لا شكّ في أن مشاهدة، أو إعادة مشاهدة أفلام مستلّة من العالم الروائي
الخاصّ بالمصريّ الراحل نجيب محفوظ، تذهب بصاحبها إلى تخوم العلاقات
الإنسانية المتصادمة أو المتكاملة. تذهب به إلى عمق الانفعال والرؤية
والالتماس الحسّي لعوالم مدفونة في قعر المجتمع، أو نابتة كشكل من أشكال
السرد الحكائيّ، المشحون بقاع المدينة وكواليسها وخفاياها ومساراتها. لا
شكّ في أن مُشاهدة كهذه مفتوحة على المدينة وبؤسها، وعلى الناس وشقائهم،
وعلى احتمالات إقامة مؤقتة في دائرة التوهان، أو إقامة منبسطة على مشارف
الحياة وحافة الموت.
ذلك أن نجيب محفوظ، الذي شكّل برواياته عالماً موازياً للحياة والناس،
صاغ نصوصه بلغة مازجة الفصحى المخفّفة بالعامية المُكثّفة، ما أتاح للسينما
أن تجد فيها، أو في بعضها على الأقلّ، مادة دسمة من المعطيات الإنسانية،
الكفيلة بأن تجعل الشاشة الكبيرة مرايا متداخلة أو منفصلة، عن حكايات مليئة
بأسئلة المصير والقدر والعلاقات القائمة بين البشر، والتفاصيل الكثيرة التي
يعيشها الناس يومياً، ولا تجد متنفّساً لها في نصّ أو حبكة أو عمل. كلّما
غاص نجيب محفوظ في التفاصيل الدقيقة والمغيّبة هذه، بدت رواياته شهادات
بديعة عن مدينة وناسها وتاريخها وتبدّلاتها. فباختصار شديد، يُمكن القول إن
روايات محفوظ بدت عند صدورها أشبه بشرائط سينمائية تلوّن العين الناظرة إلى
سواد الحياة مثلاً، وتثير الرغبة العارمة في فهم مزيد من المعاني المبطّنة
في البؤر الحياتية، وتجعل أرواحاً هائمة في داخل متتاليات بصرية، أدرك
مخرجون مصريون كبار كيفية تحويلها (المتتاليات) إلى أفلام فرضت نفسها بقوّة
جمالياتها الفنية والدرامية والفكرية، وقدّمت حكاياتها بأساليب تراوحت بين
الواقعيّ والبوليسي والتاريخي والسياسيّ، من دون أن تتجاوز السينمائيّ، أو
تخرج عليه. فالأفلام المستلّة من روايات محفوظ، أو تلك التي شارك في صنعها،
كتابةً إو إشرافاً روائياً على النصّ السينمائي، حافظت، إلى حدّ بعيد، على
الروح الأدبية والفضاء الإنساني واللعبة الحكائية في النصوص المكتوبة،
مضيفة عليها قدرة الصُوَر المتحرّكة على إيجاد مُعادل آخر للأدب، أي ذاك
المعقود على حيلة الصُورة في تكثيف السرديات، وعلى مواربة شديدة الإغراء في
توزيع الحكايات على نصوص سينمائية متينة الصُنعة.
اختصار كل فيلم من الأفلام الثمانية تساهم في فهم شيء من العالم
المحفوظيّ، انطلاقاً من استحالة اختزال الرواية/ الفيلم بأسطر قليلة، لأن
الرواية/ الفيلم أبعد من أن تُختزل بكلمات. بالإضافة إلى أن التقديم
المختزَل للأفلام يفتح نافذة صغيرة جداً، تسمح بفهم مسألة أخرى: الدخول إلى
عالم نجيب محفوظ دونه صعوبة. التبسيط معمّق. أي أن الصورة الظاهرة تُخفي
وراءها أشياء لا تُعدّ ولا تُحصى، عن الحياة والموت، كقطبي زمن يعيشه الفرد
والمدينة والتاريخ بطرق شتّى. الشكل الواضح للصورة هذه يحمل في طياته
حكايات وشخصيات وقصصاً شعبية وحالات و"ماورائيات" سياسية واجتماعية.
