اعتاد «مهرجان الخليج السينمائي»، منذ تأسيسه في العام 2008، الاحتفال
بالفيلم الروائي القصير، تحديداً. اعتاد إتاحة مجال واسع أمام هذا النوع
السينمائي، الخليجي والعربي والأجنبيّ. فعلى الرغم من تخصيصه مسابقات رسمية
بالأفلام الروائية الطويلة والوثائقية، إلاّ أن الفيلم القصير، المتحرّك
والعاديّ، عثر على مكانة أوسع له في البرامج الرسمية، وفي مسابقة خاصّة به
أيضاً. وإذا بدا الاهتمام بالفيلم الخليجي القصير واضح الأسباب والمعالم،
لكونه الأكثر رواجاً والأسهل إنتاجاً (بعيداً عن كل تقييم نقدي)، فإن
مبادرة إدارة المهرجان الخليجي إزاء الأفلام القصيرة العربية والأجنبية
شكّلت محاولة إضافية لإيجاد حيّز إبداعي لصناعة رائجة في الغرب، ولنتاج لا
يزال مخرجون عرب عديدون متحمّسين له.
جماليات القصير
في الدورة الخامسة (10 ـ 16 نيسان 2012) لهذا المهرجان، تمّ تثبيت
مسابقة رسمية خاصّة بالأفلام الدولية القصيرة، ضمّت خمسة عشر فيلماً جديداً
اختيرت من دول عربية وغربية متفرّقة، وأُنتجت في العام 2011، باستثناء
فيلمي «الحاضنة» (النمسا) لكريستوف كوشينغ و«الفنار» (أذربيجان) لفاريز
أحمدوف، المُنتَجين في العام الجاري. هذه المسابقة أُنشئت في العام الفائت،
ولاقت رواجاً لقدرتها على اختيار بعض أفضل العناوين السينمائية اللافتة
للانتباه، كتلك المختارة في الدورة الخامسة أيضاً. أفلام لافتة للانتباه،
التقت حكايات بعضها عند «تيمة» واحدة: الموت، سواء اكان مباشراً، أم ظلَّل
طيفه الفضاء الدرامي، والحياة اليومية لأفراد معينين. لكن الموت، الجذر
الدرامي الموحِّد حكايات أفلام عدّة، مفتوح على أسئلة إنسانية مختلفة
بمناخاتها وتفاصيلها وآلامها. وهو، لكونه نواة الحياة ومصيرها، لم يظهر
بشكل مباشر، ولم يبق أسير ملامح مبطّنة فقط، لأنه تُرجم بصرياً في أشكال
متنوّعة، كالإسراف في تعاطي المخدّرات ومصير المتعاطي والقريبين منه
(الفنار)، أو الانصياع لقسوة الحالة الراهنة، فإذا بمولودة تدفع ثمن انهيار
والديها (الحاضنة)، أو المرض (الروماني «الرجل الخارق، الرجل العنكبوت أو
الرجل الوطواط» لتودور غيورغيو)، أو الإحباط واليأس والسقوط في متاهات
الدنيا والحياة (البولندي «قصص مجمّدة» لغريغورز ياروزوك، الذي اتّخذ
السخرية الكوميدية مناخاً له، والبرازيلي «المصنع» لأليسون موريتيبا،
الفائز بالجائزة الثانية في «المسابقة الرسمية الدولية للأفلام القصيرة»،
المتعمّق بالأسى الفردي في إطار مبسَّط وجميل وصادم بشفافيته الإنسانية).
أما الموت المباشر أو الملتبس، فحاضرٌ في «تحليق» (سويسرا) للمغربية نعيمة
بشيري، و«ضفدع الشتاء» (فرنسا) لسلوني سو، و«النور يا نور» (فرنسا)
للّبنانية هدى كرباج. هناك أيضاً أفلام أخرى خارج المسابقة يُمكن إضافتها
إلى هذه اللائحة، أبرزها الإيراني «من أجله» لسيّد مرتضى سبزقبا، والفرنسي
«سرعة الماضي» لدومينيك روشي.
