غطت قناة (الجزيرة) بشكل متميز حدث زيارة الفنان السوري الكبير
دريد لحام إلى غزة. وفي الوقت الذي كانت قناة (الجزيرة مباشر) تستضيف دريد
لحام في
حوار مطول على الهواء مباشرة... استأذن مذيع (حصاد اليوم) في
القناة الرئيسية
زملاءه في (الجزيرة مباشر) من أجل أن يتوقف لدقائق في حوار سريع مع الفنان
لحام بعد
بث تقرير خاص بتغطية الزيارة سبق إجراء الحوار.
أخبار رفع العتب!
هذا الحدث مر عادياً في الإعلام السوري... فالصحف نشرته كخبر عادي،
وكذلك
مر في التلفزيون السوري... ليس لأن لدريد مشكلة مع هذا الإعلام، وليس لأن
السلطات
السورية لا تستلطف (حماس) الحاكمة في غزة لا سمح الله... ولكن لأن التقاعس
والبلادة
هما (طبع) في الإعلام السوري... وحدود أي مبادرة تبقى في حيز (خبر رفع
العتب) ما لم
تأت توجيهات عليا بضرورة الاهتمام بالموضوع... مع العلم أن الجهات العليا
قد لا
يكون عندها أي مانع في رفع هذا الخبر أو ذاك إلى مصاف الحدث
المثير للاهتمام... لكن
في إعلام تستوي فيه المبادرة مع اللامبادرة... ويستوي فيه المحسن مع
المسيء... سوف
لن يجد أحد في مبادرة الفنان دريد لحام ما يستحق التوقف الاستثنائي الخاص،
والتغطية
المميزة التي رأيناها في قناة (الجزيرة) مثلاً... لأن هذه الأخيرة تعرف
معنى
الزيارة... وتحترم أهمية المبادرة.
وبالطبع فاحترام (الجزيرة) للمبادرة،
وتغطيتها بشكل مهني واحترافي، لم يمنعها في الوقت ذاته- من
توجيه أسئلة مشاكسة...
من قبيل سؤالها عن سر تأخر المبادرة بعد حوالي ستة أشهر من انتهاء الحرب
على غزة...
وقد تعامل دريد لحام مع هذا السؤال بروح
رياضية ومن دون ادعاء... فقال إنه كان
ينتظر فرصة لذلك، وأنه عندما قام مخرج مسرحية (نساء غزة وصبر
أيوب) بدعوته لافتتاح
المسرحية، وافق على الفور، رغم أن المرء يتردد أحياناً في تلبية دعوة لحضور
مسرحية
قد لا يبعد مكان عرضها عن بيته سوى كيلومترات قليلة!
والواقع فأنا أحترم حق
الإعلام في طرح الأسئلة النقدية، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بنشاط الفنانين
السياسي،
ذلك أن كثيراً من الفنانين اعتادوا أن يتخذوا من هذا النشاط وسيلة للتملق
لأنظمة
حاكمة، أو لتلميع نجوميتهم الفنية وبيع جمهور حفنة من الوطنيات التي هم
أبعد ما
يكونون عنها في سلوكهم الشخصي... لكن في حالة (غزة) حيث الحكومة محاصرة،
وقسم كبير
من العالم لا يعترف بها، والأطفال والنساء على حافة الجوع،
ووسائل الرفاهية لا
تقارن بأي مكان آخر... فإننا بالطبع لا يمكن أن نتحدث عن أي حالة تملق أو
مزاودة
وطنية مدفوعة الثمن، ناهيك أن معرفتنا بتوجه دريد لحام السياسي تجعله في
الأساس
بمنأى عن أية شبهات من هذا النوع، وخصوصاً إذا تعلق الأمر
بفلسطين... فلم يعرف عن
دريد يوماً أنه اقترب من الموضوع الفلسطيني في فنه أو في سلوكه الشخصي إلا
باحترام
شديد وإخلاص شديد.
فرح دريد الحقيقي!
وشخصياً فقد تأثرت فعلاً عندما
رأيت صورة دريد لحام ابن الخامسة والسبعين عاماً (مواليد دمشق
1934) وهو يعبر معبر
رفح مع زوجته السيدة هالة البيطار، ويصل إلى أرض غزة... بعد يومين من
الانتظار
والمفاوضات قضاها ما بين الفندق والسيارة التي ستقله، كي تتكرم السلطات
المصرية
فتفتح أبواب معبر (رفح) أمامه وتسمح له بالعبور.
