وسط خضم المسلسلات المعادة حاليا علي القنوات الأرضية والفضائية، استهلاكا لوقت تظنه هذه القنوات أنه وقت ميت، وجمهوره خامل، لا يصنع شيئا غير انتـظار الجديد من المسلسلات التي ستنهمر عليه بعد أسابيع في رمضان، باعتبار أن مشاهدة الجديد لا تصح إلا وسط المنافسة الصارخة لاعلانات السلع الغذائية، بعد أن أصبح المسلسل الدرامي ذاته سلعة تنافس الزيوت والمنظفات والمقويات الجنسية، وصار المشاهد لا يعرف أيهما ينتمي للثقافة وأيهما للتجارة.

وسط هذا الخضم يبرز مسلسل (رحلة السيد ابوالعلا البشري)، المستعاد علي قناتي النيل الثقافية والفضائية المصرية، والذي حقق نجاحا كبيرا حين تقديمه في ثمانينيات القرن الماضي، دفع كاتبه »أسامة أنور عكاشة« ومخرجه محمد فاضل، لتقديم رحلة اخري للسيد »البشري« باسم (أبو العلا ٠٩) مستلهما فيهما الشخصية التي صاغها الإسباني الشهير »ميجيل دي ثيربانتش« في روايته (العبقري النبيل دون كيخوته دي لا مانشا) والمنشورة أوائل القرن السابع عشر.

وهي شخصية (دون كيخوته)، وتعني كلمة »دون« السيد، وتلحق »سنيور« أي السيد و »سنيورة« السيدة و»سنيوريتا« الآنسة فتستخدم مع لقب المخاطب، فنقول »دون ابوالعلا« »وسنيور البشري« ولهذا استخدم الكاتب في عنوان مسلسله كلمة »السيد ابوالعلا البشري« لتكون صنوا لكلمة »دون كيخوتة دي لامانشا«.

كما استخدم المخرج محمد فاضل في تترات المسلسل رسما لشخصية »دون كيخوته« ممتلئاً ثم مفرغا تظهر من خلاله كل شخصيات العمل، تأكيدا علي المسمي والدلالة.

أم مسألة الرحلة المشار إليها في العنوان، فهي المعبرة عن مسيرة كل من البطلين اللذين خرجا من بيتهما، بعد ان امتلآ بثقافة الفروسية وقيم النبل التي سادت العصور السابقة علي زمنهما، يترك الاول قريته الصغيرة باقليم (دي لامانشا) بوسط اسبانيا، بعد ان قرر اعادة زمن الفرسان الجوالين، ولعب دورهم في نشر العدل ونصرة الضعفاء، خرج حاملا سيفا صدئا، وممتطيا حصانا هزيلا، ومصطحبا صديقا جبانا يدعي »سانتشو بانثا« بينما يترك الثاني قريته الصغيرة (سخا) بمحافظة كفر الشيخ، بعد أن قدم استقالته من وزارة الزراعة التي كان يعمل مفتشا بها، متوجها بمفرده ودون سيف أو فرس إلي القاهرة بعد ثماني سنوات غياب عنها، منذ وفاة أبرز رموز زمنه »أم كلثوم« عام ٧٥٩١.

لكي يقف إلي جوار أسرة ابنة خالة السيدة »نعمات« التي مات زوجها، وتركها تربي أولادها بمفردها، فكان مجتمع السبعينيات وأوائل الثمانينيات المتغير أقوي منها في تربيتهم فسرت بينهم الأنانية، وصار المال هو غاية المراد، مهما كانت أساليب الحصول عليه، ودخلوا في علاقات اجتماعية واقتصادية هزمت - او كادت تهزم - أرقي قيم الانسانية فيهم.

تزامن مع عرض هذا المسلسل احتفاء التليفزيون المصري يوم الخميس الماضي بعيد ثورة يوليو، واكتفت غالبية القنوات بعرض الأفلام الموسمية التقليدية، فيما عدا قناة النيل الاخبارية، التي حرصت علي ان يكون احتفاؤها طوال اليوم بذكري الثورة، عبر برامج سياسية واجتماعية واقتصادية، انتهت في منتصف الليل ببرنامج (من القاهرة) الذي حاول ان يقترب من تجليات هذه الثورة في الأدب والمسرح والسينما، وبغض النظر عن الاضطراب في تقديم ضيوف البرنامج، فأن أبرز ما قدمه لقاء في الشارع مع عينة من شباب اليوم حول معرفته بمنجزات الثورة المصرية، وجاءت اجاباتهم مماثلة لعينة شبابية أخري قدمتها مجلة (المصور) في عددها بذات الأسبوع، كاشفة عن مأساة لا تقف عند الجهل معروف الاسباب بتاريخ ثورة غيرت مجري التاريخ المصري والعربي والافريقي فقط، بل ايضا عن غياب ندرك مبرراته للقيم النبيلة التي حاربت هذه الثورة داخليا وخارجيا لتأكيدها، قيم المواطنة والتسامح الديني والعدل الاجتماعي وحق الانسان في التعليم والعلاج والعمل والحياة الكريمة.

وهي ذاتها القيم التي صارع »ابوالعلا البشري« في ثمانينيات القرن الماضي حتي لا تغيب، لكنه هزم، كما هزم المسلسل وأطيح به مبكرا من قناة مصر الفضائية، لأن الفكر الذي صاغ مجتمعنا رأي أن الأخلاق هي المنفعة العملية، وأن الغاية تبرر الوسيلة، وان السرقة حلال، والنصب ذكاء، والقاتل سوف تدبر له التدابير كي يفلت من حبل المشنقة.

أخبار النجوم المصرية في

30/07/2009