* ما أجمل الرهان علي الأفضل.. أو "الأفكر" إذا صح هذا التعبير.. أقول
هذا بمناسبة فيلم "ألف مبروك" أحدث أفلام الفنان أحمد حلمي والذي كتبه
الشقيقان محمد وخالد دياب "غالبا هما شقيقان" وأخرجه أحمد جلال الذي يتقدم
كمخرج قادر علي السيطرة علي أدواته وشحنها بالكثير من الصور والمشاعر
والرؤي إلي قدرته الواضحة في اختيار فريق التمثيل الذي يذهلك لأنه بهذه
الموهبة والمقدرة مع أنك تراه لأول مرة. الأم "ليلي عز العرب" والأب "محمود
الفيشاوي" والأخت "سارة عبدالرحمن" والصديق "أمير صلاح الدين" وسائق
التاكسي وزميل العمل في البورصة منير. كلهم ممثلون وممثلات جدد. في أعمار
مختلفة. خاصة الكبار سناً فأين كانوا ومن أين جاءوا ولكنها فرصة الاكتشاف
فقط فالمواهب في مصر علي قارعة الطريق كما يقال. والمهم أن يراها الذين لا
يبذلون مجهوداً في عملهم. وفي الفيلم تشعر وتكتشف وتتأكد أن جمال السينما
في قدرة صناعها علي الإضافة إلينا أو التأثير فينا لنصبح أفضل. حتي لو غضب
البعض منا لموت البطل في المشهد الأخير المصنوع ببراعة مدهشة. فقد كان
موتاً رومانسياً جميلاً لشاب قرر أن يغير نفسه في محاولة لتغيير واقعه
والإفلات من الموت الذي يحاصره في حلمه. ويتكرر دائماً بالرغم من اختلاف
تفاصيل الحلم من مرة لأخري.. وبرغم انني لم أشاهد الفيلم الأجنبي الذي يقول
البعض إنه مأخوذ عنه. وبالرغم - أيضاً - من الكتابة المبدئية في البداية أن
الفيلم مأخوذ عن أسطورة سيزيفيون "سيزيف" إلا أن الفيلم نفسه يطرح علينا
قضيتين قبل التفاصيل الأولي هي مدي تأثير الفيلم الأجنبي وأعتقد أنه لا
يوجد هنا فنحن أمام فيلم مصري يعبر عن شريحة من الطبقة المتوسطة بمفرداتها
وعددها القليل وسلوكها كما يعبر عن جزء غير قليل من شباب هذه الطبقة
بتفكيره وأسلوبه الحياتي وأنانيته المعهودة أما القضية الثانية فهي علاقة
الفيلم بالأسطورة والتي لا تتطابق هنا. فسيزيف ظل يحمل صخرة ويصعد بها
فتسقط قبل أن يصل لمبتغاه ليعود من جديد ويحملها ويصعد بها.. فبطلنا هنا.
واسمه أحمد جلال عبدالقوي. حاول تغيير قدره. ولكي يفعلها نصحه صديقه أن
يغير الواقع حتي تتغير النهاية. وفي سعيه لهذا التغيير يكتشف ما لم يعرفه
من قبل عن نفسه. وعن العالم الأقرب إليه. الأسرة التي ينتهي إليها. لقد بدأ
الفيلم - الحلم بالبطل وهو يغني لنفسه ويداعب "مريم" خطيبته في التليفون
"والتي لم نرها أبداً وإنما كانت غائبة حاضرة في وعيه" ويشاكس أباه برفض
الخروج من الحمام سريعاً بينما الأب ذاهب لعمله. ويداعب أمه وهي تنهره وعلي
وجهها "ماسك" للتجميل أما شقيقته الصغري التي كانت تقوم ببروفة مع صديقتها
علي الفستان الذي ستحضر به زفافه. فهو يسألها في لهجة وعيد ان كانت قد
استخدمت الكمبيوتر الخاص به ويطلب منها ألا ترتدي فستاناً مفتوح الظهر..
