيهم أبداً. ولعلّ
غبريال يارد، بطلبه من
الجمهور إغماض العيون وابتكار الأفلام الخاصّة بهم في المخيّلة والذات،
بدلاً من
الانسحاق أمام جمالية الصورة وأنغام الألحان المؤلَّفة خصيصّاً بها، اختزل
اللحظة
الجامعة تاريخاً من المعارف والأعمال والصُوَر، براهِنٍ منبثق
من ارتباك اللقاء
الأول بين طرفين تعارفا، سابقاً، عبر موسيقى وأفلام وحكايات عن رجل «اشتغل
على
نفسه» كثيراً، قبل أن يبلغ تلك المرتبة المهمّة في عالم التأليف الموسيقيّ.
استعادات
مع هذا، أميل إلى اعتبار الأمسية إعلاناً جديداً على أهمية
السينما وموقعها الأكبر في المشهد الفني الإبداعي، خصوصاً عند امتزاجها
بألحان
موسيقية وُضِعت خصيصاً بأفلامها. فالأمسية استعادة جميلة لمقطوعات موسيقية
أُلِّفت
لعدد من الأفلام المؤثّرة، لزمن طويل، في الذاكرة (الفردية
والجماعية معاً)، كتأكيد
متجدّد على عظمة السينما القادرة على امتصاص الفنون كلّها وإعادة تصديرها
إلى
الذوّاقة بأشكال مختلفة ومضامين متنوّعة. والأفلام امتدادٌ حيوي لهذه
العلاقة
الوطيدة بين النغم والصورة، من خلال رهافة الإحساس وقدرة
المخيّلة على جعل التأليف
الموسيقيّ للأفلام السينمائية جزءاً أساسياً من عملية صناعة السينما.
والأمسية
نفسها، إذ أُريدَ لها أن تعكس جوهر الإبداع الموسيقي المرتبط بالشاشة
الكبيرة، منحت
الجمهور كلّه فرصة الاطّلاع على «تتمات» لم يستمع إليها أثناء
مشاهدته الأفلام
المختارة لهذه الأمسية على الأقلّ. والسينما، إذ تتيح للإبداع الموسيقيّ
(كما
للإبداعات الأخرى المنصهرة في دائرتها الفنية الأوسع) فرصة التعبير عن
مخزون ثقافي
وتراكم إنساني وموهبة حيوية ومخيّلة بارعة في استنباط المعاني من عمق
الأشياء
والتفاصيل والقصص، أعادت رسم الوعي المعرفي من خلال انفتاحها
على النوتات والسياقات
الموسيقية، كانفتاحها على التشكيل والأزياء والفنون التقنية الأخرى.
لكن، هل
تفاعَل الجمهور كلّه مع السينما، أثناء استماعه إلى شذرات موسيقية،
مُوَلَّفة
بطريقة جمالية لمتعة العين والأذن، بل لشغف الروح المنبثقة من
عمق المشهد السينمائي
إلى فضاء المساحة الموسيقية؟ أم انسحبت مشاعره إلى الموسيقى وحدها، من دون
أن
يتغاضى عن مشاهد مستلّة من أفلام عُزفت مقطوعاتها الموسيقية في تلك الليلة؟
لن يكون
الجواب أهمّ من العلاقة الناشئة، في تلك الليلة لمدّة لم
تتجاوز مئة دقيقة تقريباً،
بين الجمهور والفنان وفرقته الموسيقية، التي عزفت مقطوعات موسيقية خاصّة
بالأفلام
التالية (بحسب البرنامج المقسّم إلى فقرتين): «37 درجة مئوية 2 صباحاً»
(1986) لجان
ـ جاك بينيكس و«القمر في المجرى الصخري» (1983) لبينيكس أيضاً
و«العشيق» (1992)
لجان ـ جاك آنو و«سفر سعيد» (2003) لجان ـ بول رابنو و«جبل بارد» (2003)
لأنتوني
مانغيلا و«كاميل كلوديل» (1988) لبرونو نيوتان و«المريض
الإنكليزي» (1996) لمانغيلا
و«تاتي دانييل» (1990) لإتيان شاتيلييه و«تملّك» (2001) لنل لا بوت
و«السفينة
والفيضانات» (1992) لفرانسوا بل و«السيّد ريبلاي الموهوب» (1999) لمانغيلا
و«تحطيم
ودخول» (2006) لمانغيلا و«أجنحة الشجاعة» (1995) لآنو، بالإضافة إلى
مقطوعات
موسيقية مستلّة من «باليه كلافيغو» (كوريغرافيا رولان بوتي،
عُرضت في مهرجانات
بعلبك الدولية قبل ثمانية أعوام) و«لا رومانا».
