حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان برلين السينمائي الدولي الثاني والستون

"برلين 62":

وانغ كوانان يكتب تاريخ الصين وتشارليز ثيرون تعود مراهقة!

هوفيك حبشيان - برلين

400 فيلم عُرضت في دورة مهرجان برلين التي انتهت الأحد الماضي بفوز الأخوين تافياني. يستحيل على الزائر مشاهدة أكثر من عشرة في المئة منها حداً أقصى. ما يثير الابهار، أي هذا الاكثار، هو تحديداً ما يتحول موضع نقد في كل دورة.

هناك من يحمّل الادارة الفنية الحرتقة ولملمة نتاجات بصرية عديمة الذوق والرؤية، واحتكار تيمات: هناك مثلاً قسم مواز لا يكتمل من دون كوتا معينة من الأفلام التي تُعنى بشؤون المثليين. لا فيلم يُنجز عن الحقبة النازية الا ويجد طريقاً سالكة أمامه الى برلين، حتى لو كان يتعاطى مع النازيين باعتبارهم غزاة يأتون الى الأرض من كوكب آخر، وهذا ما نراه في "سماء معدنية" للفنلندي تيمو فورينسولا.

هذه الأيام القليلة التي تفصل عادة انطلاق المهرجان عن نهايته، تفتح أيضاً مجالاً واسعاً للتكهن من سيكون في كانّ في أيار المقبل. من الآن بدأت الترجيحات تسير دربها المعتاد: كيارستمي، هانيكه، وانغ كار واي، ساليس، كروننبرغ؟ لم يتأكد من كل هذه التكهنات سوى تولي ناني موريتي رئاسة لجنة التحكيم. في دورة تداخلت فيها اللهجات واللغات والمصادر الانتاجية ليتحول البرنامج معها الى نوع من صومعة تعبّر عن الهويات الثقافية لأوروبا الجديدة، هناك أفلام تصدرت، منها: "تابو" للبرتغالي ميغال غوميز (نال جائزة مؤسس المهرجان ألفرد باور)، يعرفنا الى السيدة العجوز اورورا، التي تكتشف جارتها أن حياتها حملت تراجيديا عاطفية كبيرة في سنوات وجودها في أفريقيا. فيلم ممتاز، لا يترك فيه غوميز مجالاً للتوقعات. بالأسود والأبيض وصورة مربعة، حرص الفيلم على جعل الحوارات عصية على السمع في بعض الأحيان، رافضاً النمط الرومنطيقي في تعريف الماضي ومحاكمة مَن لا يزال في داخله حنين الاستعمار، فكلٌّ ضحية بيئته.

"ثائرة" للكندي كيم نغويين، الذي كُشف عنه النقاب في آخر أيام المهرجان، هو الآخر أغوى النقاد. صُوِّر الشريط العنيف هذا في الكونغو مع ممثلين غير محترفين، ويغوص بنا في جحيم حرب دائرة في إحدى المناطق الأفريقية. تُرغم الفتاة الصغيرة، بطلة الفيلم، على مرافقة المتمردين الى الأدغال بعد أن تُحرَق قريتها على أيدي متمردين ويُقتَل اهلها. سحر، وتشرد، وقلوب سقيمة في عمل يقف على الشفرة، ويقول مأساة فتاة يتعمد الثوار تجريدها من انسانيتها. اذ عند هؤلاء اسلوب همجي في الاقتصاص من الشخص، وهو ارغامه على القتل، والعيش تالياً معذب الضمير. الفيلم انسانيّ في طرحه، وأتاح لراشيل موانزا ان تنال جائزة أفضل ممثلة. لحظة اعلان فوزها كانت لحظة مؤثرة لكل فريق الفيلم. ثمة تشابه بين ما عاشته راشيل في حياتها، والدور الذي اضطلعت به على الشاشة. كيم نغويين عثر عليها في الشارع وأسند إليها دور البطولة، وها ان العالم أجمع يصبح شاهداً على صراخ الطفل الذي في أحشاء امرأة في الخامسة عشرة.

