يقول انجمار بيرجمان : اذا لم يكن الفيلم حلماً، فهو وثائقي,
تاركوفسكي اعظم منا جميعاً كونه يدخلنا في حلم لا نهاية له.. هناك من يرى
افلام
المخرج الروسي اندريه تاركوفسكي، صعبة و غامضة بسبب عدم التزامه بسرد منطقي
للاحداث
في افلامه، تاركوفسكي يرفض ان يكون الفيلم مجرد حكاية، او نصائح و خطب
اجتماعية، هي
ايضاً بالنسبة له ليست مهنة لكسب لقمة العيش او جني الربح المادي.
اخلص
هذا الفنان للفن السابع، و مات على فراش المرض عام 1986بباريس،بعيداً عن
وطنه و
عائلته، مات فقيراً لكنه ترك ثروة فنية للانسانية، سيظل
تاركوفسكي خالداً ليس لكونه
اخرج افلاماً كثيرة، انتاجه سبعة افلام، هي اقرب للشعر منها للسينما.
سينما
تاركوفسكي هي رحلة ممتعة لحلم ساحر و عالم ميتافيزيقي بلا حدود، المتفرج
عليه ان
يكون مستعداً ويتخيل نفسه كراكب قطار يجلس قرب النافذة.
سوف نحاول اكتشاف عالم
تاركوفسكي بخوض رحلة قصيرة مع فيلمه ستلكر، كان آخر افلامه بروسيا، اخرجه
عام 1979.
ستلكر، شخصية حالمه و مضطربة، تشعر بالقلق في عالم ضيق تحاصره المادة،يسكن
ستلكر مع زوجته و ابنته المعاقة، في بيت متواضع خال من الديكور
و الفخامة، تسيطر
على الاجواء اللوان قاتمة وكئيبة، يهيمن اللون الرمادي بقوة تاركاً بعض
الاماكن
للون الابيض و الاسود.
تكون البداية في مكان مغلق، غرفة النوم، تظهر الثلاث
شخصيات ستلكر، الزوجة و الابنة، نائمة على سرير واحد.
نوم اشبه بالموت، المكان
يوحي بفكرة السجن، لا يوجد الا نافذة واحدة هي مصدر الضوء و الصوت، صوت
القطار هو
استعارة لفكرة السفر و الهروب كوسيلة وحيدة للنجاة من واقع
مرعب و قاس.
لكل
شخصية و ضعية تختلف عن الآخر في النوم، مما يوحي ان لكل شخصية وجهة نظر
تختلف عن
الآخر تجاه الكون و الوجود. البيت هو استعارة لصورة الوطن
روسيا، ستلكر يحمل الكثير
من تاركوفسكي، فالمخرج في السنوات الاخيرة اصبح يشعر بأنه في سجن بسبب
الحصار و
الاضطهاد الذي يعانيه من المؤسسات الرسمية التي ترفض دعم ابداعه الفني،
كونه لم
يسخر السينما للنفاق و مدح النظام السياسي الشمولي.
نرى الزوجة نائمة لكنها
مفتوحة العينين، ستلكر هو الآخر مثلها، وحدها الصغيرة التي تنام باطمئنان،
كل صورة
او حركة في افلام تاركوفسكي هي استعارة لشيء اخر، ترسم
الكاميرا، بحركة ترفلينج من
اليمين و اليسار، في اللقطة الاولى شيء اشبه بالصليب، للدلالة على واقع هذا
العالم
البائس منذ نقطة الانطلاق، تاركوفسكي، يركز على كأس به قليل من النبيذ،
يهتز هذا
الكأس مع ارتفاع ضوضاء قطار بالخارج، نحس بأن الكأس سيقع، هذا الاهتزاز له
دلالات
متعددة اهمها، الاهتزاز و الاضطراب الداخلي للشخصيات، كل حركة
او صورة للعالم
الخارجي، ما هي الا صورة لعالم الروح.
ينهض ستلكر، يغادر بهدوء، يلقي نظرة على
عائلته، ينتقل للمطبخ، يغسل فمه، يتناول فطوره، تظهر زوجته، يظهر عليها
القلق، يدور
بينهم حديث، تحاول منعه من ترك البيت و خوض رحلة الى المكان المجهول، الذي
يزوره
ستلكر باستمرار كي يشعر بالراحة و الامان النفسي و الروحي، هذا
المكان محاط
بالرقابة و تحرسه الشرطة، هذا المكان تعرض لحادثة مناخية، و تم اغلاقه ومنع
الوصول
اليه وحده ستلكر من يعرف كيفية الوصول اليه.
هذا المكان، هو فضاء ميتافيزيقي، و
ليس مجرد موقع جغرافي معزول او طبيعة ساحرة، في هذا العالم ركن مقدس هي
غرفة اللذة،
حيث يشعر ستلكر بمتعة روحية و توازن داخلي فريد.
الشعور بالسعادة و لو للحظات،
يستحق المغامرة و المخاطرة، في كل رحلة لهذا العالم قد تكلف الزائر حياته،
لكنه
اشبه بالفردوس، رحلة ستلكر و رفاقه هي اشبه برحلة دانتي للفردوس
المفقود.الشر يحيط
بعالمنا والطريق صعب للشعور بالسعادة، في عالم الحلم نرى حقيقة انفسنا،
التخلص من
الزيف و رؤية الذات ليس مهمة سهلة، الروح هو ما يبحث عنه
تاركوفسكي، السينما هي
اداة بحث و تعبير روحية وفكرية و فلسفية, كل صورة بما تحمله من دلالات
يرسلها
المخرج الى عقل المتفرج، كون العقل و الفكر بوابة الروح, في جميع افلامه
يثير
المخرج الكثير من الاسئلة الشائكة حول القضايا الكبرى مثل
الانسان والطبيعة و خالق
الكون.
