استكمالا لمحاولة قراءة الافلام الفائزة بجوائز الدورة الخامسة
لمهرجان الخليج السينمائي يمكن أن نسوق في البداية تأكيدا على فكرة التوجه
نحو استخدام"الطفولة"كثيمة سردية ودرامية ترتبط بالطرح البيئي والفكري
والأنساني الذي تتمحور حوله العديد من تجارب المخرجين الخليجيين فيما يمكن
أن يرهص"بظاهرة"ربما تمتد داخل حيز زمني قد يتسع او يضيق على حسب تطور حركة
السينما الخليجية– خاصة القصيرة وهي الأكثر زخما وقوة- وتراكم الخبرات
الأبداعية لدى صناع الأفلام او شعورهم بأستنفاز روح الطفولة واطارها
واسلوبيتها وحكائيتها للأغراض التعبيرية التي يسعون إليها.
قبل أن نخوض في تحليل بعض نماذج الأفلام الفائزة بالمسابقات الخليجية في
المهرجان من زاوية "حضور الأطفال"ربما يجب أن نشير على عجالة إلى التجارب
التي بلورت تلك الرؤيا وحققتها على مستوى المشاهدات العديدة لمختلف برامج
المهرجان.
أصوات
ربما كان من الجائز أن نستعير هنا تلك الثيمة الرائعة التي قدمها
المخرج البحريني الشاب"حسين الرفاعي"في فيلمه القصير"أصوات" لنلخص بها وجهة
النظر القاصدة إلى التعبير عما يمكن أن تنطوي عليه تجارب صناع الأفلام
الخليجية بخصوص "حضور الاطفال سينمائيا"
الفيلم يبدأ وينتهي صوتيا قبل أن يعلن عن نفسه بصريا وذلك في تساوق
ناضج حيث تقدم الصورة ذروتها بناء على ما اسس له الصوت كليا, في البداية
نسمع "أصوات اطفال" تجري وتلعب وتمرح بشكل فطري ومريح سمعيا حيث ذلك الصخب
الطفولي الرائق الذي يشعرك أنه صوت الحياة بالفعل في واحدة من تجلياتها
الأنسانية الجميلة ثم تبدا الكاميرا في استعراض اركان بيت صغير لا اثر فيه
لهؤلاء الأطفال وكأنها تبحث عنهم وتدريجيا يتوحد المشاهد مع رغبة الكاميرا
في العثور على مصدر هذه الأصوات الطفولية الجميلة التي تحتل شريط الصوت
والفضاء البصري للبيت –ايهاميا- دون أن يكون لها وجود مادي ملموس, بينما
تظهر تلك المرأة متوسطة العمر في موقف امومي بحت (من خلال لقطات مختلفة
القرب والأحجام) وهو عملية اعداد الطعام التي ترتبط دون الكثير من التفكير
في ذهن المشاهد بأصوات الأطفال الذين بلا شك ينتظرون في لعبهم وتلاهيمهم
الصاخب تناول هذا الطعام, وفي اللحظة التي يتصور فيها المتلقي أن الأم
"الحزينة" سوف تخرج علينا بتنوعية مليلودرامية تخص الفقر أو العوز أو المرض
الذي قد يتبادر من خلال ديكور البيت البسيط وحالة الصمت الحزين الذي تتسربل
به الأم نكتشف تلك الذروة البصر/صوتية حين تتوقف الأصوات فجأة وتذهب الأم
في لقطة قريبة ليدها إلى كاسيت بدائي صغير كي تعيد تشغيل شريط كاسيت هو
ما/من يبث لنا اصوات الأطفال ليتخذ الفيلم كله في تلك اللحظة بعدا تراجيديا
ووجوديا فخيما فهي امرأة تعيش بجدسها في الحاضر لكن روحها وعقلها يعيشون في
الماضي مع اصوات اطفالها الذي لا ندري هل كبروا وتركوها ام غادروا البيت
والحياة, فالسبب هنا لا يهم ولكن الدلالة الأقوى هي فكرة الحياة التي لخصها
المخرج في اصوات الأطفال وكيف أن حركة الجسد في الواقع لا تعني بالضرورة
اننا احياء وموجودين في الحاضر طالما أن اروحنا قد تكون سجينة الماضي, وان
الحياة – على مستوى أخر- لا يمكن أن تحتمل دون ان يكون ثمة تلك
الروح"الطفولية" بالمفهوم الفلسفي الأوسع للكلمة التي نظل نستعيدها ولو
ظاهريا فقط لكي نقنع انفسنا أننا لازلنا على قيد الحياة او أن حياتنا كانت
ذي معنى في وقت من الأوقات وأن هذا المعنى يمكن أن يسترد ذات يوم إذا
حافظنا على استعادته ولو بالتذكر.
