سرد "إل
غوستو" (مسابقة الأفلام الوثائقية) قصّة فرقة موسيقية، تضمّ
مسلمين ويهوداً، فرّقتهم ظروف الحرب والثورة في الجزائر قبل نصف قرن،
والتقوا مُجدَّداً أمام كاميرا مخرجة، تعرّفت عليهم صدفة قبل سبعة أعوام،
للاحتفاء بشيء يُلامس ضمائرهم ووجدانهم، ويُقرّبهم بعضهم إلى البعض،
مُلغياً الحدود الدينية والإيديولوجية بينهم: الشغف باللحن الشعبي
الجزائري. عن هذا اللقاء، قالت المخرجة في فيلمها بصوتها الهادىء إنه غيّر
حياتها، كما غيّر حياة هؤلاء الرجال.
تشتّتت الفرقة في أنحاء الأرض قبل الاجتماع مجدَّداً في السادس من
أيلول/سبتمبر 2007 في مرسيليا، حيث قدّمت حفلة استثنائية لا ينساها مَن
حضرها. إنها مناسبة للقاء أعضائها جميعهم، الذين اضطرّوا يوماً للخضوع
للأمر الواقع، فذهب كل واحد منهم في اتجاه معاكس لاتجاه الآخر، غداة نيل
الجزائر استقلالها في العام 1962. كان الطرفان يعزفان الموسيقى عينها، لكن
كل منهما أطلق عليها اسماً مختلفاً: يقول اليهود إنهم يعزفون موسيقى يهودية
أندلسية، بينما اعتبرها المسلمون موسيقى أندلسية يهودية.
تأخذ بوصبايا مشاهدي فيلمها في رحلة ممتعة على أنغام موسيقى
"الشعبيّ"، إلى أقاصي التاريخ والذكريات وزمن العيش المسالم بين طوائف عدّة
في الجزائر العاصمة، في خمسينيات القرن الماضي. زمن يبكي عليه الفيلم بحنان
وقسوة لطيفة. زمن لم تعرفه المخرجة حتماً، لكنها تُشعر مشاهديه بالحاجة إلى
العودة إليه، والالتفات إليه كردّ على ما نعيشه اليوم من تطرّف وانعدام
تسامح. من خلال عيون الأعضاء الأربعين للفرقة هذه، رسمت بوصبايا بورتريه
لأوضاع الجزائر قبل الثورة وبعدها. سافر المشاهدون إلى أمكنة، وشمّوا
روائح، واطّلعوا على ما ضاع في طيات الكتاب الرسمي للجزائر. فيلمها تحية
إلى المنسيين، وردّ اعتبار إلى أولئك الذين ضاعت حقوقهم المعنوية في بلدان
يسيطر عليها حكّام لا يفكّرون إلا بأنفسهم. "إذا أرادوا تكريمي، فليفعلوا
ذلك وأنا على قيد الحياة"، قال أحمد البرناوي، أحد أعضاء الفرقة، قبل
انسحابه من الحياة بصمت وهدوء، بعد فترة وجيزة من تصوير الفيلم.
على الرغم من الذكريات التي قد تكون استعادتها مؤلمة لمن عاش الفترة
تلك، تعرف بوصبايا كيف تمنح الرونق لفيلمها، والخِفّة المحبّبة التي تُلطّف
الأجواء. الفيلم مُقطّع بوتيرة سريعة، لكنه لا يهتمّ بالموسيقى التي أنتجها
هؤلاء، بقدر اهتمامه بما عاشوه. التفت إلى السياق الاجتماعي الذي ولدت فيه
أعمالهم. أما على الصعيد التقني، فركّبت بوصبايا فيلمها كبازل، بقطع مبعثرة
من خلال القفز المونتاجي من شخصية إلى أخرى، تدلي بشهادتها أمام الكاميرا.
غير أن ذكاء المخرجة كامنٌ في إدراكها أهمية نقل هذه التجربة إلى فيلم
وثائقي، منذ لحظة دخولها أحد الدكاكين الصغيرة الذي يديره عازف "شعبيّ"
سابق. دخلت الدكان بعد أن لفتت انتباهها مرآة معلّقة على جداره.
صافيناز بوصبايا مخرجة إيرلندية من أصل جزائري، حقّقت حلم لمّ شمل
أعضاء الفرقة هذه، مؤمنة بالضرورة الرمزية لهذه الخطوة، ومستلهمةً ربما
مشروعها هذا من مبادرة فيم فاندرز بإنجازه "بوينا فيستا سوشل كلوب". حمل
الفيلم عنواناً فرعيا هو "المزاج الطيّب"، إنه فعلاً يضع مشاهديه في هذا
النوع من المزاج في ساعة ونصف الساعة، مؤكِّداً أن الموسيقى لغة عالمية
تسمو فوق نزاعات البشر، وأنها قادرة فعلاً على التخفيف من الألم الانساني.
إنها ألحان تنسي الجوع والبؤس والبرد، كما قال أحد أعضاء الفرقة الموسيقية.
"يا رايح وين مسافر؟"، تسأل أغنية الختام. بعد ما قدّمته بوصبايا في "إل
غوستو"، تتوفّر الأسباب الممكنة كلّها للإيمان بأن الرحيل سيكون بلا عودة.
من داخل المهرجان في
17/10/2011 |