لم يكن الموت «تيمة» وحيدة لأفلام عربية وأجنبية شاركت في المسابقة
الرسمية، أو في برنامجي «أضواء» و«تقاطعات». اختراع فوضى التفاصيل، وإضفاء
مسحة هزلية ساخرة على مسار حكائيّ، سمة فيلم «ميلودراما مصطنعة» (سنغافورة،
2011) للإيطالي جيوفاني فانتوني مودينا. معاينة الإطلالة الأولى لصبيّ في
بداية المراهقة، وعلاقته بالمرأة حبّاً وهياماً، اختزال ما لـ«من ورا
الشبّاك» (لبنان، 2011) للّبنانية نغم عبّود. التقاط تفاصيل عادية لأناس
متنوّعي الاهتمامات والتحرّكات، في لقطة سينمائية واحدة بلغت مدّتها ثماني
دقائق، ميزة «النهاية» (المجر، 2011) لبالاز سيموني. في مقابل هذا، تمثّل
الفيلم الإماراتي «تجسيد» (2011) للمصرية مرام عاشور بمحاولته تفكيك الذات
الداخلية لصبيّة تبحث عن خلاص، وتطرح أسئلة مرتبطة بالحياة والسلوك
والعلاقات. وأعاد «الحساب» (مصر، 2011) للمصري عمر خالد، الفائز بجائزة
لجنة التحكيم الخاصّة بـ«المسابقة الرسمية الدولية للأفلام القصيرة»، رسم
تفاصيل متداولة في الحياة اليومية المصرية، كالقمع البوليسي والاجتماعي
والفقر والكبت الجنسي، في إطار هرمية معقّدة، تبدأ من سلطة رجل أمن متوار
عن الأنظار، وتنتهي في قاع المجتمع الممزّق.
يوميات
استُلَّت المواضيع المختارة في هذه الأفلام من يوميات الناس العاديين،
المحبطين والممزّقين والقلقين والتائهين والباحثين عن خلاص، أو عن دمار
نهائي. علماً أن غالبيتها الساحقة اعتمدت بساطة القراءة الإنسانية،
المختزنة عمقاً وجودياً أو بُعداً جمالياً لبشاعة الحياة الساحِقة ضحاياها
الكثيرين. هذا كلّه في مقابل معالجات درامية أصيلة في استخدام تقنياتها
المتفرّقة، وإن عاب بعضها خلل هنا، أو ارتباك هناك، أو اشتغال متواضع
هنالك. مثلٌ أول: اللقطة الوحيدة التي صنعت «النهاية»، جعلت تفاصيل الحبكة
أوضح وأجمل، بتحريرها من الحوارات، وباعتمادها لغة الحركة والسلوك مساراً
لعدسة كاميرا التقطت وجوهاً وحالات ذاهبة بناسها إلى أقصى بساطتها. قدّم
الفيلم شخصيات متفرّقة أثناء مرورها أمام الكاميرا، أو عند ممارستها حياتها
داخل الكاميرا أو عبرها، من دون أن تنطق بكلمة واحدة. مثلٌ ثان: «المصنع».
بدأ الفيلم ممارسة سخريته المرّة من العنوان. لكن اكتشاف السخرية احتاج إلى
بعض الوقت، قبل أن تتوضّح صورته. فالمصنع تعبير استخدمه الأب المسجون في
اتصاله الهاتفي مع ابنته، أثناء احتفالها بعيد ميلادها، مخفياً عنها وجوده
في السجن، الذي أسماه «المصنع». لكن بلوغ هذه المرتبة احتاج إلى تراكم
بصريّ مال معظمه إلى الصمت التام: والدة المسجون تستعدّ لزيارته، وتخبّئ
هاتفاً خلوياً في مكان حسّاس في جسمها. لعبة سينمائية بارعة في مرارتها
المبسّطة، وجماليات فضائها الدرامي والإنساني. مثلٌ ثالث: بساطة التصوير
والمعالجة الدرامية نواة «من أجله». كأن البساطة قدر الأفلام الإيرانية،
المفتوحة على أسئلة الحياة والمجتمع والموت والذاكرة والحكايات الفردية.
جزء أساسي من النصّ السينمائي أخفى الجزء الأهمّ: الصيّاد العجوز يعيش
وحيداً، ويتنقّل بين الأمكنة بحثاً عن حاجات متفرّقة. عثوره على صندوق كبير
وضعه أمام اختبار جديد. لكن شكل الصندوق يُحيل المرء إلى التباس معناه، بين
خزانة وصندوق وتابوت. أما النهاية، فمختلفة: بدا أن للعجوز «علاقة» ما
بشهداء حرب تمّ التغاضي عنهم سابقاً.