ان هذا الأستطراد في تحليل فيلم"اصوات"هو جزء من تأكيد زاوية التحليل
الأساسية التي اتخذناها لمجموعة الأفلام الفائزة بجوائز المهرجان لأن تلك
"الأصوات الطفولية" تبدو حاضرة بشكل جلي في الكثير من التجارب الخليجية
القصيرة والطويلة ومن هنا ليس غريبا أن يكون "صوت الأطفال" ملمح اساسي في
معظم الأفلام الفائزة.
الطفولة حياة ومستقبل
من الأفلام القليلة ويكاد يكون الفيلم الوحيد الذي تم فيه استغلال
المترو في دبي-وهو أحد الأنجازات المدنية والأنشائية الحديثة نسبيا في هذه
المدينة الفضائية- كموقع تصوير تدور فيه الأحداث فيلم"انتظار"للمخرجة
الاماراتية هناء الشاطري والذي يدور حول رجل يجلس في محطة المترو في انتظار
القطار فيلتقي بفتاة غامضة تنظر إليه وتبتسم وتبدو كمن يحمل له سرا غريب.
وفي الفيلم الاماراتي"اصغر من السماء" للمخرج عبد الله حسن أحمد وهو
أحد انضج التجارب البصرية التي عرضت خلال دورة المهرجان –التصوير لسمير كرم
والمونتاج لوليد الشحي- نتعرف على تلك الحالة الوجودية لطلفة تنشاء بينها
وبين عصفور-متخيل- علاقة صداقة قبل أن يتعرض اهلها لحادث سير عنيف بين
الجبال وقد قدم المخرج عبد الله حسن مستعينا بمدير تصويره ومونتيره تجربة
شديدة القوة لتصوير امرأة –والدة الطفلة- الممثلة الخليجية الواعدة زهرة-
محتجزة داخل سيارة مقلوبة بأستخدام زوايا كاميرا واحجام لقطات شديدة
التركيز والطزاجة وتعد مغامرة بصرية بكل المقاييس على مستوى السينما
الخليجية الواعدة خاصة مع الامكانيات التي تتيحها كاميرات الD5
عالية الجودة-المستخدمة في اغلب التجارب الخليجية- وسهولة
التعامل معها على مستوى الأضاءة, حيث أن اغلب لقطات الفيلم مصورة بضوء
طبيعي موظف بشكل فني جيد لأعطاء تأثير الحيادية والضياع اللذان تشعر بهم
المرأة وهي متحجزة في مقعد السيارة بينما ابنتها وزوجها ينزفان حتى الموت
بجانبها.
ومن الأفلام التي يتجلى فيها حضور"صوت الطفولة" جليا واضحا على الرغم
من غياب الطفل/الأطفال بالمعنى المادي الفيلم الكويتي العماني
المشترك"باندا" للمخرج جاسم النوفلي حيث نتابع يوم في حياة شاب على وشك ان
يتزوج وكيف يذهب إلى الصحراء وبشكل تراجيدي مسرحي للغاية يقوم بطعن دمية
"الباندا"الخاصة به ودفنها في دلالة على مرحلة التحول التي يمر بها من كونه
"طفلا" يلعب إلى"رجل" وزج مسئول عن بيت وزوجة, وفي ليلة الدخلة يكتشف أن
أحدهم قد احضر له هدية ملفوفة بشكل انيق وعندما يفتحها يجد دمية"باندا"
جديدة بدلا من تلك التي"قتلها" فروح الطفولة جزء من الحياة والرجل لا يودع
الطفل الذي بداخله عندما يتزوج ولكنه يستعيده مرة
أخرى ولكن بشكل وظروف مختلفين فالحياة تحتاج دوما أن نكون
اطفالا في بعض الأحيان كي تتجدد بنا.
