حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان كان السينمائي الدولي الخامس والستون

مهرجان كان الـ65: محنة الفرد

ريما المسمار

قبل أيام قليلة من اختتام المهرجان، يسود إحساس بأن الدورة الحالية افتقدت المجازفة والجرأة اللتين وسمتا دورة العام2011، طبعاً باشتثناء فيلم ليو كراكس المجنون والمبتكر والأصيل "محرّكات مقدّسة" الذي سنتناوله في مقالة لاحقة. تلوّنت مسابقة العام الماضي بأربع مخرجات (لِن رامسي، ماي ون، نايومي كاواسي وجوليا لي) مقابل صفر هذا العام، وفيلمين لمخرجين وافدين (ماركوس شلينزر وجوليا لي)، خلت تشكيلة هذا العام من نظيريهما. صحيح ان هذين ليسا العنصرين الأوحدين  لتحقيق التنوع في مهرجان لا تقوم اختياراته على الكوتا، ولكن بعض الإختيارات البديل يطرح التساؤلات، لاسيما حول الرهان على إنتاجات أميركية، كانت بمعظمها مخيّبة. مهرجان كانّ يملك، أكثر من اي مهرجان آخر، امتياز الإختيار. والإختيار الذي ذهب إليه هذا العام، يعكس رغبة في دمج خطين: الإحتفال بجديد السينما الأميركية، وتحية الأعمال الجديدة لمخرجين كبار من العالم. في الخط الأول، اختيرت خمسة إنتاجات أميركية للي دانييلز وويس أندرسن وجيف نيكولز وأندرو دومينيك وجون هلكوت، جمعت في ما بينها عناصر عدة مشتركة أبرزها اتخاذ الجنوب مسرحاً لسرديات تقوم على عناصر الجريمة (باستثناء فيلم أندرسن الإفتتاحي) وتستند إلى فريق ممثلين من الدرجة الأولى (براد بت، نيكول كيدمن، ماثيو ماكونغي، توم هاردي، شيا لابوف، وآخرين). لعلّها طريقة المهرجان في تشييد مناخ احتفالي بعيد ميلاده الخامس والستين كما فعل في العام 2007 في دورته الستين حيث اختار أيضاً خمسة أفلام أميركية (الأخوان كوين، دايفيد فنشر، جايمس غراي، كونتن تارانتينو وغاس فان سانت) في المسابقة عمادها النجوم. إلى هذا الحشد من المخرجين الذين اخترقوا المسابقة للمرة الأولى، انتمى أيضاً المخرج المصري يسري نصرالله بدراما ما بعد الثورة "بعد الموقعة".

في المقلب الآخر من المسابقة، استعاد ستة عشر مخرجاً مكانه في المسابقة التي شارك فيها مرة أو أكثر في السابق ومنهم من فاز بسعفتها الذهب (مايكل هانيكي، عباس كياروستامي، كين لوتش وكريستيان مونغيو). بينما تنتصب قامة السينمائي الكبير آلان رينيه على مشارف التسعين متخذة مكانة متفرّدة داخل المسابقة نظراً إلى إنجازاته السينمائية العظيمة والتغييرية التي لم تنل من قبل شرف الفوز بالسعفة مشرّعة التساؤلات على إمكانية فوزه هذه المرة عن ما يتردد انه فيلمه الأخير، "لم تشاهدوا شيئاً بعد". وفي شأن الجوائز التي تمنح بعد ثلاثة أيام، لا أحد قادر سوى على تشكيل لائحته الخاصة وتفضيلاته. أما ماذا ستختار لجنة التحكيم التي يراسها السينمائي الإيطالي ناني موريتي فمسألة عصية على التوقّعات. جلّ ما يمكن الجزم به مستل من تصريحات موريتي السابقة كرئيس للجنة تحكيم مهرجان البندقية في العام 2001. فبعد نقاشات مطوّلة وقتذاك انقسمت بين فيلمي الإيراني باباك بايامي (الإقتراع السري الذي دافع موريتي عنه بقوة) والنمسوي أولريتش سيدل (أيام قائظة)، انتهى الأسد الذهب بين يدي ميرا نايير عن "زفاف موسمي"! بعد تلك التجربة، صرّح موريتي انه لن يدفع مرة أخرى في اتجاه تصويت إجماعي لأن ذلك قد يقود إلى فوز فيلم "لا يستاء منه أحد، ولا يزعج أحداً ولكن أحداً ليس واقعاً في حبّه!" إنها إشارة مبطّنة إلى ان المخرج الذي تردد أربع مرات على مسابقة كان ("إتشيه بومبو" 1978، "يوميات عزيزة" 1994، "غرفة الإبن" 2001، "التمساح" 2006) سيستميت هذه المرة في الدفاع عن خياراته.

