في أحد مشاهد فيلمه الجديد «الكاتب الشبح» يورد المخرج رومان بولانسكي
مشهداً كان كُتب وصُوّر قبل التطورات التي حدثت معه أخيراً، والتي بسببها
تم الحجز عليه في منزله السويسري ولم يستطع حضور مهرجان برلين السينمائي
حيث شوهد هذا الفيلم.
في المشهد المعني، يشكو رئيس الوزراء البريطاني المعزول أدام لانغ (بيرس
بروسنان) من أنه مطلوب القبض عليه في أكثر من دولة ويوافقه محاميه (تيموثي
هاتون) قائلاً: «ستعرّض نفسك للاعتقال في أوروبا إذا ما انتقلت بينها»، ثم
يذكر له بعض الدول الآسيوية التي من الممكن له أن يلجأ اليها، والتي لا
ترتبط بمعاهدات أمنية توجب تسليمه الى السلطات التي تطالب بمحاكمته كمجرم
حرب.
المرء لا يستطيع الا أن يضحك رابطاً بين وضع إحدى شخصيات الفيلم
الرئيسية وبين وضع المخرج رومان بولانسكي، على ضوء ما حدث له من إلقاء قبض
ثم تقييد إقامة وتهديد لا يزال سارياً بإعادة تقديمه للقضاء الأميركي بتهمة
الاعتداء على قاصر قبل نحو ثلاثين سنة.
فيلم من دون حرارة
طبعاً لو أن الفيلم كان صدى مقصوداً للواقع الراهن، لكان تمتع بقدر من
الذاتية رابطاً بين عالم الفيلم وعالم مخرجه على نحو مثير للنقاش. لكن
رومان بولانسكي الفنان الذي وضع في بعض أفلامه الكثير من رؤاه الشخصية
الخاصة حول العالم المستنتجة من حياته الخاصة وتاريخ ما حدث معه كصبي يهودي
عانى من تخويف الجنود له (وضعوا تفاحة على رأسه وأطلقوا النار عليها)
عاكساً أجواء من الخوف والعنف، يبتعد هنا عن معظم مساراته السابقة، مانحاً
مشاهديه فيلماً بوليسياً بلا حرارة يقوم على استفاضة في شرح الحيثيات
والمشي في مكانه من دون تقدم، قبل أن ينجلي في النهاية عن جهد جيد الى حد
ما في التنفيذ التقني (نعم هناك أستاذ ميزانسين يقف وراء الكاميرا) لكنه
عادي جدّاً في خانتي الخلق والإبداع.
ظروف غامضة
بطل الفيلم هو كاتب (إيوان مكروغر) نراه في مطلع الفيلم يوافق على
لقاء رئيس الوزراء البريطاني آدم ليساعده في كتابة مذكراته لقاء ربع مليون
دولار. الرئيس ليس كاتباً وهو أمر مشروع أن تتم الاستعانة بكاتب محترف
لصياغة تاريخ حياته على نحو ناجح.
أمام الكاتب شهر واحد لكن ما يجعل المهمّة سهلة الى حد، أن الرئيس وضع
المذكّرات فعلا، وما على الكاتب الا أن يجلس معه للتنقيح وإجراء مقابلة معه
تمنح المادة بعض المرجعية الشخصية.
الصعوبة هي أن هذا العمل يأتي وسط أزمة تطال الرئيس وسرعان ما تحيله
الى استقالة، فقد تبدّى أنه منح الموافقة على تعذيب أربعة مسلمين متهمين
بالانتماء الى القاعدة ما أدّى الى وفاة أحدهم.
هذا ما يحدث حالياً في بريطانيا فعلاً، حيث تنطلق الاتهامات من أن
شعبة الاستخبارات البريطانية كانت على علم بقيام السي آي أيه بتعذيب
المتهمين، ثبت تورّطهم او لم يثبت. في الفيلم (كما في الواقع) فإن السي آي
أيه هي الرائدة والوزير البريطاني (فكّر توني بلير) هو التابع.
انطلاقاً، فإن ما يثير غرابة الكاتب هو أنه تسلم المهمّة بعد مقتل
الكاتب السابق في ظروف غامضة. من هنا يصبح الفيلم لغزاً قائماً على من
القاتل وعما إذا كان الكاتب الحالي سيلاقي مصير الكاتب السابق.
للأسف فإن هذا الجانب من الفيلم هو الذي يطغى على سواه. وهو لا يطغى
بنتائج جيّدة. الفيلم يدور حول نفسه من بعد ربع ساعة وحتى ربع ساعة قبل
نهايته، ونبضه في هذه الفترة هادىء وقليل الإثارة. لكن المشكلة هي أنه
يفوّت فرصة اللقاء مع حاضر الأحداث ومعطياتها، وربط نفسه بالوضع الذي نتج
ولا يزال عن كيفية التحقيق مع المتهمين، وما إذا كانت تلك الكيفية مبررة او
لا.
خطر الإرهاب
مرّة واحدة في الفيلم يطرح المخرج/ الكاتب سؤالاً حسّاساً حين يصرخ
أحدهم: «لنفتح قسماً من المطار لا يمارس عمليات مراقبة من أي نوع، وقسم آخر
يمارس القاء القبض على المشتبه بهم ونرى ماذا سيحل بالبلد في كلا
الحالتين». طبعاً المقصود هنا هو أن الخطر الإرهابي سيكون مؤكداً في الحالة
الأولى ومنعه مؤكد في الحالة الثانية وهذا في أزماتنا اليوم صحيح. لكن
الفيلم بذلك الطرح يخرج عن نطاق المقصود فترك الحبل فالتا ليس الأمر
المطلوب ولا أحد ينادي به، بل المسألة، كما بدأ الفيلم بطرحها، هو قضية
التعذيب لأجل استخراج المعلومات صحيحة او كاذبة.
