في لقاء تلفزيوني مع الراحل فؤاد المهندس، سألته المذيعة إن كان
يعرف ممثلا اسمه أحمد حلمي، وكان رد المهندس ضحكة ساخرة لم يستنكرها أحد في
ذلك
الوقت.
الفيلم الأخير 'للنجم' أحمد حلمي هو حلقة جديدة في خط متصاعد يعبر عن
وعي
مختلف، مهموم بواقعه دون ادعاء، فهو وعي متعرف بعمق على هذا الواقع
بمشكلاته
وأزماته الإنسانية والأخلاقية.
يبدأ الفيلم من لحظة عادية في حياة إنسان يمكن أن
نتفق جميعا على أنه عادي، وربما ناجح، بما لا يثير أي تعجب، لكن تحت السطح
يكمن
داخل هذا الإنسان قدر كبير من الأنانية والسطحية والعجز عن
رؤية العالم من حوله.
حتى أقرب الناس إليه لا يعرفهم سوى من خلال أنماط ثابتة لا تبتعد عن السطح
كثيرا.
هذا هو جوهر الرسالة في الفيلم؛ هل أصبح
النمط العادي للإنسان المصري متمتعا بكل
هذا الكم من السطحية في التعرف على العالم والتعامل معه؟ يجيب
الفيلم بـ 'نعم'
كبيرة، لكنه لا يغلق الباب في وجه التغيير أو إمكانية أن يخترق هذا الوعي
السطحي
الصلف تلك القشرة التي تمنعه من رؤية الواقع بطريقة أعمق وأكثر
حميمية.
صحيح أن
الفيلم يعتمد على فكرة مقتبسة من فيلم أمريكي، فكرة أن يتحول الواقع إلى
حلم متكرر،
إلا أنه يحرك الفكرة بسلاسة كبيرة نحو الواقع الثقافي المصري، بكل خصوصياته
ومشاكله؛ نجح الاقتباس في أن يخرج من دائرة الاستنساخ الفارغ
المنبهر بالسينما
الأمريكية.
من ناحية أخرى استطاع السيناريست أن يقدم إيقاعا متلاحقا لا يعطي
فرصة للملل، ويتناسب مع تصاعد وعي الشخصية، كما استطاع السيناريو طرح
البدائل
المختلفة التي يمكن أن يتعامل بها البطل مع أزمته؛ فهو يندهش
وينكر، ثم يحاول تقبل
الأمر وتعديله، ثم يبدأ في اكتشاف ما تحت السطح؛ الأخت والصديق في علاقة حب
عبر
الإنترنت، ويحاولان مصارحة الأخ الصلف بالعلاقة، الأم تستخدم مادة كيماوية
توحي
بأنها مدمنة مخدرات، الأب يبدو مختلسا. هنا تصل أزمة البطل
لذروتها، وتصل المواجهة
بينه وبين قناعاته السطحية إلى لحظة صدام عنيف، فيتحرك بالعنف الذي يليق
بكائن
متعجرف لا يرى أحدا أو يشعر بأحد سوى ذاته. يتكرر الحلم ويتكرر الموت،
وينتقل البطل
إلى مستوى أعمق من الفهم، فيعرف أن العلاقة بين أخته وصديقه هي
علاقة إنسانية
مشروعة وراقية وتسعى لاكتساب المشروعية الاجتماعية، ويعرف أن أمه تأخذ
المادة
المخدرة كمسكن للآلام السرطانية التي أصابتها، وأنها لا تريد الدخول في
دائرة
العلاج حتى لا يؤثر ذلك على التزامات زواج البطل. الأب أيضا
ليس مختلسا وإنما تسرع
في تسوية معاشه، وتسرع في سحب مبلغ المكافأة من الخزينة التي يشرف عليها
قبل يومين
فقط من تسلم المبلغ بصورة رسمية، كل هذا كي يفي الأب بالتزامات زواج البطل
المنكفئ
على ذاته.
فكرة الفيلم تعطي للمتلقين فرصة لا تتاح لهم في الواقع، فرصة أن يمر
الإنسان بالموقف الواحد أكثر من مرة؛ فيكتشف في كل ما حوله الأعماق التي
يخفيها عنه
غروره أو جهله أو تمحوره حول ذاته. يساعد الفيلم المشاهد على
مواجهة وعيه ودفع هذا
الوعي باتجاه الانعكاس على نفسه للتعرف على ما فيه من مشكلات. هنا تصبح
فكرة تغيير
الواقع ممكنة وقابلة للتحقق، فقط عبر مراجعة الذات، ومساءلة الوعي
لنفسه.
الشخصيات في الفيلم كلها لممثلين غير مشهورين، وإن كانوا غاية في
التلقائية والتناسب مع أدوارهم، وكأن اختيار الممثلين هو خط مواز لفكرة
الفيلم، أو
طريقة أخرى للضغط على وعي المشاهد. الممثلون غير محملين بتراث
نفسي لدى المشاهد،
فهم بالنسبة له كائنات نمطية سطحية، كما هو الحال بالنسبة لوعي البطل نفسه،
ثم يحدث
التكشف بصورة مزدوجة؛ ففي اللحظة التي يتعرف فيها البطل على عالمه بعمق،
نتعرف نحن
كمشاهدين بعمق أيضا على هؤلاء الممثلين وعلى قدراتهم التمثيلية
الكبيرة. من زاوية
ثانية يتدرج أداء أحمد حلمي التمثيلي مع تصاعد الوعي بعالمه، حتى يصل إلى
حالة
مدهشة من التوحد مع الشخصية والتمثل الداخلي لها بعيدا عن الأداء الخارجي
المعتمد
على تقلصات الوجه أو حركات الجسد المفتعلة، فيتمكن باقتدار من توصيل أعمق
المشاعر
بأبسط الطرق وأكثرها تأثيرا.
توجه الفيلم إذن يبدو ضاغطا على وعي المشاهد باتجاه
مراجعة واقعه وتعديله، لكني أحسب أن النهاية جاءت على عكس هذا التوجه، فقد
استطاع
البطل أن يغير الكثير دون أن يتمكن من تغيير مصيره المأساوي،
فهو يموت بصورة
رومانسية بعد أن عرف عالمه بعمق وأصبح كائنا جميلا محبا لمن حوله، كأن
النهاية تقول
إن التغيير سيظل محدودا، وأن الحب والتضحية ثمنها الموت بالضرورة. فات
الفيلم أن
يحول لحظة النهاية إلى فكرة رمزية للحياة والموت، فالموت هو
أنانيته وانغلاقه على
ذاته، والحياة الحقيقية هي في رؤيته لمن حوله ومراجعته لقناعاته السطحية،
كان من
الممكن أن يعيش البطل فيكون الموت السابق هو أنانيته، وتكون الحياة هي
رؤيته للعالم
بعمق ومحبته لمن حوله.
في النهاية لا يفوتنا أن نشيد باللغة السينمائية الراقية
بدءا من دقة الملابس والديكورات والخدع، واستخدام الإضاءة والموسيقى
التصويرية
بصورة ممتعة تشارك في تكوين المشاهد دون أي نشاز، وانتهاء
بالإخراج المتمكن؛ بحيث
تتحول مشاهدة الفيلم إلى تجربة تثري الوعي والروح معا. ألف مبروك على
السينما
المصرية هذا الفيلم الجميل، ورحم الله فؤاد المهندس وغفر له.
ناقد من
مصر
ay_bakr69@hotmail.com
القدس العربي في
28/07/2009 |