مونغيو

بخلاف الدورة الماضية حيث كان أكثر من نصف الأفلام في المسابقة الرسمية معنياً بشكل مباشر بتراجيديا العالم المعاصر، وقائماً على جرعة زائدة من القسوة والعنف وتوسّل الخلاص، بدت تشكيلة الدورة الحالية حتى الآن مزيجاً متجانساً من الكوميديا والتأمل والخيال الخصب والغوص على حكايات فردية، معظمها ملهم ومتفائل. محنة الفرد عنوان عريض يصلح لأفلام كثيرة ولكن خلاصه ليس مستحيلاً حتى في أكثر الحكايات سوداوية كما في شريط الروماني كريستيان مونغيو "خلف التلال". فهذا السينمائي الشاب الذي ساهم مع بعض آخرين في نهضة سينما رومانية جديدة مطلع القرن الحادي والعشرين، يعود إلى المسابقة بعد خمس سنوات على نيله السعفة الذهب عام 2007 عن "أربعة أشهر، ثلاثة اسابيع ويومان". خارج المكان والزمان، يحوك خيوط حكاية تدور أحداثها كما في فيلمه السابق بين امرأتين شابتين، "فويتشيتا" و"ألينا". يبدأ الفيلم بوصول "الينا" من المانيا لزيارة صديقة الطفولة والميتم المقيمة في دير للرهبنة على تلة نائية تغمرها الثلوج. يسترسل الشريط في تسجيل يوميات الدير وعلاقات "السلطة" بين الراهبات الشابات اللواتي لا يختلفن في ثرثراتهن عن فتيان وربات بيوت في نفس أعمارهن، سوى انهن يخصصن وقتاً أكبر للصلاة. في خط موازٍ، تتكشف العلاقة بينهن وبين رمز "الأب" مطلق السلطة و"الأم" قليلة الحيلة. إنها عائلة تقليدية منصاعة لنظام أبوي، يرى إلى الوجود من منظار ثابت حيث تتحول الأحكام حقائق وتستحيل أي مادة خلافية إلى حكمة تأتي على لسان الراهب الأب. منذ اللحظات الأولى لدخولها الدير، تلتقط "ألينا" تلك الذبذبات بفطرة أكثر منها قدرة على التحليل. تهاجم "فويتشيتا" بسبب من قبولها العيش في تلك الظروف وعدم قدرتها على التمييز بين ما يندرج في إطار الإيمان والقناعات وبين ما هو استلاب وتعطيل لعقلها وحواسها. تحاول حثها على ترك الدير ومرافقتها إلى ألمانيا ولكن "فويتشيتا" تقاوم تلك الرغبة، وبمقاومتها تلك تستثير لدى "ألينا" كل ما هو دفين في ماضيهما المشترك. تصاب الأخيرة بحالات عصبية تتمظهر في سلوك عدائي وعنيف، يؤرّق أهل الدير. وبعد محاولات متقطعة من العلاج والإستبعاد، يستقر الرأي على ان روحاً شريرة تسكنها ويتوجّب طردها من خلال طقس عنيف ذي عقبات غير محسوبة. تكمن أهمية هذا الفيلم في العوالم المتعددة التي يشيدها. فإلى صورته الشاحبة المفعمة بالتفاصيل، يعالج المخرج شخصياته من مسافة، من دون أحكام كاشفاً القليل عنها. لا وجود لأبيض واسود وشرير وخيّر، فكل يلبي نداءه على طريقته ويستميت في سبيل تحقيق قناعاته. يبقى السر الكبير بين "فويتشيتا" و"ألينا" مدفوناً، تكشف الكاميرا بخفر عن بعض جوانبه. في المشهد الأخير فقط، تتحقق الصلة بين عالمين على طرفي نقيض، يتقابلان في مواجهة عالم مديني صاخب في طور النمو.