الفيلمان اللبنانيان «النور يا نور» لكرباج و«من ورا الشبّاك» لعبّود
مختلفان بعضهما عن البعض الآخر: الأول مشبع بالقهر والألم والانقطاع عن
واقع بدا قاسياً في مرحلة لاحقة من المسار الحكائيّ. الثاني مرتكز على
بساطة واضحة في متابعة تفاصيل الهاجس اليومي لصبيّ مُغرم بامرأة جميلة.
الشقّ الأول من «النور يا نور» غنيّ بلغة سينمائية جميلة: التصوير،
المونتاج، الإضاءة، الكادرات، التمثيل. هذا كلّه حول شابّة مقيمة في باريس،
تحاول جاهدة الاتصال هاتفياً برقم ما، لكن الخطّ مقطوع. الشقّ الثاني أقرب
إلى الإخباريّ: شخصيات مُصوّرة فوتوغرافياً، وأصوات توجّه رسائل إلى نور.
هؤلاء أناس لفظتهم الحرب الأهلية. انتقلت هدى كرباج من حالة سينمائية
جميلة، إلى لحظة إخبارية مناقضة تماماً لجماليات الصورة والاشتغال الدرامي.
المعلومات المبثوثة في نهاية الفيلم (تفاصيل عن الحرب الأهلية، وعدد
القتلى، والجيش السوري، وانتفاضة الاستقلال... إلخ.) جعلته توثيقياً بحتاً،
لا يتلاءم وجمالياته الأولى. أما نغم عبّود، فحافظت على سياق تبسيطي عاديّ
منذ بداية «من ورا الشبّاك» حتى نهايته.
كلاكيت
هوس خليجي
نديم جرجورة
يحتمل «مهرجان الخليج السينمائي» نقاشاً نقدياً دائماً. دوراته الخمس
محطّة تأسيسية لحالة سينمائية مفتوحة على اختبارات أولى، وتجارب تخطو بثبات
نحو الاحتراف. دوراته هذه بداية مسار يُفترض به أن يُنتج مزيداً من الحرص
على تطوير الوعي المعرفيّ والاستخدام الإبداعي للتقنيات. دوره واضح: إتاحة
المجال أمام مخرجين خليجيين شباب لتقديم أفلامهم المتنوّعة. منح هذه
الأفلام فرصة إبراز ما يمتلكه صانعوها من موهبة، أو شغف، أو رغبة في العمل
البصريّ. التناقضات واضحة هي أيضاً: الأعمال «المحترفة» قليلة جداً، قياساً
إلى الكَمّ الهائل من الأعمال المُنتَجة سنوياً. التفاوت كبيرٌ بين مخرجين
ودول خليجية، علماً أن المخرجين يُبادرون إلى العمل الفردي، بعيداً عن أدنى
اهتمام جدّي للسلطات الحاكمة، ولمعظم مكوّنات المجتمعات الخليجية.
هذه صورة تختزل واقعاً حيوياً. هناك «هوس» شبابي خليجي بالإخراج
السينمائي، متناقض والغالبية الساحقة من النتاجات المحتاجة إلى تأهيل جذريّ
يطاول الجوانب كلّها للصنيع الفني. في المقابل، هناك هاجس إبداعي لصناعة
صورة سينمائية حقيقية، يحرّض عدداً قليلاً من الشباب على مزيد من المعرفة
والاجتهاد الاحترافيّ. الأهمّ من هذا كلّه، أو بالأحرى ما يُكمِّل هذه
الصورة، متمثّل بنقاش بدا أن شباباً خليجيين يمارسونه بعضهم مع البعض
الآخر. نقاش مفتوح على آليات العمل، تقنياً وجمالياً. هناك وعي بأن مآزق
جمّة تعانيها صناعة الصورة السينمائية الخليجية، أبرزها عدم اهتمام كثيرين
بالاختصاصات السينمائية المتنوّعة، كالكتابة والتصوير والإدارة الفنية
والتأليف الموسيقيّ وتصميم الأزياء وغيرها. أبرزها، أيضاً، غياب الوعي
بضرورة التنسيق الإبداعي بين أدوات التعبير السينمائي، بدءاً بعلاقة
الكتابة برسم الشخصيات وتحديد المعالم الدرامية، وصولاً إلى التوليف
والتمثيل وإيجاد «تكامل» ما بين المسار الدرامي والاستخدام الموسيقيّ مثلاً.