من بين اليم الوفير من الأفلام التي تحتل فيها المرأة الصدارة: "طفلة راشدة" يتيح لتشارليز ثيرون العودة الى مدينتها ذات الحياة المضجرة بعدما كانت تحولت كاتبة معروفة نسبياً في مكان، حظوظ الشهرة أكبر وأوسع. انها امرأة في السابعة والثلاثين، فائقة الجمال، لكن الخيبات المتتالية جعلت منها كاراكتيراً قاسياً يرفض أن يكبر، ويرفض أن يرى العالم الا من برجه العاجي. ليست عودتها الى مكان شهرتها الاولى الا نتيجة عدم رضا عن وضعها، محاولة اخرى لاقتفاء آثار تجربتها المدرسية السابقة والعودة الى حضن المراهقة. يمنح جايسون رايتمان ثيرون أفضل دور لها منذ "وحش" الذي نالت عنه "أوسكار" أفضل ممثلة عام 2003، كعادته في إشاعة مناخ من اللؤم.

المخرج الصيني وانغ كوانان يحلم منذ عشرين عاماً بتصوير ملحمته "باي لو يوان" (بالعربية "هضبة الغزلان البيض"). كوانان البالغ من العمر السابعة والأربعين، كان سبق أن نال عام 2007 الدبّ الذهبي عن "زفاف تويا"، ودخل هذه السنة المسابقة البرلينالية في اللحظة الأخيرة، أي بعد اعلان لائحة الافلام المشاركة. هذا الفيلم كان يستحق الدبّ الذهبي، لكن كلاسيكيته المفرطة والمبهرة، ونفسه الملحمي ربما لم يفوزا بقلوب أعضاء لجنة التحكيم التي لم تر فيه سوى أن يكون أهلاً لأفضل مساهمة تقنية (للمصور لوتز رايتاماير). يقول كوانان في حديث له إن تصوير أي فيلم هو مسألة غاية في الصعوبة، فما بالك اذ كان التصوير في جمهورية الصين الشعبية. رواية زونغشي شين، شكلت للسنوات العشرين الماضية، مادة تجاذب بين السينمائيين والمنتجين والسلطة، ولا أحد استطاع ان يذهب بالأصل الأدبي الى الشاشة، نظراً الى وجوده في اطار الحظر والمحاصرة والفكرية. بحسب كوانان، لم يبق هناك مخرج صيني مهم لم يحاول أفلمة الرواية. هو الوحيد، بين الجميع، استطاع أن يلتمس روحية نصّ كبير ينقل ثلاثة عقود من تاريخ يجد مقبرته في مرحلة الامبرطورية والإقطاعية، ثم تعود اليه الحياة مع بداية انبثاق الحركات العمالية والنشاطات النقابية التي تزامنت مع اقتحام الفكر الشيوعي للعقل الصيني.

يقول كوانان: "المرة الاولى التي بدأت اتهيأ لتصوير الفيلم، كان ذلك عام 2005، لكن وجب عليّ العزوف عن الفكرة، لأنه لم يكن في حوزتي ما احتاجه من مال. بدلاً منه، انجزت "زفاف تويا" الذي نال "الدبّ الذهبي" في مهرجان برلين السابع والخمسين. بعد ذلك عدت الى العمل على الفيلم. هذه المرة لم تكن المشكلة متعلقة بالمال، بل بعدم حيازتي تصريحاً يسمح لي بالتصوير. فعدت مجدداً الى مشاريع أخرى، وانجزت فيلمين آخرين، قبل أن أنال الموازنة والموافقة على انجاز العمل". لكن، برغم تأكيد كوانان ان السينمائيين في الصين، يحظون اليوم بحرية أكبر اليوم مما كان لديهم في الماضي، فالدولة الراعية كل شيء، هي التي كانت خلف عدم قدرة كوانان على اطالة مدة عرض الفيلم الى خمس ساعات. طبعاً، نحن أمام فيلم يختلف عن "الحفرة" مثلاً لبينغ وانغ (2011) الممنوع تماماً من العرض في الصين. فثمة أسطرة في فيلم كوانان، ليس مديحاً بالصين العظيمة بل تعظيماً لمعناها في قلب كوانان. يكفي مشهد الافتتاحية وتكفي المعالجة البصرية المدهشة للبيادر ولقطات الجنس القاتمة والمواجهة بين الحاكم والمحكوم. انه اعادة تقويم كامل لمرحلة بعيون مثقف له مخزون فكري واسع، تدفعنا الى تساؤلات كثيرة حول كيفية كتابة التاريخ.