وفي فيلم المخرج السعودي مجبتي سعيد "حياة" نشاهد هذا الأطار التجريبي
الذي تظهر فيه طفلة صغيرة تمسك بكاميرا 8 مم لتصور بها نفسها وهي كبيرة
فحياة الشابة العربية التي تعيش في المانيا تعاني من أزمة هوية حين تضيع ما
بين عالمين, عالم اهلها الذين يرفضون علاقتها مع شاب الماني ويطرودونها من
البيت وازمة صديقها الالماني الذي يعيد إنتاج عملية الطرد عندما يسلم ويدخل
في مرحلة التطرف الديني ويعتبرها رجس من عمل الشيطان, هنا تظهر الطفلة التي
تتخيلها حياة والتي هي نفسها حياة الصغيرة لتبلور شعور حياة الداخلي بانها
طفلة ضائعة تبحث عن متكأ نفسي ومنطقي للتعايش مع المجتمع والواقع من خلال
الكاميرا التي تحملها الطفلة لتصويرها داخل هذا العالم الجنوني.
ومن الأفلام التي تتمحور حول الاطفال كمعادل موضوعي لفكرة الغد والمستقبل
ثمة هذا الفيلم الكردي العراقي الرقيق"داليا"للمخرج شاخوان عبد الله حيث ان
اسم الفيلم مأخوذ من اسم الطفلة داليا ابنة الكردي الطيب الذي يصطحبها من
بلدته إلى كركوك لعلاجها من اثر العمى التي ولدت به بعد تعرض اهلها للاسلحة
الكيماوية في عملية الانفال الانتقامية الشهيرة.
لكن كما دمر صدام ماضي العراق بنزعته القتالية يأتي عراق ما بعد صدام
ليكمل مسيرة قتل الأبرياء من خلال العمليات الأرهابية التي تنفذ كل يوم
فداليا تدخل إلى مطعم شعبي مع ابيها ليفاجأ ان الجالس امامه ارهابي يحمل
حزام ناسف يجبر والد"داليا"على ارتداءه مهددا اياه بداليا نفسها وعندما
يفيق الأب ليكتشف انه كان يحلم تنفجر فيه وفي ابنته بالفعل سيارة مفخخة
فالمستقبل وان لاح امنا فهو مجرد تصور وهمي لان الخطر لا يزال يهدد تلك
البلاد الممزقة.
البايسكل والحمير
لم يكن فوز فيلم "بايسكل"العراقي للمخرج رزكار حسين بجائزة افضل فيلم
قصير و افضل سيناريو بمفاجأة لمن تابع مسابقة الافلام الخليجية القصيرة فهو
فيلم شديد الكثافة والعمق سواء على مستوى الكتابة او الاخراج وليس انحيازنا
له لانه يتسق وفكرة "ًاصوات الطفولة" التي طرحنا كزاوية قراءة للجوائز حيث
ان ابطاله من الأطفال ولكن لانه تمكن من خلال هذا العالم الطفولي المتمحور
حول شئ بسيط مثل الدراجة/البايسكيل من تقديم قراءة فلسفية واجتماعية للعالم
الحالي بتفاوته الطبقي وصراعاته الاجتماعية الناتجة من تفاوت المستويات
الأقتصادية.
نحن امام مجموعة من الأطفال الفقراء الذين يعيشون في بلدة ما لا نعرف
اسمها وهو تجريد مقصود من السيناريو ولا يجدون عملا سوى جمع المخلفات
المعدنية من القمامة بينما نتابع عملية الاستحواذ التي تسيطر على
الطفل"هزار" لامتلاك وقيادة دراجة ولانه من عائلة فقيرة جدا لا يجد مفرا من
محاولة التقرب من طفل اخر غني يملك دراجة خاصة لكنه لعين ومتعالي وشرير
يقايض هزار على انه يمنحه ركوب الدراجة في مقابل أن يركب هو فوق ظهر هزار
كالحمار.