لا يعني هذا أن النقاش آيل، قريباً، إلى تبديل أحوال الواقع الإنتاجي
السينمائي في دول الخليج العربي والعراق واليمن، أي الدول المنضوية في إطار
«مهرجان الخليج السينمائي». فالنقاش متواضع جداً، ومحصورٌ بعدد قليل للغاية
من المعنيين جدّياً بالهمّ الإبداعي السينمائي. في حين أن الغالبية الساحقة
من المشتغلين في الصناعة البصرية منفضّة عن المعنى الأهمّ للفن السابع، وعن
كونه خلاصة معارف وثقافات واختبارات واختصاصات، من دون تناسي أهمية
المتخيَّل في الكتابة والصناعة معاً. لكن النقاش المذكور حاضرٌ. حضوره
نابعٌ من وعي واهتمام: وعي بخطورة المآزق، واهتمام بإيجاد حلول ما لها.
النقاش المتواضع خطوة يُفترض بها أن تُرافق البدايات التأسيسية لسينما
شبابية خليجية، قدّم «مهرجان الخليج السينمائي» بعض جمالياتها، وإن كان
عددها قليلاً للغاية. بالإضافة إلى النقاش، هناك العمل الميدانيّ أيضاً:
شباب من هنا وهناك يلتقي بعضهم البعض الآخر في أطر جماعية، لتنظيم العمل
الإنتاجي من خلال مؤسّسات أو جمعيات أو منتديات، تتيح لهم التواصل والعمل
وتبادل الخبرات والمعرفة والاختصاصات.
التأسيس صعب. لكن بداياته الخليجية جدّية وثابتة.
نجاح كرم: «في مرآة السينما»
بعد ثلاثة أشهر على رحيلها، إثر إصابتها بمرض سرطانيّ، صدر للزميلة
الكويتية نجاح كرم كتاب بعنوان «في مرآة السينما»، أرادته إدارة «مهرجان
الخليج السينمائي الخامس» تحية إليها، وللجهود التي بذلتها في مواكبة
الحراك السينمائي في الكويت ودول الخليج العربي تحديداً. بدا الكتاب، الذي
قدّمه مدير المهرجان وأعدّه الزميل بشّار إبراهيم، واضعاً له مقدّمة تناولت
سيرة الراحلة واهتماماتها، بمثابة استعادة لفصول من التاريخ السينمائي
الكويتي والخليجي، عبر مختارات مستلّة من مقالات وتحقيقات وحوارات، عكست
اهتمام الراحلة بشتّى أمور السينما وفضاءاتها المختلفة.
السفير اللبنانية في
19/04/2012
"مهرجان
الخليج السينمائي الخامس"
مفتوح على اختبارات متفرّقة ونقاشات نقدية
نديم جرجوره
تكمن إحدى أبرز سمات الدورة الخامسة (10 - 16 نيسان/ أبريل 2012)
لـ"مهرجان الخليج السينمائي" في منحها مخرجين خليجيين فرصة حقيقية للتعبير
المباشر عن بعض هواجسهم العملية في الاشتغالات السينمائية المختلفة. ذلك أن
الحوارات المفتوحة بين هؤلاء القادمين إلى دبي من مدن خليجية متفرّقة،
جعلتهم يتصارحون بعضهم مع البعض الآخر، وبينهم وبين ضيوف هذه الدورة أيضاً،
حول شتّى المسائل الفنية والجمالية والدرامية التي يهجسون بها. وإذا شكّلت
أفلامهم أداة تعبير ما، إلاّ أن اللقاءات العديدة أتاحت لهم مناقشة
أفلامهم، بطرحهم أسئلة العمل التقني، وعلاقة الكتابة بالتنفيذ الإبداعي،
وكيفية استخدام الموسيقى والأزياء والديكورات، وغيرها من الفنون التقنية
المهمّة. طرحوا الأسئلة، فبدوا "نقّاد" أنفسهم، بناء على وعيهم الواضح مآزق
العمل السينمائي في بلادهم المحتاجة إلى بنى تحتية وثقافة سينمائية. بدوا
منتبهين تماماً إلى معوقات تحول دون تأسيس حقيقيّ لسينما يتطلّعون إلى
إنشائها وفقاً لـ"محليّة" تراثية، مطعّمة بانفتاح على النتاجات الإبداعية
العربية والغربية. بدوا مستعدّين لمزيد من الاشتغال الذاتيّ، والتعاون
بعضهم مع البعض الآخر، لإيجاد أرضية ثابتة تسمح ببناء عالم سينمائي متكامل
ومتماسك.