وسر تأثري ليس الزيارة بحد
ذاتها، ولا مشقتها التي لا تخفى على أحد، ولا لأنني لا سمح
الله- أستكثر على أهلنا
المحاصرين في غزة أن يزورهم فنان بحجم دريد لحام، فهذه الزيارة لن تقدم لهم
شيئاً
خارج معناها الرمزي وشحذها للمعنويات... لكن سر تأثري هو صورة دريد التي
رأيتها على
الشاشات لحظة دخوله الأراضي الفلسطينية... لقد شعرت لأول مرة منذ زمن طويل
أن وجهه
قد تهلل بالبشرى والفرح الغامر... وأن عناقه الحار لكل من كان يقف في
استقباله كان
ينطوي على إيمان حقيقي.. وحماس حقيقي.. وفرح حقيقي وإنساني
خارج أي شعارات أو
بروتوكولات.
لقد كان دريد مبتهجاً من القلب... لم تكذب عيناه، ولا تهدج صوته
بحرارة اللحظة، ولا تلك الابتسامة الظافرة التي كانت تخفي خلفها، ملامح
وجهه المتعب
من وعثاء السفر وعناد أشقاء الحصار وملوك طوائف المعبر... فهذا
الفنان السبعيني كان
في تلك اللحظة أكثر شباباً من كل زملائه النجوم الشباب، وأكثر إحساساً
بحاجة الناس
لرفع معنوياتهم من كل محترفي الهتافات والشعارات وفناني الدموع في
الاستوديوهات
التلفزيونية المترفة... وأكثر قرباً من جمهوره العربي الكبير
من كل أولئك الذين
يبحثون عن الوصول إلى جمهورهم بإطلاق الشائعات والأكاذيب التي تجعلهم محور
اهتمام
وتساؤل!
بالتأكيد لم يكن هدف دريد حضور عرض افتتاح للمســرحية التي دعي إليها
وحسب، فهذا الحـــــدث العادي يتكرر كل آن في غير مدينة عربية، وفي ظل
انصراف
الكثير من النجوم والفنانين الكبار عن العمل المسرحي وتقاعس
الدول عن دعم حركتها
المسرحية بشكل لائق، فإن حضور أي عرض مسرحي يبقى أشبه بنشاط روتيني لا بريق
له إلا
باستثناءات قليلة ونادرة بالطبع... لكن دريد قبل دعوة المخرج الفلسطيني،
لأنها
كانــــت فرصة لزيارة غـــــــزة المحاصرة... فرصة للوصول إلى
أرض الكرامة،
وللتواصل مع هذا الشعب الذي قال عنه بالأمس إنه (لم يستطع أن يذله
الحكــــام العرب
كما لم تخذله سلبيـــة الشعوب من المحيـــط إلى الخليـــج).
ورطة فردوس عبد
الحميد!
وقد أكملت (الجزيرة) اهتمامها بالحدث فاستضافت الفنانة فردوس عبد
الحميد عقب الحوار مع دريد لحام، لتسألها عن سر غياب الفنانين المصريين وهم
الأقرب
جغرافياً إلى غزة... فصدمت السيدة فردوس للســـؤال، وقالت إنها
شخصياً من المفروض
أنها ستكون في غزة الآن لحضور المسرحية نفســها التي دعي دريد لافتتاحها،
لكنها
سافرت لتصــور عملاً، وعادت فظـــنت أن الموعد قد فات!!
عذر أقبح من ذنب
طبعاً... لأنها لو كانت مهتمة بتلبية الزيارة لما ضيعت الموعد، ولما فاتها
التواصل
مع أصحاب الدعوة في ظل وسائل الاتصال التي لا تبقي عذراً لأحد. وقد قالت
السيدة
فردوس عندما شعرت أن اللوم سيطال الفنانين المصريين: (لآ...
إزاي... الفنانين
المصريين يفكرون ليس في الزيارة فقط بل بما هو أكثر من ذلك) وسرعان ما هربت
من
الموضوع إلى الدعوة لإنجاز أعمال فنية عن القضية الفلسطينية لأنها الأبقى
برأيها!
وهكذا تحول حضور دريد لحام إلى (ورطة لغيره) فهو باختصار أول فنان
عربي
يدخل غزة المحاصرة والجريحة... أول فنان ينتظر على معبرها، يعانق أهلها،
يشم نسائم
الكرامة في سمائها... وهو بالتأكيد يستحق منا كل احترام، ويستحق أن نقول له
شكراً
لأنك قمت بواجب تقاعس عنه الآخرون... شكراً لأنك لم تنسَ
الموعد... لم تفضل مشاغلك
الأخرى... أو رغبتك في الراحة والاسترخاء في بيتك الأنيق على شرف السفر إلى
غزة...
وشرف الوصول ولو متأخراً... يكفي أنك وصلت
مؤمناً... ونظنك ستعود أشد إيماناً.
ناقد فني من سورية
mansoursham@hotmail.com
القدس العربي في
29/07/2009 |