هذا السيناريو الذي سوف يستكمله "أحمد" بالذهاب للعمل والمرور علي زميله
منير. ورؤيته لحرامي سرق حقيبة سيدة في الشارع واضطراره لحمل رجل صدمته
سيارة أخري في سيارته تحت ضغط المارة الذين أوشكوا علي ضربه. وافلاته من
الحبس بعد القبض علي القاتل بعد موت الرجل. ومقابلته لصديقه الذي دعاه علي
عزومة "جمبري" يستعد للزفاف. هذه الخطوات كلها. سوف يستعيدها البطل من أجل
الافلات من النهاية. أي الموت وهو يعبر الشارع إلي أسرته في اتجاه قاعة حفل
الزفاف. وفي كل مرة تتغير وتتحرك مفردات السيناريو ليري البطل ما لم يكن قد
رآه من قبل. وليكتشف أشياء تدفعه لردود أفعال عنيفة تجاه الأب والأم
والأخت. ولكنها حين تتكامل. أي الصورة حين يعاد "الحلم" الذي هو الواقع في
حقيقته. لأنه يقوم عليه. يدرك أنه كان يعيش مع أسرته بدون أن يراها بعينه
وقلبه. فالأم التي أعتقد أنها مدمنة كانت تخدر آلامها السرطانية لأن العلاج
الكيميائي يسقط شعرها ويحولها لامرأة بالاسم. والأب الذي ظنه مختلساً أخذ
مكافأة معاشه قبل موعدها بأيام ليسدد نفقات زفافه أما الأخت التي أخافها
فقد اكتشف أنها تحب صديقه الذي حاول مفاتحته مراراً في ارتباطهما ولم يعطه
الفرصة. بل علي العكس اندفع ليصف كل علاقات "النت" بالفساد.. تغير وأدرك
وتحول إلي إنسان آخر فذهب يعيد نقود أبيه إلي الشركة وينقذ سمعته. وبارك
لشقيقته وصديقه أما الأم التي تعاني الموت القريب فقد تضامن معها ليخفف
عنها وحلق شعره زيرو في مشهد رائع ومبتكر. اكتمل إنسانياً قبل أن يتحرك من
البيت الذي أعطاه الحياة والحب فحاول أن يرد العطاء وأن يرد ديونه. أملاً
في الافلات من القدر الذي رآه في الحلم.. لكنه مات وهو يحمل باقة الزهور
ويرتدي البذلة والبابيونة في سيارة مزينة. توقف أمام الشاحنة التي رآها
تدهسه في الحلم.. هل قصد صناع الفيلم أن ما فعله البطل يكفي ليذهب وتظل
ذكراه العطرة فكتبوا علي الشاشة "أن تكون غائباً حاضراً فذلك أفضل من أن
تكون حاضراً غائباً".. ولماذا لم يكن الحل الثاني وارداً. أي أن يفلت البطل
من الموت. فكثيراً ما لا تتحقق الأحلام. خصوصاً أنه كان يستحق المكافأة بعد
أن تحقق إنسانياً علي هذا النحو المدهش والمؤثر والذي يمثل في حد ذاته
رسالة هامة لكل مشاهد.. في كل الحالات فنحن أمام فيلم ممتع ومدهش يؤكد ندرة
العاملين به علي تقديم عمل فني راق. من المخرج لمدير التصوير والإضاءة
والديكور والمونتاج والصوت والموسيقي وبالطبع التأليف وإن شابه بعض الإطالة
في تكرارات الحلم بالمنتصف. أخيراً فإن "ألف مبروك" فيلم لا يراهن علي
"المضمون" وهذا هو الأهم في رأيي. فالفن دائماً يحتاج للمخاطرة.. والنجم
غالباً لا يفضل المخاطرة.. وهذه هي ميزة "أحمد حلمي".
magdamaurice1@yahoo.com
الجمهورية المصرية في
30/07/2009 |