بين النقاشات النقدية الصريحة، والأفلام المشاركة في المسابقات
الرسمية الخاصّة بالأفلام الخليجية الطويلة والقصيرة، بالإضافة إلى أفلام
الطلبة، مرّت الأيام الأولى من الدورة الخامسة للمهرجان، الهادف إلى بلورة
مشروع سينمائي خليجي، وإلى تأمين حدّ أدنى من مقوّمات العمل والثقافة
السينمائيين. القيّمون على المهرجان منتبهون إلى أن ما يفعلونه لا يكفي،
لأن الحاجة ملحّة إلى معاهد سينمائية وثقافة فردية وجماعية وقناعة ذاتية
بأهمية السينما والاجتهاد في تعلّم تقنياتها. شباب خليجيون قالوا واقعهم
بصراحة تامة: هناك خلل سينمائي يبدأ بالكتابة، ويشمل المقوّمات التقنية
والجمالية كلّها. هناك "هوس" بأن يكون الجميع مخرجين، في مقابل قلّة قليلة
من الشباب المتحمّسين للعمل في تقنيات أخرى، كالتوليف والتأليف الموسيقيّ
والإدارة الفنية والتصوير. هناك هوّة بين الدراما السينمائية واستخدام
الموسيقى. هناك نقصّ في التثقيف السينمائي، في ظلّ غياب أدنى اهتمام
بالأفلام غير التجارية البحتة، سواء في البرامج التلفزيونية، أم في برمجة
العروض التجارية في الصالات العامّة. هناك رغبة في التدريب الميدانيّ، لكن
غياب حركة سينمائية، كتلك الموجودة في دول الصناعات السينمائية (مصر،
هوليوود، دول أوروبية عديدة)، يحول دون ذلك، علماً أن ورش العمل وحدها لا
تكفي، وإن كانت قادرة على منحهم بعض التدريب الميدانيّ.
هذه نماذج خاصّة بالمناخ العام، المرافق لهذه الدورة الخامسة. نماذج
خاصّة بنقاش حاصل في أروقة المهرجان، وخارجها أيضاً. نماذج مستلّة من
الأفلام الخليجية المُشاركة، التي عكس بعضها القليل حيوية الإخراج، والعمل
الجدّي في المجالات التقنية المختلفة. لكن هذا كلّه لا يتغاضى عن مسألة
أساسية: في مقابل الخلل التقني والجمالي، برزت أهمية مواضيع عديدة،
إنسانياً وسياسياً وحياتياً. أي أن التوازن بين الشكل والمضمون كان لمصلحة
الثاني على الأول، في أغلب الأحيان. أبرز الأمثلة: فيلم الافتتاح "تورا
بورا" للكويتي وليد العوضي. إنه حكاية أبوين كويتين يواجهان تحدّيات شتّى
في رحلة بحثهما عن ابنهما المراهق، الملتحق حديثاً بتنظيم "القاعدة" في
جبال "تورا بورا" في أفغانستان. رحلة مكشوفة على طبيعة خلاّبة وإن كانت
قاسية، كـ"الطبيعة القاسية" لبعض البشر، ومنهم أولئك الذين تلطّوا وراء
الدين الإسلامي لتنفيذ أعمال إجرامية. مشكلة الفيلم تقنية: معالجة درامية
وتوليفاً وتمثيلاً ومساراً حكائياً. هناك أيضاً "خسوف"، الفيلم البحريني
القصير لعبدالله السعداوي وأحمد الفردان: قصّة صديقين يواجهان تحدّيات
الانغماس الخطر في الصراعات الطائفية والمذهبية، وسط تنامي ظواهر معادية
للحياة الإنسانية الكريمة. غير أن هذين المثلين لا يُلغيان أمثلة جمعت
الشكل بالمضمون، ضمن ظروف سعى عاملون سينمائيون عديدون لجعلها أفضل. في
إطار الأفلام القصيرة، هناك "أصغر من السماء" للإماراتي عبدالله حسن أحمد،
و"آخر قطرة نفط" (تحريك) للبحريني محمد جاسم، و"بايسكال" للكردي العراقي
رزكار حسين، و"الفيل لونه أبيض" للإماراتي وليد الشحي، و"هنا لندن"
للبحريني محمد بوعلي. بالإضافة إلى "نكرة" للسعوديّ عبد الرحمن عايل، على
الرغم من أن مادته الدرامية متضمنة تعابير وسمات يمكنها منح الترجمة
السينمائية غنّى جمالياً أكبر وأهمّ.