تمثيل جيّد من ق.بل إيوان مكروغر وأقل من ذلك من ق.بل الآخرين في
عملية لا تتوخى أكثر من تقديم فيلم جماهيري يُعجب الباحثين عن أفلام
مؤامرات ولو من باب استهلاكي. ما حمل الفيلم الى شاشة المسابقة هو وضع
المخرج المتأزّم غالباً وربما، الى حد، كون اسمه يتيح له الاشتراك في
مسابقات المهرجانات الدولية حتى لو لم يكن فيلمه جيّداً بالفعل.
بطاقة الفيلم
• الفيلم: الكاتب الشبح
The Ghost Writer
• إخراج: رومان بولانسكي
• تمثيل: إيوان مكروغر وبيرس بروسنان وتيموثي هاتون
• النوع: تشويق بوليسي (فرنسا - المانيا - بريطانيا) 2010
أوراق ناقد
مفاجأة المخرج
حين صعد المخرج العراقي محمد الدارجي منصّة مهرجان برلين المنعقد
حالياً لتقديم فيلمه الجديد «ابن بابل» وضع يداً على خاصرته كمن كان يشرف
على مشروع عقاري يتم حفره، وقال معايناً المشاهدين إنه سعيد، طبعاً، بوجوده
في مهرجان برلين، وطاف يشكر عدداً من الذين عاونوه في إنجاز هذا العمل. بعد
قليل أعلن أن هناك مفاجأة سيُعلن عنها بعد العرض. قلت في نفسي: طعم
وصنّارة.
مر الفيلم مثل سحابة تمطر دموعاً. الكثير من النحيب والعويل واللقطات
القريبة لها وهي تنهمر فوق الوجوه المحمّلة بإمارات العذاب والمعاناة.
الفتاة الألمانية التي كانت تجلس بجانبي مع صديقها مسحت دموعها، ثم استخرجت
من محفظتها منديلا ورقياً وقامت بعملية تنظيف لأنفها الذي أخذ يمطر بدوره.
من قال إن الألمانيات بلا قلب؟
إنه فيلم عن عجوز كردية تبحث مع حفيدها عن ابنها المختفي، وطريق بحثها
طويل ومليء بالمشاق. تسمع بالمقابر الجماعية، فتذهب اليها لكنها لا تستطيع
أن تجده بين الموتى، فتجلس بينهم على أي حال وتبدأ بندب حظها.
حين انتهى الفيلم، الذي ربما عدت اليه في مناسبة أخرى، حافظ معظم
الحاضرين على أماكنهم. صفّقوا بالطبع وعبّروا عن أن لديهم قلوباً تتعاطف
والمآسي الفردية خصوصاً في بلد كالعراق، وأرادوا معرفة كُنه هذه المفاجأة
التي تحدّث عنها الفيلم.
وكانت...
شريط بالصوت والصورة لرئيس الوزراء العراقي تم بثه في القاعة، يتوجّه
به الى المجتمع الدولي محييّاً الفيلم ومخرجه، كان تم تصويره وإعداده
والغالب أنه يصلح لكل زمان ومكان مادام لم يذكر مهرجان برلين بالاسم.
الشريط، ذو الدقائق الثلاث، يبارك إنشاء مؤسسة دولية للبحث في الهولوكوست
الذي وقع في عهد النظام السابق، حين تم حفر مقابر جماعية لدفن مئات الألوف
(حسب الفيلم على الأقل) من الذين قضوا نتيجة حكم صدّام حسين الجائر.
لكن المشكلة هي أن الفيلم إذ ينتقد، بحق، سياسات مضت وظروفا أوجدها
نظام حكم مستبد، يستعين بالسياسة لتعميم رسالته عوض أن يبتعد عنها لكي تبقى
رسالته تلك فوق مستوى الشبهات، مثله في ذلك مثل تعليق صور السياسيين في
خلفية المشاهد في الأفلام. فإذا كان صاحب الصورة حاضرا فإن الفيلم مؤيد له،
وإذا كان غائباً مضت عليه السنين واختلفت العصور من بعده، فإن الفيلم، في
الغالب، منتقداً له.
لكن «ابن بابل» ومخرجه ينجزان بعداً جديداً في التعامل مع النظم
السياسية من حيث إنه يشركها في عملية مباركة الفيلم من ناحية، ومنح الفيلم
تلك السمة بأنه من نعم النظام (أي نظام) وينتمي الى سياستها الرشيدة.
ما قام به محمد الدارجي لم يسبقه أحد اليه على إطار عالمي. المرء له
الحق في أن يعتقد أن الأفلام التي أنتجتها بعض النظم الشيوعية في الستينات
وجوارها، ربما صاحبها تأكيد هذه العلاقة بين النظام والمنتوج الفني
والثقافي، لكن ذلك بقي في داخل حدود تلك الدول، أما أن يصاحب فيلم ما دعاية
سياسية على نطاق مهرجان دولي على هذا النحو الخارج عن نطاق ما هو سينما وفن
وثقافة، فإن المسألة مثيرة للشجن وتعكس عدم قدرة المخرج على أن يمارس
حياديّته وعدم ثقته من أن الفيلم يستطيع وحده إبلاغ الرسالة التي يحملها
الى الجمهور.
القبس الكويتية في
17/02/2010 |