النهار اللبنانية في

23/02/2012

 

 

أسئلة عن السينما العربية ... والحروب المهيمن الأول

برلين - قيس قاسم

كان للعرب في الدورة الـ 62 لمهرجان برلين السينمائي حضور خاص، جاء بمعظمه بفضل الثورات لا بفضل السينما، ومع هذا، فالأمر يستحق من المعنيين بها وقفة تقويمية، كونها من المرات القليلة التي تهتم المهرجانات العالمية بها بهذا المقدار. ومع قوة حجة الذين يرون فيها «موضة» غربية نابعة من اهتمام سياسي يسبق السينمائي ويتجاوزه، فالمشاركة نفسها قد تحفز لدينا بحث ما يليها وتُملي علينا أسئلة، من قبيل: كيف يمكن استثمار هذا الظرف والوجود الاستثنائي لمصلحة السينما العربية نفسها؟ كما طُرحت في الندوات التي نظمتها الدورة أفكار مهمة قابلة للسجال، مع ان غالبيتها ركزت على دور وسائل الإعلام في نقل الصورة التلفزيونية «الفيديو» أكثر من النشاط السينمائي الصرف. ونقلت في الوقت ذاته المخاوف من «الواقع الجديد» ومن احتمال طرد عُملَة المحافظين الصاعدين الى قمة الهرم السياسي، «العُملة السينمائية» القديمة، على ما فيها من نواقص وضعف.

ومن هنا نجد ان ثمة قَلَقاً حقيقياً عَبَّر عنه متحدثون كُثر في الندوات وخارجها، من احتمال تراجع النتاج السينمائي في مصر مثلاً، ومن اضـــطرار بعض السينمائيين الى الخروج من بلدانهم تاركين المجال لهيمنةٍ تُكرِّس المحافظةَ على حساب الانفتاح والتقدم في الفـــن، هذا إذا لم تتجه القوى الصاعدة ذاتها الى تقليص حضوره الى أقصى حد. وعلى مستوى الصنعة، تَبايَن مستوى الوجود العربي، فغالبية الأفلام الروائية كانت مقبولة المستوى، وـــكان «إقحام» موضوعاتها بالثورة محدوداً، فظلت بعيــدة بمسافة معقولة عنها، مثل فيلم «الجمعة الأخيرة».

وقد يعود سبب ذلك الى زمن إنتاج بعضها السابق للربيع العربي أو المتزامن مع بدايته، فيما يبقى الخوف الحقيقي من إسراف مقبل ومفتعل يربط عِنوة الحدث السياسي بالسرد السينمائي، أو يبرز تغليب المادة التسجيلية الآنية على التحليلية، كما لاحظناه في الوثائقيات المشاركة التي غَلَب عليها «طابع الفيديو» مع وجود بعض الجيد والمفاجئ أحيانا، مثل «ظل الراجل».

قريباً من السياسة ... بعيداً منها

في كل دورة من دورات المهرجانات الكبيرة، يدور كلام كثير حول مزاجية رئيس لجنة تحكيمها وهواه، وهذه السنة في برلين تكرر الأمر ذاته مع المخرج الانكليزي مايك لي، الذي توقع كثيرون تفضيله -عند توزيع جوائزه- السينما اليسارية على ما سواها. وعزز ذاك التوقع ميل رئيس المهرجان نفسه نحو سينما تعكس الصراعات السياسية والطبقية، والتي عبّر عنها بوضوح في كلمته أثناء افتتاح ندوتين عن السينما العربية. ومع كل ذلك، يبقى المُنتَج السينمائي في المحصلة هو من يُبصم المهرجانات ببصماته، وهو الذي يعكس الواقع موضوعياً، فالسينما حالها حال بقية الفنون، تعكس الواقع المادي والوجودي نسبياً، وليس العكس، فيما تظل مسألة تفسير كلمة «الواقع» نفسها مصدراً للخلاف والجدل! بخاصة أن هناك حصراً شائعاً لها في البناء السياسي الاقتصادي الاجتماعي يقلل في الغالب من قوة الفردي، الوجودي، للكائن البشري فيها.

من هنا يبدو فوز فيلم «قيصر يجب أن يموت» للأخوين تافياني، بجائزة الدب الذهبي، بعيداً من الخيار والميل السياسي المباشر لرئيس لجنة التحكيم، إذا حصرنا الأمر بالفهم السطحي للواقع... غير أن الأمر سيبدو شديد التماس به حين ننظر الى الكائنات المسجونة داخل أسوار السجن الإيطالي بوصفها نتاجاً لواقع بلاد أنتجت قيصر متسلطاً في الماضي، كتب عنه شكسبير عملاً كشف فيه الصراع الدائر بين الحكام وبين بقية الشعب الموهوم بمجد قادته العظام. وإذا كانت عبارة شكسبير في مسرحية «يوليوس قيصر» «حتى أنت يا بروتوس!»، قد عبرت عن معنى التفاجؤ بالخروج عن الولاء، فإن سجناء إيطاليا اليوم يرددونها لا بمعناها القديم ذاته، بل بمعنى يناجي رغبتهم في الخلاص من عذاب السجن ومن الظروف التي أوصلتهم اليه عبر لغة كامنة في دواخلهم، معبَّر عنها بالنص الشكسبيري، تتمنى وبقوة وجود بروتوس المُخَلِّص بينهم.