هنا تتجلى شعلة الصراع الطبقي فرغم أن الفتى الغني المدلل كان من
الممكن ان يمنح هزار ركوب العجلة بلا مقابل خاصة انه في احد المشاهد يخرج
لهزار كومة نقود كبيرة لا تناسب كونه طفلا مما يدل على انه غني جدا ومدلل
لدرجة الأفساد إلا انه يصر على ان يركب "هزار" مثل الحمار في اهانة طبقية
وانسانية عميقة وجارحة, وبينما يخدعه هزار في المرة الاولى ويركب الدراجة
دون أن يمنحه فرصة الركوب على ظهره يعود فيستسلم ويحمل كالحمار بل ويتقبل
في مازوخية غريبة ان يطلق عليه الفتى لقب "حماري" كل هذا نتيجة استحواذ
شهوة ركوب الدراجة عليه.
ويؤدي انصايع هزار وراء رغبات الفتي المدلل إلى أن يقبل بقية الأطفال
بحمل الفتى الغني في مقابل ركوب الدراجة وهو ما يخلق طبقة كاملة من
"الاطفال الحمير" الذي يركبهم "الطفل الغني" لمجرد أنه يمتلك ما لا يملكون.
كان من الممكن ان يتوقف الفيلم عند هذه النقطة التي تمثل ذروة نقد
اجتماعي وسياسي جيدة لكنه كان ينظر إلى المستقبل ويحاول أن يجيب على السؤال
الاجتماعي الذي طرحه(ماذا يمكن أن يفعل الاطفال بدلا من أن يقبلوا بركوبهم
كالحمير؟) تبرز الاجابة من خلال عزيمة اخو هزار المريض الذي يقاوم المرض
بإرادة واضحة على ملامحه فهو نصف مشلول(وهو اختيار جيد لمرض له علاقة
بالساقين اللذان هما العضو الاساسي في ركوب الدراجة).
يمنح أخو"هزار"اخاه النقود التي كان يدخرها ويطلب من هزار ان يعمل
ليكسب نقودا ولا يترك احدا يركبه مثل الحمار فلا يكون من"هزار"سوى أن يجتمع
هو واصدقائه من"الاطفال الحمير" ويقومون بعملية تكافلية تمنكهم من شراء
دراجة خاصة بهم جميعا في دلالة لفكرة المجتمع التكافلي وتلميس على الأفكار
الأشتراكية القديمة.
تحررهم الدراجة الجديدة التي كسبوها بالعمل من ركوبهم كالحمير من قبل
الطفل الغني المدلل بل و تمكنهم من الدخول معه في سباق يقود فيه هزار
الدراجة ويقهر الطفل المدلل كرمز لحسم الصراع الطبقي لصالح الطبقات الأدني
التي تتكافل وتتمكن من تحقيق اهدافها إذا ما رفضت فكرة الأنسياق وراء
الاجابات السهلة او الركوب كالحمير من قبل الطبقات الارقى اقتصاديا.
على مستوى الأخراج تعامل المخرج بشكل تجريدي مع ساحة البلدة واستخدم
الكثير من اللقطات العامة والبعيدة التي تجعل ساحات اللعب ولقاء الاطفال
كخلفية كأنها العالم الواسع ولم تكن هناك ثمة مشاهد داخلية سوى قليلا جدا
فيما يخص منزل هزار واسرته الفقيرة فالحمولات البصرية كلها يتم افراغها في
الخارج حيث الأفق الممتد والصراع الطبقي الازلي كذلك لم يقترب المخرج من
شخصياته في لقطات قريبة لأنه لا يتعامل معها بشكل شخصي ولكن كنماذج تحمل
دلالاته الفكرية وبالتالي لا يتمكن المتلقي من تذكر وجوه الاطفال بعد
الفيلم لكنه يظل مستحوذا بوجود الدراجة التي هي المعادل الموضوعي لفكرة
الصراع الطبقي الأنساني.
