ما خلا الفضول حول العلاقة التاريخية بين أكبر عقلين سيكولوجيين،
انصبّ جديد صاحب "الذبابة" (1986) و"العشاء العاري" (1991) ديفيد كروننبرغ
على الأجواء والطقوس الشخصية. "منهج
خطر" (مسابقة الأفلام الروائية) فيلمه الأخير، مباشر وصريح
بالنسبة إلى تلك اليوميات التي أنجبت نظريتين متضادتين، تحكّمتا بمفاهيم
العلاج العقلي، والأمراض النفسية، ودراسات الخبايا البشرية. يمكن القول إن
أفلمة كروننبرغ مسرحية البريطاني كريستوفر هامبتن، الذي اقتبسها بدوره عن
كتاب شهير لجون كير، أُشيد بأكمله على المكان وتوثيقه. إنه أصل الحكاية،
التي تلتقي فيها الشخصيات الثلاث كارل يونغ (الإيرلندي مايكل فاسبندر)
وسيغموند فرويد (الأميركي الدانماركي فيغو مورتنسن) والشابة الروسية سابين
سبيلرين (البريطانية كيرا نايتلي)، حيث يتزواج الثراء المشهدي لمدن زوريخ
وفيينا، مع نظيره داخل القصور والمنتزهات والبحيرات، وما حولها من جبال
وضياء باهر، أصرّ عليه مدير التصوير بيتر سوشيتزكي، الذي تعاون سابقاً
وكرننبيرغ، مُنجزاً له تسعة أفلام من توقيعه، مقابل الافتراض السيكولوجي
بالظلمة التي تغطّي تلافيف العقل والنفس البشريين.
"منهج خطر" أسلوب سينمائي ذو طعم آخر، تماما كمخرج "الوعود الشرقية".
فهو حكائيّة مطوّلة، قليلة الأحداث، لكنها زاخرة بالتصميمات الفريدة ذات
الأبّهة الأرستقراطية. هذا يقود، بدوره، إلى أن اختزال الزمن الفعلي
لعلاقة العالمين الكبيرين أرغما فريق كروننبرغ على استخدام أساليب شديدة
التقليدية، كالتعليق الصوتي لرواية أحداث وأفكار وأجزاء من طروحاتهما،
بالإضافة إلى قراءات مباشرة لرسائل متبادلة بينهما، الأمر الذي جعل الفيلم
كأنّه كتاب قديم فُتِح برويّة، كي لا يثير الغبار الذي تراكم عليه. لكن، ما
غاية أفلمة حكاية لا تملك درامية تشويقة؟ الجواب كامن في الوثيقة حصراً.
على السينما واجب اختيار حكايا تُسجّل تواريخ البشرية وأعلامها ورموزها
وحقبها وانعطافاتها. من هنا، تكون السِيَر السينمائية ذات هدف اعتباري
وتثقيفي أولاً، ما ينطبق تماماً على "منهج خطر"، الذي لا يُقدّم إجابات
معرفية كاملة الصورة عن نظريّتي الرجلين، بل يُعظِّم من شأن التقابلات
الذهنية ونقاشاتها، التي أوصلت مؤسِّس السيكولوجيا التحليلية إلى الخصام مع
أستاذه. هناك خطّ عام لأفكارهما تبلور خلال الدقائق الخمس والتسعين للفيلم.
سرد العالم الشاب فكرته في أن الخلل العقلي يُفسَّر عبر سيكولوجية الفصام
وتعليلها بحسب الوعي اللاجمعي، بينما ذهبت مرجعية فرويد إلى المكبوت الجنسي
واللاشعور والحلم في فهم الذات.
يعي المُشاهد ذلك التصعيد من خلال شخصية الشابة سابين، المضطربة
نفسياً، التي تُنقَل إلى عيادة يونغ، لتدخل في حياته مريضة وحالة علاج،
وأخيراً كخليلة. لا يشرح كروننبرغ كثيراً حيثيات علاقة المودّة بينهما، قبل
أن تتطوّر إلى علاقة جنسية مازوشية، تفقد فيها بكارتها، ثم إلى جلسات ضرب
شهوانية، بينما كلمتها "عذّبني" تُصبح إعلاناً لعلاقة غير متكافئة بين رجل
متزوّج وأب وعشيقة يافعة، تفهم أن خلاصها محكومٌ عليه بإطالة مدّة بقائها
تحت أردان العالم المهووس بنظريته وعدائه لكاتب "تفسير الأحلام"، ومعاينته
الطبية. المتعة في "منهج خطر" مرتبطة بانسيابيته الدرامية (توليف محكم
لرونالد ساندرز)، حيث لا قفزات مفاجئة ولا تطويل مفتعل، بل فصولاً شديدة
الدقة، وحاسمة في معلومتها البصرية. بمعنى أن على المُشاهد الحصيف التمعّن
في ديكورات مكتبيّ الشخصيتين الرئيسيتين، للوقوف عند الغرض الجمالي
المفخّم: عند يونغ، متقشِّفٌ مليء بمراجعه وأوراقه، يتحوّل عند فرويد إلى
ما يشبه المتحف الصغير، نتاج هواية دقيقة في تجميع التحف. لعل المشهد
الأثير الذي اجتمعا فيه للمرّة الأولى، واستمر تاريخياً 13 ساعة متواصلة من
النقاش، كان فرصة للتفرّس في اشتغال المدير الفني جيمس ماكاتيرن الذي ظهرت
موهبته في نقل التفاصيل كاملةً إلى مُشاهد "منهج خطر"، الذي يبقى نوراً
سينمائياً حول أزمة العقول المدمِّرة.
من داخل المهرجان في
16/10/2011 |