منذ نهاية دراستيهما الأكاديميتين المتعلّقتين بالفنون الجميلة
والسينما، عمل الشقيقان محمد وعطية الدراجي معاً في تحقيق مشاريع سينمائية
مختلفة، بدءاً من "أحلام" (2005)، الروائي الطويل الأول لمحمد مخرجاً وعطية
منتجاً. استمرّ الوضع هكذا في الفيلم الروائي الطويل الثاني "ابن بابل"
(2009). لكن، قبيل انتهاء العمل على الفيلم هذا، اكتشف عطية، صدفة، قصّة
بيت صغير الحجم، يقيم أطفال يتامى فيه. اكتشاف دفعه وشقيقه محمد إلى
التنقيب عن الحكاية وفيها أيضاً، لأنها لا تقف عند اليُتم، بل تنفتح على
أحوال بلد ممزّق بصراعاته الطائفية ونزاعاته الدموية بين أهل البلد
والمحتلّين أيضاً. اكتشاف وضع عطية في موقع الإخراج هذه المرّة، دافعاً به
إلى اختبار العمل الوثائقي من وراء الكاميرا، بينما ظلّ محمد إلى جانبه،
بهدف إنجاز المشروع هذا، الذي حمل عنوان "في
أحضان أمّي" ("مسابقة الأفلام الوثائقية").
بحصوله على منحة من "سند" من "مهرجان أبو ظبي السينمائي" العام
الفائت، انطلقت عملية تحقيق المشروع، المتمثّل بمتابعة الوقائع اليومية
لهشام الذهبي، المُشرف الأساسي على البيت الصغير وسكّانه. علماً أن اثنين
وثلاثين يتيماً مقيمين فيه شكّلوا، بدورهم، شخصيات رئيسية، سردت حكاياتها،
وقالت انفعالاتها، وروت مآزقها المنبثقة من اليُتم والعزلة والانقسام
الحادّ. المتابعة الميدانية السابقة لتنفيذ المشروع أفضت بعطية ومحمد
الدراجي إلى الحصول على مواد مختلفة تبلورت في سياق مزدوج: أولاً، هناك
المعاناة الأصلية لهؤلاء اليتامى، بالإضافة إلى أحلامهم ورغباتهم في الخلاص
من وطأة القهر والألم والفقر. ثانياً، هناك هشام، مدير المشروع الإنساني
هذا، الذي واجه تحدّيات جمّة كادت تحول دون استمراره في الاهتمام بهؤلاء
القادمين إلى البيت الصغير من مناطق وفئات وأحوال شعبية مختلفة: "إنهم
يمثّلون أطياف الشعب العراقي كلّها تقريباً"، كما قال عطية الدراجي ذات
مرّة: "إنهم شيعة وسنّة. عربٌ وأكراد وتركمان. تراوحت أعمارهم بين الرابعة
عشرة والثامنة عشرة. هؤلاء هم يتامى البيت الصغير". وإذا شكّل اليتامى
جانباً أساسياً من الحبكة الدرامية للفيلم الوثائقي هذا، فإن "البطل"
الحقيقي هو، بحسب الأخوين الدراجي، هشام الذهبي، الطالب الذي كرّس حياته
لحماية هؤلاء الفتية من مخاطر التشرّد والانحراف. فـ"في أحضان أمّي"، ينتبه
المُشاهد إلى الجهد الكبير المبذول من قبل الذهبي، لاقتناعه بأن المآسي
التي عرفها اليتامى جرّاء مقتل الأهل أثناء الحروب أو النزاعات الداخلية،
وجرّاء مواجهتهم اليومية الفلتان الحاصل، إذاً لاقتناعه بأن المآسي هذه
قادرةٌ على دفع اليتامى إلى الانزلاق في فخّ الضياع والجريمة والفساد.
بهذا المعنى، وفور اكتشاف الحكاية، قرّر الأخوان الدراجي تصوير
التجارب الخاصّة بهؤلاء اليتامى، وهي تجارب متفرّقة جُمعت كلّها بثنائية
متناقضة: مرارة الحياة والأمل المتواضع الذي منح كل واحد منهم معنى ما
لحياته. بهذا المعنى، يُمكن القول أيضاً إن "في أحضان أمّي" شهادة إنسانية
حيّة ونابضة بالمعطيات الاجتماعية والأخلاقية والثقافية، ومرتكزة على مجاهل
العيش في بلد شلّعته الحروب الخارجية والداخلية، ورمت أبناءه في متاهات
الحياة وقرفها. شهادة إنسانية عكست وقائع الحياة اليومية لليتامى، وقدّمت
صورة ما عن الفراغ المدوّي الذي يعصف بالعراق اليوم، وبالسلطة الرسمية
المنفضّة عن مسؤولياتها في أمور شتّى، منها البيت الصغير هذا.
إن التشديد على مفردة "البيت الصغير" نابعٌ من أمرين اثنين: أولاً،
المساحة المكانية للبيت صغيرة فعلاً، ومع هذا اتّسعت لاثنين وثلاثين
يتيماً، يُقيمون فيها ليلاً ونهاراً في ظروف قاسية وصعبة، بأمزجتهم وقلقهم
ومخاوفهم وارتباكاتهم وأحلامهم. ثانياً، للإشارة إلى أن ضيق المكان وصغره
يتّسعان لمسعى حقيقي لبثّ روح إنسانية في الجماعة، مرتكزة على الألفة
والتواصل، وعلى تجاوز التمزّقات الهائلة في البلد ومجتمعه، وبين ناسه. في
المقابل، لا يُمكن القول إن "في أحضان أمّي" فيلم سياسي. السياسة هنا
معقودة على المناخ الإنساني الطاغي على العراق، من خلال معاناته الجمّة،
ومآسي أبنائه الذاهبين إلى موتهم قسراً أو طوعاً. فالبيت الصغير عبارة عن
مرآة سينمائية للبلد وراهنه، من خلال عيون شابين اثنين اخترقت المحجوب،
ونقلت شيئاً من حكايات ناسه الطيّبين.
من داخل المهرجان في
14/10/2011 |