على الرغم من أهمية المادة الدرامية، المشبعة بكَمّ هائل من
الانفعالات والشحن العاطفي، بدا "أسماء"
(آفاق جديدة) للمخرج المصري عمرو سلامة شهادة حيّة عكست واقعاً مزرياً،
وفضحت بؤس العلاقات القائمة في مصر. لعلّها مصر المقيمة حالياً في ظلال
ثورتها المنبثقة من حراك شعبي عفوي. لعلّها مصر العاجزة عن الخروج من زمنها
القديم. فالفيلم، المرتكز على قصّة حقيقية، ظلّ على مسافة من الإبهار
البصري، في مقابل إسرافه في معاينة الحدث، وتقديمه بشكل بصري مباشر وحادّ.
والنصّ، المكتوب بلغة مبسّطة وواضحة وقريبة من الفعل التوثيقي، حافظ على
مسافة من المتخيّل الإبداعي، ربما لأن قوّة المضمون طغت على المتخيّل هذا،
وعلى مفرداته الأساسية في صناعة فيلم سينمائي.
ينتمي "أسماء" إلى فئة الأفلام الصدامية، لخروجه من واقع مدمَّر
ومسحوق تحت وطأة الفساد والاختلال والارتهان إلى مصالح ضيّقة، وثقافة
جاهلة، وأصول مفرّغة من قيمها الأخلاقية والإنسانية. ينتمي إلى فئة
سينمائية أتقن عربٌ كثيرون تحقيقها، لكونهم أقرب إلى المدرسة النضالية،
اجتماعياً على الأقلّ، التي ترى الموضوع أهمّ وأرقى شأناً من أي شيء آخر.
هذا مقبولٌ في لحظة واحدة: أولوية الموضوع المختار، لارتباطه الوثيق بحالة
مسكوت عنها، وبات لزاماً على المعنيين بها والمقيمين فيها إخراجها إلى
العلن. "أسماء" أقرب إلى النَفَس التوثيقيّ منه إلى الفيلم الروائي
المتخيّل، لأن قصّته الواقعية جداً، والحقيقية جداً، أربكت صانعه، فجعلته
يخضع لـ"ابتزاز" المادة وسحرها عليه. أي أن طغيان القصّة على ما عداها من
مفردات العمل السينمائي، دفعت عمرو سلامة إلى الهيام بها، رغبة منه في
إعلان رأي، وفي اتّخاذ موقف، وفي كشف المخفيّ، وفي التحريض على مناقشة
المسكوت عنه. هذا ما أعطى الفيلم زخماً إنسانياً بحتاً: فالسيناريو معقود
على قصّة مبسّطة وحوارات عادية، وإن شابتها عفوية برع مصريون عديدون في
إظهارها، سينمائياً وحياتياً. والتمثيل عاديّ جداً، في مقابل تمايز ماجد
الكداوني في دور مُقدِّم برنامج "صفيح ساخن" على الشاشة الصغيرة، لقدرته
الهائلة على الفصل الواضح بين التمثيل والعفوية والارتجال. والمعالجة
الدرامية ظلّت على هامش النقاش السجالي الدائر في الأوساط الاجتماعية
والسياسية والثقافية.
أسماء (هند صبري) سيدّة في مطلع الأربعينيات من عمرها. أم أرملة لابنة
تُدعى حبيبة. مقيمة هي مع والدها وابنتها. فقر وقرف وخوف وألم وعجز عن
مواجهة الدنيا، لأن لأسماء قصّة مخفية. محاولاتها الدائمة إجراء عملية
جراحية بسبب التهاب المرارة، اصطدمت كلّها دائماً بإعلانها الصريح أمام
الأطباء بإصابتها بمرض "فقدان المناعة المكتسبة"، ما يعني انفضاض الأطباء
عنها، وعدم ممارستهم مهنتهم، ونقضهم القسم الطبيّ الشهير. اللحظة هذه كفيلة
بتدمير كل شيء. وهي اللحظة نفسها التي فتحت أبواب الجحيم على أسماء
تحديداً، لأن أحداً لا يعرف حقيقة ما جرى، باستثناء والدها، الشاهد على
قوّة الحبّ فيها لزوجها الراحل (يكتشف المُشاهد، تدريجياً، سرّ هذا الحبّ،
وكيفية إصابة أسماء بالفيروس). مقدّم البرنامج التلفزيوني وفريق عمله نجحا
في إقناعها بالظهور علناً في حلقة خاصّة. لكنها رفضت الكشف عن وجهها وإعلان
اسمها، قبل أن توافق في الفقرة الأخيرة، وتمسّكت برفضها الشديد الإفصاح عن
كيفية إصابتها بالفيروس هذا.
مرّت أسماء في مراحل حياتية مختلفة، وواجهت تحدّيات قاسية، وعاشت
ظروفاً صعبة. فالقدر لعين، وقوّة الحبّ فيها للشاب الذي "اختارته" هي في
قريتها الريفية، جعلتها تبلغ أعلى مرتبة ممكنة من التضحية بنفسها (بجسدها
على الأقلّ)، من أجل حبيبها وأحلامه التي كادت، بالنسبة إليه، تسقط في لجّة
الجحيم. بالتوازن بين ماض مثقل بألف خيبة وقهر، وحاضر متوقّد باللعنة
والحصار والخوف، شكّل "أسماء" توازناً بين الأزمنة والحالات، سارداً حكاية
امرأة حقيقية توفيت لأن الأطباء رفضوا إجراء العملية لها، بينما أسماء وجدت
من يتبرّع لها بمبلغ ثلاثمئة ألف دولار أميركي، لعلاجها خارج مصر، من دون
معرفة مصيرها على الشاشة الكبيرة، لأن عمرو سلامة فضّل ترك النهاية مفتوحة،
مع إشارات قليلة وغامضة.
التقنيات الوثائقية المعتمدة في السرد الحكائي، بدت أفضل وسيلة لإنجاز
"أسماء". مع هذا، يُمكن القول إن الفيلم شهادة إنسانية وموقف أخلاقي
لمواجهة تعنّت التفكير البدائي والثقافة الجاهلة، المسيطرين على مجتمع
مُصاب بألف خيبة وخيبة.
من داخل المهرجان في
18/10/2011 |