مثلٌ أول: "بين
السماء والأرض" (1960) لصلاح أبو سيف. إذا شكّلت الرواية
امتداداً لرؤية محفوظ الخاصّة بمصائر الأشخاص المُصابين بأزمة وجود،
متّخذاً من ضيق المكان مساحة واسعة لفهم حبائلهم وارتهاناتهم وقلقهم، فإن
الفيلم منعطفٌ في مسار تاريخي، أو لحظة مستقلّة بحدّ ذاتها في سيرة المخرج.
فالاشتغال في حيّز مكانيّ واحد، تمرينٌ على جعل المتتاليات البصرية جزءاً
من لعبة الغواية القائمة بين الكاميرا وعدستها والناس وعيونهم. ذلك أن
المصعد العالق بين أرض وسماء، إحالة واضحة إلى مأزق فرديّ معلّق بين رغبة
عاجزة عن التحقّق وواقع لا يتلاءم والكيان الإنساني المتكامل للفرد هذا.
الكاميرا هنا عين مفتوحة على الداخل الذاتيّ. وعيون الأشخاص العالقين في
المصعد عدسة صارمة في تجريد الأجساد من أزيائها ومباشرتها، وفي منح الأرواح
متنفّساً لقول أو بوح. واللعبة المتناغمة بين الكاميرا وعدستها من جهة أولى
والناس وعيونهم من جهة ثانية، بالإضافة إلى تبادل بديع بين الأدوار
والأدوات، جعلا الفيلم درساً في كيفية الاشتغال الدرامي داخل بقعة ضيّقة
هي، في الأصل، انعكاس صحيح للإنسان وحياته المجبولة بالألم والتمزّق. كأن
المصعد مختبرٌ لتحليل اجتماعي ونفسي وفكري لنماذج حيّة، مدفوعة إلى تصفية
حساباتها الذاتية من دون أن تدري.
مثلٌ ثان: "اللص
والكلاب" (1962) لكمال الشيخ. المنحى البوليسيّ الاحترافيّ
ركيزة أساسية في سينما الشيخ. أشبه بتدريب على كتابة روائية مختلفة أيضاً.
السارق الخارج من سجنه إلى المدينة، سقط في قاعها مجدّداً، لحظة قرّر تجاوز
خطّ اللاعودة. الانتقام بداية درب لا ينتهي، مهما حاول السائرون فيه
إنهاءه. الخيبة أيضاً، إذا أُريد لتحليل الفيلم أن يكشف عورة إنسان، أو
عورة بيئة. الحسّ البوليسيّ أساسيّ. هذا أمر مسلّم به. لكن، لا نجيب محفوظ
ولا كمال الشيخ اكتفيا بهذا. هناك ما هو أعمق وأبعد من المكشوف. فإلى جانب
الرحلة القاسية التي قام بها السارق الخارج من سجنه على طريق الانتقام،
هناك الذات وإرهاصاتها المتنوّعة، والتعري القابل لأن يكون مفتاحاً لعالم
إنساني منغلق على ذاته.
مثلٌ ثالث: "بداية
ونهاية" (1961) لأبو سيف أيضاً، علماً أن المخرج المكسيكي
أرتورو ريبستين نقل الرواية المترجمة إلى المكسيكية إلى فيلم من توقيعه في
العام 1993. التحليل الاجتماعي سيّد اللعبة. هنا، وفي روايات/ أفلام عدّة:
رحيل الأب، المعيل الأول والأساسي للعائلة، يُدخل هذه الأخيرة في متاهة
الحياة اليومية. رحيل يفتتح مرحلة ويصنع حالة. الفقر والخوف من تمزّق عائلي
والبحث عن مداخيل للعيش، أمورٌ ترسم ملامح أناس يتشابهون مع بعضهم البعض في
أمكنة جغرافية واجتماعية وثقافية مختلفة. فالفيلم المكسيكي غاص في أعماق
بيئته، لأن الرواية عازمة، منذ البداية، على ألاّ تُختصر بحيّز واحد. الموت
بابٌ إذا فُتح، شقّ الناس وأحلامهم. والفقر أيضاً، إذا خيّم على الناس،
دفعهم إلى أقدار مريبة وجنون قاس. صلاح أبو سيف بارع في اقتناص لحظات كهذه،
ومنفصل عن نجيب محفوظ، بأخذه الرواية إلى أمكنة أخرى، لأنه قادرٌ، بدهائه
الفني والثقافي البصريّ، على تحرير فيلمه من الرواية.