أوروبا... قارة مأزومة

في مهرجان أوروبي كبير، من المنطقي أن تنعكس مشكلات القارة على كل المستويات، والفيلمان الهنغاري «مجرد رياح» والألماني «بيت للعطلة»، قد يصلحان لتحليل واقع دول أوروبا سينمائياً، على مستويات مصغرة بالطبع، فالقارة اليوم موزعة بين أزمات اقتصادية واجتماعية، تؤثر بشكل كبير على علاقات أفرادها في ما بينهم، وبين مشكلات حديثة الظهور بشكلها المعلن والصريح. يقيناً هناك عدا هذين الفيلمين عشراتٌ أخرى لامست تلك المشكلات، إلا أن درجة تعبيرهما المكثفة للظواهر المشار اليها تشجع على اختيارهما نموذجاً، ناهيك بفوز الهنغاري بجائزة الدب الفضية. في «بيت للعطلة» لهاز كريستيان شميت، نجد ظلال العلاقات الرأسمالية واضحة الدرجات عبر فتور علاقة أفراد العائلة في ما بينهم، فكل واحد منهم كان منشغلاً بمشروعه الخاص غير عابئ بدرجة التمزق التي يعيشها الآخر.

يبدو العالم وفق ما نشاهده متمركزاً في ذوات أنانية تحدد مصالحها حجم علاقتها بمن يحيط بها، حتى داخل عائلة صغيرة ميسورة الحال، ويفسر خوفها من خسارة رفاهيتها عزلتها الشديدة عن بقية هموم العالم. ليس «بيت للعطلة» وفق رؤية شميت إلا تصغيراً للنموذج الأوروبي الموزع بين قيَم مادية وعلاقات رأسمالية، وبين رغبة حقيقة للتواصل الإنساني، تتصادم في أحيان كثيرة في ما بينها وتجتمع وفق قانون استمرارية الحياة. يقترب الهنعاري «مجرد رياح» من هموم القارة الجديدة عبر مشكلة أكبر تتعلق بوجود الغجر المكثف في دول شرق أوروبا وما يتعرضون له من عسف وتمييز عنصري يُذكِّر بممارسة النازيين الألمان ضد غيرهم من أديان وشعوب ليست آرية الجنس ولا أوروبية نقية الدم، فالسينما الأوروبية اليوم معنية بالظاهرة التي تتناقض بالكامل مع قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، ولهذا شاهدنا قبل مدة ليست ببعيدة فيلماً سلوفاكيا بعنوان «الغجري» عالج المشكلة ذاتها، وفي برلين جاء بنس فليجوف ليقترح علينا نصاً سينمائياً جديداً، متفردا يهز دواخل من يشاهده ويحفزه على التفكير في موضوع لا يمكن السكوت عنه.

التطرف والحروب

إذا كان المخرج دالدري اختار في فيلمه «عالٍ جداً وقريب بشكل لا يصدق» الهدوء والإيقاع الداخلي المتوتر أسلوباً يعالج به موضوعاً صاخباً مثل تفجيرات 11 ايلول (سبتمبر)، فإن بريانتي مندوزا أراد الحركة السريعة والإيقاع المتسارع طريقاً يوصل به حال المخطوفين على أيدي جماعة أبو سياف المتطرفة في فيلمه «أسيرة»، المنقول عن قصة حقيقية. الفيلمان ذكّرانا ثانية بالخوف الكامن في نفوس الناس من الإرهاب والمنظمات التي ترعاه، والتي صارت تشكل خطراً يتجاوز مناطق بعينها الى مساحة تمتد لقارات. أفلام الحرب كثيرة، كما هي الحروب في الواقع، وقد انعكست بوضوح في برليناله الأخيرة، سواء في مسابقتها أم خارجها.