العلاقة بين فتاة وعصفورة (أصغر من السماء) تحوّلت إلى قراءة إنسانية
في أحوال الدنيا، من خلال قصّة فردية، سعى الشقيقان عبدالله (المخرج) ومحمد
(المؤلّف) لجعلها أكثر تجذّراً في العمق الإنساني، المُصوَّر (سمير كرم)
بشفافية البوح، وحساسية اللحظة. هذه أسماء منتمية إلى مجموعة من الشباب
الإماراتيين والخليجيين المهمومين بإيجاد أدوات تعبير سينمائي، وبتطوير ما
لديهم من وعي معرفي وثقافة بصرية وحماسة سينمائية. هذه العناوين واضحة لدى
البحريني محمد جاسم (آخر قطرة نفط): حرفية التحريك، المنبثقة من همّ إنساني
أوسع (ماذا سيحدث عندما يجفّ باطن الأرض من النفط؟)، جعلت التقنية غلافاً
لحكاية العلاقة القائمة بين الحياة والتطوّر الحضاري، والاستعانة بالجذور
التراثية للناس. أما الصورة السينمائية الجميلة (تصوير هاوكار فرهاد)
لـ"بايسكال"، فجزءٌ مُكمِّل لجمال الطبيعة والحكاية معاً: مراهق "مُغرم"
بدرّاجة هوائية لا يستطيع شراءها، فيلجأ إلى ابن أحد الأثرياء الذي يملكها.
ولكي يسمح له باستخدامها، يستغلّه بتحويله إلى "حمار" يمتطيه هو لملذّة
الاعتداد بسطوته المعنوية. في الصراع الخفي بينهما، بعيداً عن أية إسقاطات
إيديولوجية أو خطابية، قدّم رزكار حسين فيلماً انسجمت رؤيته الإنسانية مع
أدوات التصوير والمونتاج والإضاءة. هذه أدوات أتقن الإماراتي وليد الشحي
استخدامها دائماً، في أفلامه أو في تعاونه مع زملاء وأصدقاء تحلّقوا جميعهم
حول مشروع تأسيس سينما إماراتية شبابية جديدة. ففي "الفيل لونه أبيض"، غاص
الشحي (كعادته في معظم أفلامه السابقة) في ثنائية التورية البصرية وتكثيف
الرمز الإنساني، من خلال حكاية الموت التقليدية. ذلك أن الموت قدر الإنسان،
والشحي بدا مهموماً بهذا "الهاجس الحياتي". ولعلّ "هنا لندن" (إنتاج بحريني
إماراتي مشترك، 2012) يرسم صورة إضافية عن النقاش السينمائي الخليجي الآنف
الذكر، من خلال المؤلّف الموسيقيّ محمد حداد، الذي قدّم شهادة واقعية عن
المعاناة الحقيقية الكامنة في علاقة الغالبية الساحقة من المخرجين الشباب
بالموسيقى في أفلامهم. قصّة الفيلم بسيطة: رغب الأبوان في إرسال صورة لهما
إلى ابنهما المقيم في لندن. لكن رفض الأم الذهاب إلى الاستديو يحول دون
إتمام المهمّة بسهولة. أي أن محمد بوعلي جعل نصّه البصريّ قراءة إنسانية
تبدأ بعلاقة الأبوين بابنهما، وتمرّ في مغزى الهجرة والتواصل، وتكاد لا
تنتهي عند معنى الصورة (المُصوّر الفوتوغرافي يجتهد لالتقاط الصورة إزاء
إصرار الأم على الرفض). لعبة سينمائية جميلة، في مقاربتها حكاية بسيطة. أما
"نكرة"، فموغل في التباس الحالة التي أصابت شاباً مقيماً على جسر مشاة.
التصوير (عمرو العماري) التقط نبض الإحباط والملل والتساؤلات المعتملة في
ذات الشاب (تمثيل عبد العزيز الأحمد)، لكن الاستناد المطلق للنصّ على سرد
الراوي تفاصيل الأسئلة والهموم، أضعف من البنية الأساسية الجميلة للحكاية
وحبكتها الدرامية.