القصد من تقديم الأمثلة السابقة، كامنٌ في التأكيد على أن الرواية
المحفوظية بارعة في جعل أي شيء عاديّ أو بسيط حكاية ممتدة من الإنساني إلى
التعقيدات المحيطة به. والتأكيد أيضاً على أن الأفلام المستلّة من الروايات
المحفوظية لم تبق أسيرة النقل الحرفي، أولاً لأن الروايات بحدّ ذاتها
تُطالِب بقراءات متنوّعة. وثانياً لأن السينمائيين الذاهبين إلى نجيب محفوظ
وعالمه الروائي مدركون منذ البداية أنهم مقبلون على مغامرة خطرة: التبسيط
المحفوظيّ شركٌ قد يمنع سينمائياً من صنع معجزة الإبهار. لكنه شركٌ محرّض
على صنع معجزة كهذه، إذا كان السينمائي مُدركاً مفرداتها وحاجاتها. حسن
الإمام، مثلاً، الملقّب بـ"مخرج الروائع"، والموصوف بذكائه القادر على فهم
طبيعة الجمهور ورغباته، وطبائع النصوص الأدبية والسينمائية الراقية، مازجاً
المكتوب بالمصُوَر بحذاقة، حسن الإمام هذا وجد في ثلاثية نجيب محفوظ "بين
القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية" ما بدا له منطلقاً لإعادة قراءة المشهد
المصري، تاريخياً واجتماعياً ونفسياً بشكل أساسي، متوقّفاً عند خطابه
السينمائي المرتكز على بساطة الصورة في التقاط النبض وسرد الحبكة، وعلى عمق
المعالجة وإدارة فريق العمل بمزاجية إبداعية تستكين في أعماق الأشياء. إن
مُشاهدة/ إعادة مُشاهدة "بين
القصرين" (1964)، استعادة رائعة لزمن مضى: في البيئة والسياسة
ومفاهيم التربية والسلوك، كما في الاشتغال الفني الاحترافيّ في صوغ
المَشَاهد وتوليفها، ونقل أمين لخفايا الشخصيات وحراكها. هذا نمط من العمل
السينمائي: شخصية رئيسية، ومسار تاريخي ممتد على أجيال متلاحقة، كدليل على
رغبة في كتابة تاريخ مدينة وتحوّلاتها، نصّاً وفيلماً، وفي جعل السرد
التاريخي هذا مقدّمة للغليان المعتمل في النفوس والمجتمع والحياة اليومية.
فيلم مستند إلى تشريح أسلوب التربية، عبر "سي سيّد" أحمد عبد الجواد،
المتسلّط والمحافظ علناً، واللاهي بغرائزه ولها ومعها خفية. حسن الإمام
بارعٌ في إقالة الفوارق بين المكتوب والمصُوَّر، من دون أن يتماهى كلّياً
مع المكتوب، مُقدِّماً عليه رؤيته السينمائية، المتمثّلة هنا بالحفر
البصريّ في قاع الشخصيات وارتباكاتهم والمدينة وتحوّلاتها، من خلال كاميرا
هادئة ومتابِعة بدقّة حركة الممثلين والبيئة معاً، وعبر إدارة موفّقة
للممثلين، وتمثيل بديع أيضاً.
هناك توازن بين أساليب سينمائية مختلفة في الأفلام هذه. علي بدرخان
حوّل "الجوع"
(1968) إلى مبارزة سينمائية في التوغّل داخل النفس البشرية، أثناء سقوط
الفرد من إنسانيته إلى وحشيته، بسبب قوّة البؤس، ومقتل الشقاء. توفيق صالح
أراد في "درب
المهابيل" (1955) إعلان حضوره السينمائي (أول أفلامه)، باختياره
زمناً واحداً محدّداً بثماني وأربعين ساعة (على غرار المكان الواحد المحدّد
في "بين السماء والأرض")، لقراءة شيء من بشاعة الصدفة، أو قسوة القدر: الحب
المنتظر انفراجاً مادياً يُصاب بصدمة ربح وفير، ينتهي سريعاً عند ضياع ورقة
اليانصيب من أيدي العاشق وحبيبته.
من داخل المهرجان في
14/10/2011 |