كيف يُمكن للمكان الضيّق أن ينفتح على العالم وخرابه؟ هل المكان
الضيّق هذا بلد محاصر ومحتلّ، أم مجتمع منهار ومكتئب، أم أناس مسحوقون
ومدمَّرون؟ أسئلة كهذه مطروحة، ضمناً وعلناً، في الفيلم الروائي الطويل
الأول للّبناني البولنديّ الأصل سوني قدوح (المقيم حالياً في ديترويت، في
الولايات المتحدّة الأميركية) "هذا المكان الضيّق" (مسابقة آفاق جديدة، في
عرض دولي أول). لكنها أسئلة لا تنتهي. فإحدى الشخصيتين الرئيستين قادمة إلى
ديترويت من فلسطين المحتلّة، والشخصية الثانية أميركية مقيمة في ديترويت،
بل في المخدّرات والضياع والبحث عن أفق لخلاص منعدم الوجود. هذا يعني أن
صداماً سيقع بين الطرفين، من دون أن يكون الصدام، حتماً، عنيفاً وقاتلاً.
بل من دون أن يأخذهما معاً إلى التخوم الأخيرة للموت، لأنه اكتفى بأخذهما
إلى الغضب والعنف المبطّن، وإلى الشكوك والتأمّلات العاجزة عن الاهتداء إلى
خلاصات وتأكيدات.
لا ريب في أن "هذا المكان الضيّق" قابلٌ لإثارة إشكالية العلاقة
الصدامية بين شرق وغرب، في ظلّ اللحظة العنيفة التي تعانيها فلسطين، ودول
عربية عدّة، والعالم أيضاً. لا أميل إلى اعتباره منتمياً إلى فئة الأفلام
النضالية المسطّحة، ولا إلى جعل القضيّة النضالية ركيزة درامية وحيدة. هناك
ما هو أبعد من ذلك، وإن انطلقت الحبكة من حادثة واضحة المعالم: الفلسطيني
حسن (سامي الشيخ) يتسلّل إلى الولايات المتحدّة الأميركية (ديترويت
تحديداً) بأوراق ثبوتية مزوّرة، بهدف إقناع شركة لتؤمِّن له، من دون
درايتها، مواداً قابلة لتصنيع "صواريخ قسّام" (التي تستخدمها "حماس"
تحديداً في حربها ضد إسرائيل). هدفه واضح أيضاً: الانتقام من إسرائيل،
قاتلة شقيقه. هناك، في الغرب الأميركي، في المدينة الأشهر عربياً وصناعياً،
تنشأ علاقة غريبة بينه وبين الأميركي كريس (ستانلي جوناثان)، الذي يتعاطى
المخدّرات، ويتوه في الشوارع، ويملأ ليله ونهاره غضباً مبطّناً وانكسارات
لا حدّ لها. التوليف المعتمد منذ البداية مُقنع بلغته السينمائية الجميلة،
ومشغول بحرفية واعدة: في اللحظة نفسها، تتشكّل الحكايتان معاً. يتابعهما
المُشاهدون في آن واحد. كأن الفيلم راغبٌ في إيجاد مُعادل بصري بين طرفين،
يذهبان معاً إلى صداقة ما، ويتواجهان بغضب وتوتر ضد بعضهما البعض.
من فلسطين إلى الولايات المتحدّة الأميركية، بل من قطاع غزّة إلى
ديترويت تحديداً، ومن النضال من أجل أرض وحقّ إلى السؤال عن الذات الفردية
ومآزقها ومساراتها الصاخبة بالخيبة والانكسار: بهذا، يُمكن اختصار البناء
السرديّ الحكائيّ لـ"هذا المكان الضيّق"، من دون الادّعاء بأن الاختصار
واف. فالتفاصيل الجانبية مهمّة، لأنها جعلت المتن أقوى درامياً، وإن ظهرت
خطابية ما بين وقت وآخر. البداية مهمّة، لاكتفائها بتقديم الشخصيتين كما
هما، وبرسم صورة عن واقع الحال الذي يعيشه الشابان، كل واحد منهما في بلده،
أو في بلد الآخر، أو في الفكرة المتداولة عن بلد الآخر. ولأن المدخل
الدرامي إلى العلاقة الملتبسة بينهما منفتحة على هدوء ظاهريّ يُراد له أن
يكون واجهة لحقائق محدّدة من دون إضافات، ذهب "هذا المكان الضيّق" في
اتّجاهه إلى قراءة المعالم المتكاملة في نسجها الحبكة.
قيل في الفيلم إن أجواءه المعتمة "شبه كابوسية". غالب الظنّ أن
المناخات المسيطرة على بلدي الشخصيتين الرئيسيتين حسن وكريس فرضت هذا النمط
من التعاطي البصري والإنساني. ذلك أن الأجواء فيهما مشحونة بالتوتر وانسداد
الأفق، وإن اختلفت الأسباب والوقائع. وثقل الحياة اليومية ضاغط بقوّة على
الشابين، إلى درجة لا تُحتمل، أحياناً. ما يعني أن الأجواء "معتمة" فعلياً،
وأن هناك ما يُشبه الكابوس، لأن ضيق المكان يُنتج أشكالاً وصُوراً وحالات
كهذه. لأن ضيق المكان قد يفتح نافذة على الأفق المسدود، أو كسره.
من داخل المهرجان في
19/10/2011 |