طفلة واقعية
اقدمت المخرجة الكويتية الشابة"دانا المعجل"على مغامرة سينمائية عندما
حاولت أن تقتبس تيمة وشكل رواية "اليس في بلاد العجائب" لدي اتش لورانس في
معالجة عربية قصيرة وفقتها للحصول على جائزة افضل اخراج في مسابقة الأفلام
الخليجية القصيرة.
دانا حاصلة على ماجيستير في الفنون الجميلة وتخصصها في السينما
والفيديو وذلك من معهد كاليفورنيا للفنون وبلاد العجائب قصة واقعية هو اول
افلامها.
والملاحظة الاولى هي اسم الفيلم بالتأكيد"بلاد العجائب-قصة واقعية"
فمن المعروف أن"اليس في بلاد العجائب"هي قصة فانتازية تحمل الكثير من
الدلالات الفكرية والفلسفية وتوظف خيال الأطفال في صياغة البيئة والشخصيات
والاحداث من خلال شخصية الطفلة الحالمة"اليس"التي تدخل في مغامرة طويلة
داخل بلاد العجائب عبر تتبع ارنبها الأبيض الشهير"بني بني", اما ان تتحول
تلك الوقائع الفنتازية إلى دلالات واقعية فهو ما يشير إليه العنوان بشكل
مباشر فأليس التي تقدم دورها هنا الممثلة الشابة "فاطمة القلاف" طفلة كبيرة
ترصد بحكم نظرتها المنطقية التفاوت الكبير بين رقم الواحد في لعبة
الكوتشينة "الآس" وبين اعتباره بقيمة عددية أكبر.
انها فكرة التفاوت الكبير في القيمة هي ما يشغل اليس العربية وهي في
رحلتها الطويلة ما بين شخصيات وأماكن بلاد العجائب تلتقي بكل من تتصور أن
بيده عملية التغيير المطلوبة و من هنا تتخذ الشخصيات المعربة اشكالا
ودلالات تخص المجتمعات العربية التي تخضع للبيروقراطية والفساد الداخلي
وسيطرة اصحاب النفوذ والتي تلتقيهم في شخصيات حفلة الشاي الشهيرة والذين
يملكون هنا الاختام او الارنب الموظف الذي يملك استلام المعاملات ولكنه
يؤخرها مثل اي موظف حكومي بيروقراطي او شخصيات التؤوم التي لا تؤدي نصائحهم
سوى لمزيد من التيه والضياع أو شخصية الملكة نفسها نموذج السلطة الفاسدة.
قامت دانا بالتصوير في اماكن كثيرة وبيئات مختلفة وكانها تصيغ الفيلم
بصريا من خلال نظرية العناصر الاربعة حيث
الماء(البحر)والتراب(الصحراء)والهواء(في الحدائق والشاطئ)واخيرا النار.
ورغم الطول النسبي للفيلم وافرازه لمواقف مكررة مما تسبب في بعض
الغموض إلا انه يمثل تجربة تؤسس لمخيلة سينمائية مختلفة من الواضح أنها
اكتسبت الكثير من الخبرة عبر الاحتكاك بثقافات سينمائية متعددة كما ان
المخرجة تملك تلك الشجاعة"الطفولية" التي تجعلها تقدم على صياغة مشروع
فانتازي يحمل الكثير من النقد السياسي والاجتماعي في مجتمعات لا تزال حرية
التعبير فيها مرصودة.
ان الطفلة العربية"اليس" هي رمز التمرد المستقبلي الذي تحمله الأجيال
الجديدة في رغبتها بأخضاع كل شئ لمنطق جديد ورفض المتوارث والعادي
والمتعارف عليه وهي باصرارها وتشوفها وايمانها بأمكانية التغيير تخوض
المغامرة في بلاد العجائب/العربية الواقعية وفي النهاية لا يصبح فكرة تغيير
القيمة العددية "للآس" هي المهم ولكن الاكشتاف والرحلة التي قطعتها
والأفكار التي ناقشتها والتوابهات التي حطمتها هي الاهم فكريا وفنيا.