يرافق ستلكر في هذه الرحلة شخصيتان، احدهم برفيسور و الآخر كاتب، يرفض
ستلكر اخذ امرأة برجوازية رغم الاغراء المادي، ستلكر كمرشد
للعالم الروحي
والميتافيزيقي لا يمارس هذا العمل كمهنة للتكسب و الربح، بل هي لذة و رغبة
كي يتيح
للآخرين اكتشاف عالم الحقيقة، مهنة ستلكر كمرشد هي تشبه مهنة تاركوفسكي
كسينمائي،
الذي رفض بيع فكره و روحه للنظام السياسي، و اصبح عدوا ومراقباً من
المؤسسات
الثقافية و الفنية التابع لنظام مستبد، لا يولي اي اهتمام للفرد و يستغل
شعار
الاشتراكية و خدمة المجتمع وسيلة للبقاء بالحكم، اكتشف
تاركوفسكي مبكراً فظاعة و
قسوة الحكم الشمولي.
بعد ان يتجاوز ستلكر و رفاقه عدداً من المخاطر،يستطيع ستلكر
الهرب و تفادي طلقات و مطاردة الشرطة، ما ان يصل لعالمه،
يستلقي بأحضان الطبيعة، في
الجزء الاول من الفيلم تم تصويره بالاسود والابيض مع ظهور هذا العالم تظهر
الالوان
لاتاحة الفرصة للون الاخضر والالوان البهيجة.
يقوم ستلكر بابعاد العربة اداة
الوصول لهذا العالم وصب قنينة الكحول، حتى لا يفكر احدهم بالعودة للواقع
والا يكون
اي تاثير لاي مخدر للشعور بلذة الحلم.
في المشهد الاول لوصول الشخصيات الثلاث
لهذا العالم نرى ثلاثة اعمدة كهربائية تأخذ أشكال صليب، تاركوفسكي، يستغل
هذا الرمز
الديني ليس لقداسته، هو استعارة و تذكير للالم و القسوة الانسانية،هذه
الاعمدة
بوضعيات مختلفة، واحد منها مائل و الآخر واقف و الاخير مرمي
على الارض، بجوار هذه
الاعمدة مخلفات لاسلحة ودبابات، اصابها الصدى ونمت فوق بعضها حشائش
ونبتات.
تاركوفسكي، في هذه المشاهد خارج الواقع داخل الحلم، لكن استخدامه
الطبيعة ليس كمجرد ديكور جميل، هي تمثل الروح الانسانية ووجود
شكل الصليب و بعض
مخلفات الاسلحة،ربما لاظهار قوة الروح امام الالم و الانانية لبعض ابناء
البشر.
لم ينته خوف ستلكر، فبعد استراحة بسيطة نراه قلقاً، يرفض ان يمس احدهم
بمحتويات هذا العالم،كونه بالنسبة له شيئاً مقدساً و من الواجب
احترامه و عدم
تشويهه، اختيار شخصية كاتب و برفيسور لخوض رحلة لعالم الحلم، يثير الكثير
من الجدل
حول دور الادب و العلم في الحفاظ على صفاء الروح و نقائها، لكن هل ادى
الادب والعلم
دوره بأمانة.. اسئلة كثيرها يطرحها المخرج بأسلوب غير مباشر.
الوصول لهذا العالم
هو بداية لرحلة شاقة للوصول الى الغرفة المقدسة، نحن في الفردوس لكن هذه
الفردوس
درجات وهي عوالم متعددة،لا يوجد قانون طبيعي،خلال هذه الرحلة
نرى المطر يسقط فجأة
ثم ينقطع، يسقط الثلج، ثم تهب عاصفة رملية،نرى و نسمع هدير الشلالات و ليس
بعيداً
عنها صخور بركانية ملتهبة هو عالم الحلم الذي لا يعترف بأي قانون.
الوصول الى
قمة اللذة و الاحساس بالامان الروحي هي رغبة الشاعر و هو مستعد للتضحية
بحياته كي
تلامس روحه الحقائق المطلقة، بعد صراعات عديدة بين الشخصيات
بعضها البعض، و
الشخصيات داخل هذه العوالم،تصل الشخصيات لغرفة اللذة تغوص في حلم جميل
يسيطر الصمت
وحده صوت هطول المطر الذي يضفي المشاهد نوعاً من السحر المدهش.
يستخدم تاركوفسكي
المطر كأداة رسم و نقش لتوزيع الالوان مستخدماً التكنيك التشكيلي فهو يطلي
صورة
بلون ثم يعيد مسحه و فرش لون آخر، هذا التلاعب بالالوان لخلق
عالم ميتافيزيقي و
عالم الحلم، هذا التلاعب و المراوغة اللونية اشبه بالاسلوب السريالي الذي
يسميه
اندريه بريتون الكتابه الاتوماتيكيه، حيث يترك الفنان الحرية لخياله و
للاوعي
للتعبير دون اي قيد او هيمنة للنظريات و القواعد الجمالية
الفنية او التفكير بسلطة
الرقيب.
ينتهي الحلم تعود الشخصيات للواقع البائس، ستلكر يصطحب معه الكلب والذئب
و هو جزء من العالم الميتافيزيقي، في المشهد الاخير نرى طفلة
ستلكر تقوم بتحريك كأس
زجاجي على طاولة مستخدمة حركة عينيها و قوة ميتافيزيقية، وحدها هي صاحبة
الروح
البريئة والصافية.
الجمهورية المصرية في
30/07/2009 |