لائحة الأفلام المُشاركة في المسابقات الخليجية المختلفة، كما في
البرامج الأخرى (المسابقة الدولية، أضواء، تقاطعات، إلخ)، طويلة. لكن
النماذج السابقة تعكس بعض هموم جيل شبابي ساع، بنشاط وحيوية وحماسة، لجعل
الصورة السينمائية أفضل تعبير، وأجمل تصوير لحالات وحكايات وتفاصيل.
أبوظبي السينمائي في
16/04/2012
"مهرجان
الخليج السينمائي 5" يُفتتح اليوم بـ"تورا بورا"
نديم جرجوره
عاماً تلو آخر، يُقدّم "مهرجان الخليج السينمائي" لمحة موجزة عن
النتائج الجديدة للغليان البصريّ في دولة الإمارات العربية المتّحدة أولاً،
وفي دول "مجلس التعاون الخليجي" ثانياً. عاماً تلو آخر، يحاول المهرجان،
الذي بلغ الخامسة من عمره في العام 2012، أن يكون مرآة صادقة لواقع الإنتاج
السينمائي الخليجي، باختياره مجموعة كبيرة من الأعمال الجديدة، التي أنجز
بعضَها مخرجون شباب باتت لهم مكانتهم السينمائية في دول الخليج العربي،
وخارجه. ذلك أن الجهود المبذولة لتنظيم دورات سنوية للمهرجان الحديث
النشأة، أفضت إلى تراكم نوعيّ كشف تحوّل مواهب قليلة إلى مرتبة الحرفية
الإبداعية، وأبرز مواهب جديدة خطت خطواتها الأولى أو الثانية في أروقة
المهرجان، وعلى شاشات صالاته التابعة لمجمّع "غراند سينما" في "دبي فستيفال
سيتي"، علماً أن هذه الدورة الخامسة، المُقامة بين العاشر والسادس عشر من
أبريل (نيسان) 2012، تميّزت، من بين أمور عديدة، بالانفتاح على إمارة أبو
ظبي أيضاً، إذ تُعرض أفلامٌ متفرّقة في "مسرح كاسر الأمواج"، بتقدمة من
"مؤسّسة الاستثمار" في دبي، بين الثاني عشر والرابع عشر من الشهر نفسه.
الإنتقال الجغرافي من دبي إلى أبوظبي، وهو "كان حلماً وتحقّق" كما قال
عبد الحميد جمعة رئيس المهرجان، شكّل نقلة إيجابية "تنسجم مع رؤيتنا"
الهادفة إلى توسيع دائرة المهرجان داخل دولة الإمارات، وإلى إيجاد منافذ
عدّة لتفعيل التواصل السينمائي بين السينما المحلية والخليجية من جهة أولى،
والمهتمّين بالفن السابع من جهة ثانية. غير أن سمات أخرى تبدّت واضحة من
البرنامج المنوي تقديمه على مدى خمسة أيام مكثّفة بالعروض واللقاءات وورش
العمل. فإلى جانب الرقم الكبير من الأفلام المختارة (155 فيلماً في
المسابقات والتظاهرات كلّها)، هناك النتيجة الأولى لورشة العمل المُقامة
للمرّة الأولى في العام الفائت مع المخرج الإيراني عباس كياروستامي، التي
"تمخّضت من دورة تحريضية لاستكشاف خبايا السينمائيين" الخليجيين، كما قال
مسعود أمرالله آل علي مدير المهرجان. بالإضافة إلى التجربة الأولى لـ"سوق
السيناريو"، المتعلّقة بسيناريوهات الأفلام الخليجية القصيرة، التي أُطلقت
في دورة العام الحالي بناء على واقع مفاده أن هناك "حلقة مفقودة" بين كتّاب
السيناريوهات والمخرجين والمنتجين: "لهذا، قرّرنا إنشاء سوق لثلاثة أيام
بإشراف سينمائيين وكتاب سيناريوهات، لاختيار خمسة عشر سيناريو تُعرض على
مخرجين ومنتجين ومهتمّين في اليوم الأخير". هناك منحة "إنجاز" للأفلام
الخليجية القصيرة أيضاً، التي أُطلقت في العام الفائت، والتي تبلغ قيمتها
المالية خمسين ألف دولار أميركي لكل فيلم من الأفلام الخمسة المختارة.