اطفال حلبجة
كما لاحظ القارئ الكريم فإن اهتمامنا هنا انصب على محاولة قراءة
الأفلام الروائية القصيرة التي عرضت خلال دورة المهرجان الخامسة ولكن يبقى
الأشارة إلى ان الفيلم الطويل الفائز بجائزة افضل فيلم وافضل سيناريو في
مسابقة الافلام الخليجية الطويلة هو فيلم"حلبجة- الأطفال المفقودون" إنتاج
وتأليف وتصوير وإخراج اكرم حيدو وهو مخرج كردي من اصول سورية والذي يتحدث
عن"الهولوكوست الكردي"المعروف عسكريا بأسم عملية الانفال والتي قام فيها
صدام حسين بضرب الأكراد بالأسلحة الكيماوية عام 1989 على خلفية محاولة
اغتياله وراح ضحيتها 182000 كردي.
ان عنوان الفيلم يكفي بالنسبة لنا كي يدعم فكرة حضور"صوت الطفولة" في
افلام الدورة الخامسة رغم أن الفيلم يتحدث عن تيمة نمطية قدمت عنها الكثير
من الأفلام الروائية والوثائقية. ان علي الشاب العشريني يعود إلى كردستنا
ليقف امام قبر طفل يحمل اسمه ليبحث بين خمس عائلات عن اصوله الأسرية حيث
تبحث تلك العائلات الخمس عن طفلها المفقود اثناء القصف الكيماوي وفكرة
الطفولة المفتقدة التي تمثل المستقبل الضائع والماضي الأليم كنا قد اشرنا
إليها بحديثنا عن الفيلم العراقي القصير"داليا".
وقد
نافس "حلبجة-الاطفال المفقودون" في مسابقة الأفلام الطويلة مع الفيلم
العراقي "انا مرتزق ابيض" للمخرج الكردي الأيراني طه كريمي وهو ايضا عن
"الهولوكوست الكردي" ولكن من خلال شخصية سعيد جاف أحد القادة العسكريين
الأكراد الذين تعانوا مع صدام ابان عملية الانفال وقد قدم المخرج فيلمه في
اطار من التسجيلية الشعرية على الرغم من تفاصيله التاريخية ولكن يبدوا أن
وجود فكرة الأطفال الغائبين في "حلبجة" بكل ما تحمله من دلالات فكرية
وسياسية وفنية قد رجحت كفة الفيلم في ميزان الجوائز هذا العام.
الجزيرة الوثائقية في
01/05/2012
نجاح كرم.. في مرآة السينما *
بشار إبراهيم
غادرت «نجاح كرم» الحياة، يوم السبت 14/01/2012. في المسافة ما بين
مهرجانين سينمائيين، رحلت. ما بين مهرجان دبي السينمائي الدولي الثامن،
الذي اختتم أعماله في 14/12/2011، ومهرجان الخليج السينمائي الخامس، الذي
انطلق في 10/4/2012، كان الرحيل. فكان مهرجان دبي السينمائي الدولي الثامن،
آخر مناسبة سينمائية تتواجد فيها، على الرغم مما ألمّ بها، وأمضّها.
وما بين أسفٍ وحزنٍ، وتسليمٍ بقضاء الله، عزّ وجلّ، كانت صورتها
الباهية تتألّق، لامرأة استطاعت أن تحقّق أجلّ ما يمكن، في عمرها القصير،
ولصديقةٍ بَنَت عماراتٍ عالية من الاحترام والتقدير، ولأختٍ تفيض مودّةً
ورقّةً. كاتبة عرفها القرّاء في وطنها. شغوفة عرفها السينمائيون المتابعون
للمهرجانات العربية. هادئة قدّرها كل من التقاها. وسمعة عَطِرة سوف تبقى.