ما تجدر الإشارة اليه هو الاهتـــمام بالحرب اليابانية الصينية من منـــظور صيني شديد الانحياز، سواء على مستوى القراءة التاريخية لها أم في سرديات درامية منقولة من نصوص أدبية، كما فـــي فيلم «وادي الغزال الأبيض». الاهتمام السينمائي تعبير ضمني كما نظن عن أهمية الصين اليوم على المستوى الاقتصادي الــــدولي وناتـــج عملي لقوة إنتاج سينمائي فرضت نفسها على مهرجانات عالـــمية كبيرة. على جانب آخر، يبدو الكندي «ساحرة الحرب» لكـــيم نيجوين أقرب الى مراجعة لظاهرة مخيفة برزت خلال الحروب الأهلية الأفريقية وراح ضحيتها أطفال كثر أجبروا على المشاركة فيها على غير إرادتهم. الأكيد أن الحرب والسياسية كانا من أبرز اتجاهات الدورة 62، وقد يظلان هكذا في دورات برلين المقبلة أو غيرها من المهرجانات مادام وجودهما مستمراً، ولكونهما يعبران عن مصالح متداخلة تأخذ أشكالاً ومناحي مختلفة ستجد السينما نفسها معنية برصدها، فهي في النهاية مرآة عملاقة تعكس دوماً كل ما يجري في الحياة وفي دواخل البشر.

الحياة اللندنية في

24/02/2012

 

في برلين..

وثائقيات وندوات عن الثورات والسينما

قيس قاسم ـ برلين

توافقت الندوات التي نُظمت في الدورة الثانية والستين مع مضامين المعروض من أفلام وثائقية عربية الى حد كبير، ويعكس هذا التوافق النسبي وبدرجة معينة إهتمام مهرجان برلين السينمائي الدولي بما يجري من حراك جماهيري في منطقتنا، فيما تتقارب موضوعات الوثائقية نفسها من ذات الأسباب ف" الثورة.. خبر" و" كلمات الشاهد" تناولا علاقة الصحافيين بالثورة والأخيرة له صلة بفيلم "ظل راجل" كونهما إقتربا من واقع المرأة والحاجة الى  تغييره.

في قلب الأحداث

في فيلمه  "الثورة.. خبر" يعطي بسام مرتضى المجال واسعاً لمجموعة من الصحافيين العاملين في "المصري اليوم" ليتحدثوا عن تجاربهم في نقل مجريات الثورة المصرية، في المقابل أعطوه ما توفر عندهم من تسجيلات أرشيفية ومادة خام خففت كثيرا من إعتماده الكلي على الكلام وهي نفسها من ساعدت على توفر لغة سينمائية  معقولة أمنت التوازن المطلوب. فكل واحد منهم كان يقرن كلامه وتجربته بتسجيلات، في الغالب هم من قام بها، فعززوا بذلك من صدقية الشريط ليأتي كشهادة حية على عمل شجاع قام به هؤلاء، مع خروقات جد كبيرة "للإحترافية" قاموا بها وما كان بإمكانهم، وسط هول ما شاهدوه، الإلتزام  بقواعدها فكانت تغطيتهم مصحوبة بمشاركة شخصية في الثورة وتعاطف مع الثوار مع أداء عمل صحافي يومي دون توقف.