إذا أهدى يارد أمسيته هذه إلى
صديقه السينمائي الراحل أنتوني مانغيلا (توفي في الثامن عشر من آذار 2008)،
فإن
حضور الممثلة جولييت بينوش (التي رغبت في مشاركة يارد في حفلته اللبنانية
هذه،
وقرّرت أن تزور لبنان لأربع وعشرين ساعة فقط) والمخرجَين ميشال
أوسلو (الموجود في
بيروت للمشاركة في تظاهرة الكارافان السينمائية التي تُنظّمها «البعثة
الثقافية
الفرنسية في لبنان»، إذ اختير فيلمه «أسمر وأزور» في برنامجها، وهو الفيلم
الذي
ألّف يارد موسيقاه أيضاً) وجان ـ جاك آنو (وصلت بينوش برفقة
آنو إلى قصر بيت الدين
بعد دقائق عدّة على بدء الأمسية، بسبب تأخّر غير متوقّع في موعد وصول
الطائرة إلى
مطار بيروت)، أضفى مسحة من صداقة جميلة أضاءتها الممثلة بابتسامتها
الملتبسة،
ومنحها المخرج زخماً إنسانياً مرهفاً.
حماسة وشغف
في هذا كلّه، تنوّعت
المقطوعات المختارَة وتداخلت المشاهد السينمائية (المنتقاة بعناية واضحة
على
المستوى الموسيقي، إذ جعلها الفنان بداية سينمائية/ موسيقية
لتتمات موسيقية ألّفها
ولم تُستخدَم كلّها في الفيلم) بالعزف الأوركسترالي. بدا واضحاً أن يارد
صمّم
الأمسية الموسيقية بنفسه، كأنه أراد اختبار تجربة فنية متعلّقة بالبحث في
دلائل
مفرداته الموسيقية وتنوّعها ومدى قدرتها على إثارة الحماسة
والشغف في نفوس
المتلقّين. وهو لم يكتفِ بالعزف على البيانو، وبترك فرقة الأوركسترا تقدّم
بعض
روائعه الموسيقية السينمائية (الغالبة جداً على برنامج الأمسية)، لأنه أفرد
مساحة
لعازفَين اثنين ومغنية واحدة، كي يشاركوه فرحته في بلوغ مرحلة بديعة من
العلاقة
بجمهوره هذه، عبر الجمالية الموسيقية الخاصّة بالنتاج
السينمائي، وهما: السوبرانو
غاييل ميشالي، وعازفا الـ«ساكسوفون» لويس موريسون والـ«بوندونيون» خوان جو
موزاليني.
لكن، إذا همدت الحماسة (شكلاً على الأقلّ) أثناء الأمسية، فهل نجح
الشغف في إثارة الجالسين على مقاعدهم، وهم ينظرون إلى إحدى
الشاشتين الناقلتين ما
يجري على خشبة المسرح، بالإضافة إلى مقتطفات من الأفلام المختارة، ويستمعون
إلى
اللغة الفنية التي صنعها يارد؟ فعلى الرغم من العمق الإنساني الكامن في
التأليف
الموسيقيّ؛ ومع أن حفلات أوركسترالية كهذه تتحرّر من صخب
آلاتها أحياناً، أو تندغم
في طيات الصخب ومنعطفاته أحياناً أخرى؛ ظلّت الأمسية، التي تخلّلها كلام
ليارد
أبرزه كامنٌ في تفسير علاقته الموسيقية بـ«العشيق» لآنو (بعد خطابه
الافتتاحي
الطويل بعض الشيء في مناسبات كهذه، والذي يُمكن تبريره برغبة
الفنان في تواصل
إنساني مع الجمهور، قبل أن تصدح الموسيقى في مخيّلة هذا الجمهور)، هادئة
بإيقاعها
الدافئ وفضائها المفتوح على ألف خيال وحلم. أما افتتاح الأمسية بتوزيع
مختلف للازمة
النشيد الوطني اللبناني، فأثار سؤال الحاجة الماسّة إلى تغيير
كلّي لهذا النشيد،
لحناً ونصّاً، إذ بدت آثار يارد عليه جميلة في استنباط ما في داخله من معان
موسيقية
محتاجة إلى التجديد، مع أن الأفضل، في هذه الحالة، كامنٌ في التغيير.
وبعيداً عن
الحسّ الوطني الذي أراد يارد التعبير عنه في بداية الأمسية،
بعد يومين اثنين على
نيله درعاً رئاسية في القصر الجمهوري «تقديراً لعطاءاته في مجال التأليف
الموسيقيّ»؛ وبعيداً عن «تأكيد» غير مبرَّر أطلقه الفنان بقوله
«أنا لبناني» في
بداية كلامه، قبل أن يسرد بعضاً من سيرته الخاصّة؛ شكّلت الأمسية محطّة
ضرورية
ومهمّة للجميع: الفنان أولاً، إذ جعلته يلتقي أناساً عرفوا أعماله
وأحبّوها؛ والناس
هؤلاء ثانياً، إذ منحتهم فرصة لقاء فنان تمتّعوا بموسيقاه
ووجدوا في الأفلام التي
شارك في صنعها موسيقياً أبعاداً إضافية في مضامينها ومناخاتها وأشكالها؛
وإدارة
مهرجانات بيت الدين ثالثاً، إذ حاولت، كالمهرجانات الفنية اللبنانية
الأساسية،
إيجاد توازن متواضع بين الأسماء العالمية والفنانين
اللبنانيين، وإن عرف غبريال
يارد مكانته الإبداعية الدولية بوصفه مؤلّفاً موسيقياً فرنسياً.
السفير اللبنانية في
27/07/2009 |