على مدى قرابة عشرين سنة، احترفت «نجاح كرم» الكتابة. كانت إطلالتها،
شبه اليومية، على جمهور واسع من القرّاء، والمتابعين، والمهتمّين. لم
تتوقّف عند حدود الكتابة في الشأن السينمائي، فقط، بل اتسع موشور اهتمامها،
وتنوّع، وتلوّن، حتى كاد يغطي على مختلف شؤون الحياة، وشجونها. ليس من
المبالغة في شيء القول إن «نجاح كرم» لم تترك شيئاً مما يهمّ الإنسان
الكويتي، العربي، المسلم، ومما يهمّ كل إنسان على وجه البسيطة، دون أن
تتناوله بقلمها، متأمّلة فيه، ومتألّمة له.
كتبت «نجاح» في السينما. وبدت في كثير من الأحيان، أنها كانت تأخذ من
الكتابة في السينما ذريعةً لقول ما تريد، وفي سبيل الخوض في كثير من
القضايا والموضوعات الراهنة، والمسائل الملحّة، والأسئلة المُعقّدة. من
الحرب التي اكتوى بها بلدها؛ الكويت، والعرب والعالم عموماً، إلى أنشودة
السلام والأمن والأمان، التي رهنت لها الكثير من كلماتها وكتاباتها؛ زوايا
وأعمدةً ومقالات.
كانت السينما بالنسبة لها مرآةً تنظر فيها، فترى الإنسان، الحياة،
الماضي والحاضر والمستقبل. صارت السينما عندها مدخلاً مناسباً، إن شاءت
الحديث في أمور التربية والأخلاق، والدفاع عن الدين، وتظهير صورته
الحقيقية، في مواجهة من أرادوا به شراً؛ شططاً أو تشويهاً. كما كانت
السينما أداتها في مناهضة كل ما يؤذي مجتمعها، وبلدها، ووطنها، وأمّتها.
ففي السينما وجدت الأسلوب الأكثر قدرة على العون، لدن محاولة التعبير عن
الهوية الدينية، والوطنية، والقومية، والإنسانية.
نقرأ اليوم كتاباتها، فنجد أحاديث متواصلة عبر السنوات، متناغمةً
كأنما ثمة خيط خفيّ ينظمها جميعاً، وما كان هذا الخيط إلا هي، برؤاها،
وأفكارها، وقناعاتها، وإيمانها، وتناسق انتقالاتها من مرحلة إلى أخرى، ومن
زمن إلى غيره، في انضباط فكري، مستعينة بالصبر والأناة، والهدوء والتدقيق،
قبل كل كلمة تكتبها، وكل موقف تتّخذه.
آمنتْ بالمستقبل، وأدركتْ أهمية الشباب، فمنحتهم القسط الوافر من
اهتمامها، ودعتْ لفسح المجال أمامهم، دون أن تنسى نصيب الكبار والروّاد من
التقدير والاحترام. مجتمعها هاجسها، على المستويات جميعها. نقده وتقويمه
ودفعه على الطريق السديد، سعياً كي يتبوأ المكانة اللائقة به بين الأمم؛ ما
يليق بإمكاناته وخيراته، البشرية والطبيعية. الصراحة عنوانها، فكان هذا
عنوان أحد زواياها الصحافية التي كتبت تحته الكثير مما تريد قوله، وترجوه
أن يصل إلى القلوب والعقول، قبل العيون والأسماع.
تكتبُ في السينما، دون أن تُفلت المسرح، والإذاعة، والتلفزيون، وسائر
الفنون والآداب، ووسائل التعبير والإبداع. تكتبُ، وينكشف الكلام عن اهتمام
لا يُدانى بالإنسان، أولاً وتالياً. لا تميل إلى الثرثرات الجوفاء، ولا إلى
النظريات المُترفّعة، ولا العبارات المُفخّمة. بساطتها من بساطة الإنسان
نفسه. قضيتها قضيته، وهمومها حاله، وأوجاعها مما يؤلمه.