ربما كان للفيلم أن يأخذ منحاً أكاديمياً يناقش مفهوم العمل الصحافي والحدود الفاصلة بين المهني وبين الموقف الإنساني، لكنه رغم ملامسته لهذا الجانب فَضَل نقل المعايشة على البحث في دور وسائل الإعلام في الثورة المصرية والذي قد يعالج بروية في مقبل الأيام. أحاديث الصحافيين الستة تشابهت على مستويين. الأول الحماسة للعمل وعدم تركه للحظة والثانية وصف مشاعرهم وإنطباعاتهم على ما شاهدوه خلالها، وقد إنعكستا بقوة لدرجة يمكن ملاحظته دون عناء داخل الشريط، وكلا المستويين تشاركا فيه النساء والرجال، على قدم المساواة.  ومن نفس المؤسسة إختارت مي اسكندر في فيلمها "كلمات الشاهد" الصحافية الشابة العاملة في القسم الإنكليزي لصحيفة (المصري اليوم) هبة عفيفي  لترسم لها بورتريتاً سينمائيا تعكس فيه تجربتها في العمل على تغطية جزء من يوميات الثورة. توزع الوثائقي بين مسارين الأول أهتم بهبة وظروف حياتها العائلية وبين تجربة العمل وسط أجواء خطرة ومشحونة بالتوتر الدائم. قوة شخصية هبة على صغر سنها أعطت للمخرجة إمكانية عرض متغير قد لا يكون ملحوظاً لغير المصريين، يتمثل في ظهور شباب متعلم وقادر على إستخدام التقنيات الحديثة في الإعلام مع توفره على قدرة لغوية جيدة، مثل هبة التي تكتب بالإنكليزية وتتشارك معها مجموعة من نفس سنها تتفاعل فيما بينها عبر النقاش وتقديم الملاحظات بعيدا عن الأساليب القديمة، إنها شابة من جيل يفترض بالثورة الإهتمام به فهمم نواتها ومحركها المستقبلي وعداه سيكون ثمة خطأ في مسارها. ومن مصر أيضاً جاءت مجموعة نساء في شريط وثائقي جميل تحدثن فيه عن تجاربهن الحياتية وموقفهن من الرجل. ومع أنه يعتمد على لغة مباشرة فقد وفقت المخرجة حنان عبد الله في نسج وشائج طيبة بينهن أثمر عن ثقة متبادلة إنعكست في حرية الكلام أمام كامرتها والتي عوضت هذة المرة وبشكل إستثنائي عن الحاجة الكبيرة للمادة البصرية. في "ظل راجل" حرية الكلام والبوح أكتسبا قوة الصورة وأكسبا الوثائقي حيوية تجر المشاهد الى تفاصيلها والتفكير بها. وإذا كانت هذة العناصر التكوينية للفيلم فأن أحد مميزاته الدرامية أنه فَكه فيه مساحة الكوميديا المعبر عنها بالكلام واسعة مع عمق في معناه. فيلم "ظل راجل" يستحق التونية وإهتمام جمهور برلين به يؤكد ذلك مع أن أغلب ما عرض من وثائقيات إستقبلها الجمهور بتعاطف وقبول.

ندوات عن السينما والثورات

أكثر من ندوة نظمت في الدورة حول علاقة السينما ونقل الصورة بأكثر من وسيلة تقنية الى الجمهور، ومدى درجة التفاعل الحقيقي بين الإنتاج البصري بمجموعه مع الحراك السياسي والشعبي الذي تشهده منطقتنا شارك فيه عدد من المخرجين والمنتجين الى جانب الإعلاميين وكان من بينهم علاء كركوتي، الناقد والمساهم في أكثر من ندوة والذي خصنا بحوار قَيَّم فيه المساهمات العربية وأهمية استغلالها في برلين مؤشرا الى ظهور ما يشبه "الموضة الجديدة" في العالم تهتم  بما يجري عندنا، كما إهتمت من قبل بالسينما الإيرانية مدة وبسينما أمريكا اللاتينية مدة أخرى، وهذا موجود منه في برلين اليوم ولكن الى جانبة موجود أيضاً إهتمام حقيقي بالسينما لهذا هناك توازن بين الميلين يمكن ملاحظته عبر إختيارهم لفيلم "الجمعة الأخيرة" للأدرني يحيى العبد الله، مثلا،  فهو ليس فيلماً عن الثورة ويمكن أيضاً ملاحظة وجود حضور عربي كثيف في "مخيم المواهب" الذي يهدف الى كشفها في العالم كله.

وأضاف: حلقات النقاش ليست محصورة بالثورات العربية وبالأفلام التي وثقتها فهناك رغبة قوية للإستماع لضيوف المهرجان من أجل معرفة واقع السينما عندنا، ومسؤليتنا هي استغلال الفرصة لعرض ما هو متوفر لدينا من قدرات وإمكانيات، فهذا الإهتمام قد يترجم الى  دعم مالي وإنتاجي في المستقبل يخدم سينمتنا العربية. أما النقاشات نفسها بين الضيوف العرب فهي تمثل خلافات وإختلافات في الرؤية الى المشهد العربي، وقد لا تصل كلها الى الجمهور الألماني ولكنها قد تشبع الحاجة عند المختصين والإعلاميين الذي يريدون معرفة المزيد منا، فنحن بحاجة الى الى تشكيل رأي عام في الغرب خاصة قد يتحول الى ضغط  يفرض نفسه على ساستهم. وأصر كركوتي على عدم الإكتفاء بالقول ان مهرجان برلين يحتفي بالسينما العربية في هذة الدورة بل التأكيد بأنه إهتمام بالجيد الذي عندنا، فمعظم الأفلام المشاركة مستوياتها معقولة وهي تستقطب جمهورا برلينياً ويتوقع أن يشاهدها، مستقبلا، جمهورا كبيرا في مناطق أخرى من العالم.    

الجزيرة الوثائقية في

23/02/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)