والسوق خطوة تسبق التقدّم لمنحة "إنجاز"، على أن يُعرض المشروع المُنفّذ في
الدورة المقبلة للمهرجان.
هذه تفاصيل متفرّقة عن بعض أبرز سمات الدورة الخامسة لـ"مهرجان الخليج
السينمائي"، التي تُفتتح مساء العاشر من نيسان/أبريل 2012 بـ"العرض الدولي
الأول" للفيلم الكويتي "تورا بورا" لوليد العوضي، المُشارك أيضاً في
المسابقة الرسمية للأفلام الخليجية الطويلة"، إلى جانب ثمانية أفلام روائية
ووثائقية، منها "أمل" للإماراتية نجوم الغانم، و"حلبجة - الأطفال
المفقودون" للكردي السوري أكرم حيدو، و"صمتاً: كل الطرق تؤدّي إلى
الموسيقا" للعراقي الإيطالي حيدر رشيد و"قلب أحمر" للكردي العراقي هلكوت
مصطفى وغيرها. وفي برنامج "أضواء"، يعرض "ظل البحر" لنواف الجناحي و"في
أحضان أمي" للعراقي محمّد الدراجي إلى جانب مجموعة من الأفلام القصيرة
والطويلة. التنويع الدرامي واضح المعالم: من انتقاد الأصوليين إلى البحث عن
أطفال مفقودين، ومن قصص الحب الرومانسية إلى المنافي العربية وغيرها من
العناوين. أما "المسابقة الرسمية للأفلام الخليجية القصيرة"، فتضمّ سبعة
وأربعين فيلماً، إلى "المسابقة الرسمية الخليجة لأفلام الطلبة القصيرة"
و"المسابقة الدولية للأفلام القصيرة"، وبرامج متفرّقة، كـ"أضواء"
و"تقاطعات" و"الأردن في دائرة الضوء" و"أفلام الأطفال" وغيرها. وقد اختارت
إدارة المهرجان المخرج البحريني بسام الذوادي لتكريمه، بفضل مكانته في حركة
الإنتاج السينمائي البحريني، ودوره في دعم المشاريع الشبابية. ذلك أن دارس
السينما في القاهرة أقدم، منذ العام 1990، على إطلاق حركة سينمائية بإنجازه
"الحاجز"، على الرغم من الارتباك الحاصل في صناعة الفيلم البحريني منذ ذلك
الوقت. لكن العشرية الأولى من القرن الجديد شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في عدد
الأفلام المُنجزة، التي شارك الذوادي في تحقيق بعضها، إخراجاً وإنتاجاً.
وإذا جعل فيلمه الثاني "زائر" (2004) أقرب إلى الاختبار التجريبي في مزج
دراما الرعب بتقنيات حديثة، فإن "حكاية بحرينية" (2006) استعاد حقبة
ستينيات القرن الفائت، في قراءة بصرية لواقع ثقافي وإنساني مفعم بأحلام
التحرّر والتقدّم، ومُصاب بألف خيبة وانكسار، في آن واحد. لم يقتصر عمل
الذوادي على الإخراج والإنتاج (عبر "الشركة البحرينية للإنتاج السينمائي")،
لأنه سعى لتنظيم مهرجان سينمائي سنوي لم يُكتب له الاستمرار أكثر من دورة
واحدة فقط، في العام ألفين، فتحوّل إلى عمل داعم في مهرجانات عربية متفرّقة.
يُمكن القول إن البرمجة المعتمدة في الدورة الخامسة مفتوحة على آفاق
متنوّعة من الحكايات والتفاصيل الإنسانية والاختبارات الدرامية والجمالية
والفنية. فالحركة الإنتاجية في دول الخليج العربي تزداد حضوراً في المشهد
العام، وتدفع إلى معاينة نقدية للمسارات المعقودة على حماسة شبابية ورغبات
عامّة في العمل في مهن سينمائية مختلفة. و"مهرجان الخليج السينمائي"
منصرفٌ، عبر دوراته كلّها، إلى إقامة توزان بين شباب منخرطين في الاشتغال
الفني وطلاب راغبين في امتلاك مفردات التعبير السينمائي. وهذا توازن يُضاف
إليه انفتاح على العالم، من خلال إشراك أفلام غربية في مسابقة دولية، لا
شكّ في أنها تتيح للمهتمّ فرصاً إضافية للاطّلاع والمعرفة.
أبوظبي السينمائي في
10/04/2012 |