من خلال الحديث عن السينما، انتقدت الصورة النمطية المُشوّهة عن
«الخليجي»، تلك الصورة المُتوهَّمة في أذهان البعض، بمن فيهم من العرب
والمسلمين، والغرب وغير المسلمين، والتي تظهر بين حين وآخر في كتاباتهم،
وأفلامهم. تماماً في وقت لم تكفّ فيه عن دعوة جميع القوى، من قطاعات حكومية
وأهلية للمبادرة والمساهمة في تحقيق الأفلام التي يمكن لها أن تقدّم الصورة
الحقيقية عن الخليج، ومجتمعاته، وناسه، وقضاياه، بتوثيق تاريخه، ورسم
حاضره، واستشراف آفاق مستقبله.
في كتاباتها عن السينما، دائماً ثمة قضية جوهرية تتناولها، وموضوعاً
هاماً تناقشه، ومصير تخاف منه، أو عليه. من الواضح أنها لم تحبّ السينما
لأجل السينما، ولا انشغلت بها أبداً، لولا أنها أدركت أن السينما قادرة على
التعبير عن حال إنسان القرن العشرين، ومطالع القرن الحادي والعشرين؛ إنسان
زمن «ثقافة الصورة». لم تكن «نجاح كرم» من عشّاق الترف الفكري، ولا اللهو
والمتعة. كانت عاشقةً للإنسان، في أدقّ تفاصيله، وللوطن في أوسع أمدائه،
ولأجل هذا كتبتْ وناضلتْ.
في غالبية مقالاتها، مما كتبته عن أفلام، أو تغطية لفعاليات مهرجانات،
لم تترك فرصة للتوقّف أمام ما يهمُّها، إلا وفعلت. دائماً حاولت تصحيح
النظرة المغلوطة لفن السينما، تلك النظرة المُشوّهة التي تنتشر في أوساط
معينة في بلدها الكويت، وبلدان عربية أخرى، خليجية وغير خليجية، بذريعة
الحفاظ على القيم والأخلاق، وبذريعة تَعارض فن السينما مع «قيمنا
وأخلاقنا»!.. فكان لـ«نجاح كرم» صولات وجولات في التأكيد على أنه من الممكن
صناعة تلك السينما التي نريد، والتي تتوافق عميقاً مع «قيمنا وأخلاقنا»،
فتعزّز إنسانيتنا، وتطوّر واقعنا، وتعالجنا من أمراضنا، وتقدّم صورتنا
الرائعة.
ودائماً، أظهرت «نجاح كرم» انتسابها ومناصرتها لقضية المرأة، الكويتية
بدايةً، والعربية والمسلمة تالياً، والمرأة الإنسان حيثما كانت، على هذه
الأرض. آمنت بإمكانيات المرأة، وقدرتها على الفعل، وبأهمية دورها السياسي
والفكري الثقافي، والاجتماعي التربوي التعليمي، والاقتصادي الفاعل، وبرقيّ
مكانتها، وأن الخلاص من الواقع الراهن، والانطلاق إلى المستقبل المأمول، لن
يكون بدور المرأة، ودورها، وفاعليتها، المستندة على تحررها، وأخذها لدورها.
نقرأ كتابات «نجاح كرم»، ونتأمّل في تراثها الذي تركته لنا، وندرك أن
كلّ ما كتبته، أو كلّ ما أمكن لنا قراءته مما كتبته، يؤكد أنها كانت
«ناشطة». كانت ناشطة حقيقية، كما في الواقع، كذلك في الكتابة. ورغم أنها
كتبت في الصحافة، والنقد، ورغم أنها أنتجت أو ساهمت في إنتاج الأفلام،
ومارست أدواراً إدارية معروفة، فإنها بقيت تحتفظ بالصفة الأساسية، التي نرى
أنها تليق بها؛ إنها ناشطة بالقول والفعل، ناشطة في الحياة، والموقف،
والسلوك، كما هي ناشطة بالرأي والكلمة. لقد قرنت القول بالفعل.
خالدٌ ذكركِ بيننا.. وليتغمّدك الله برحمته، وواسع غفرانه.
*
من مقدمة كتاب «في مرأة السينما»، إصدار مهرجان
الخليج السينمائي، إبريل 2012.
الجزيرة الوثائقية في
30/04/2012 |