محنة من نوع آخر يحياها بطل الدنماركي توماس فنتربرغ العائد بجديده "المطاردة" بعد 14 عاماً على مشاركته في المسابقة عام 1998 بفيلم "الإحتفال" وفوزه بجائزة لجنة التحكيم. مشاركة أراد المهرجان من خلالها إعادة اكتشاف المخرج في أعقاب تجربة "دوغما 95" الذي كان أحد مؤسسيها، وقد نجح الرهان إلى حد ما. تدور أحداث الفيلم حول "لوكاس" (أداء مميز من مادس ميكلسن) الأربعيني الخارج لتوه من تجربة طلاق قاسية، محاولاً إعادة لملمة حياته من خلال العمل في حضانة الأطفال في بلدته والحفاظ على علاقته المميزة بابنه المراهق "ماركوس". ملاحظة عابرة من طفلة في الحضانة تقلب حياته رأساً على عقب. ومع تحضيرات البلدة للإحتفال بعيد الميلاد، تعمّ هستيريا جماعية إذ يصدّق الجميع كلام الصغيرة عن تحرش "لوكاس" الجنسي بها. الإنجاز الأكبر للفيلم هو قدرته على التقاط محنة هذا الرجل إذ يصارع لاسترداد حياته وكرامته، كما محنة والد الطفلة، صديق "لوكاس" الأقرب، في التأكد من ان ما ادعته ابنته إنما محض خيال. يمنح المخرج المفاتيح اللازمة للمشاهد للجزم بأن ما قالته الطفلة كذباً، ولكنه يضن بها على شخصياته لإيصال فكرة الفيلم الاساسية من ان ما حدث سيطارد "لوكاس" إلى الأبد.

لوتش ودومينيك

الشراكة القديمة بين المخرج كن لوتش وكاتب السيناريو بول لافرتي أثمرت هذه المرة واحداً من أكثر أفلام لوتش دفئاً ومنالاً. "حصة الملائكة" فيلم عن "الجيل الضائع" في بريطانيا الذي يعاني من البطالة وظروف العيش القاسية التي يبدو مستحيلاً الفكاك منها. على الرغم من ان فريق المخرج- الكاتب عالجا تلك التيمة في "سنوات الست عشرة العذبة"، إلا أن مزيج الفطنة والكوميديا والأحاسيس الدافئة، تضع جديده في خانة أقرب إلى "البحث عن إيريك". محور الحكاية "روبي" (أداء لافت للوجه الجديد بول برانيغن) الشاب العشريني حاد الطباع الآتي من طفولة مضطربة. بعد نجاته من حكم جديد بالسجن، ينضم إلى مجموعة أخرى من الجيل الضائع في ساعات الخدمة الإجتماعية التأديبية، حيث يتعرف بـ"هاري" (جون هنشو)، الناشط الإجتماعي المسؤول عن المجموعة. بعد مواجهة شديدة التأثير بينه وبين الشاب الذي قام بضربه مشوّهاً عينه، ومع وفود طفله الأول، يتعهّد "روبي" الإبتعاد من العنف وبدء حياة جديدة. ولكن يتضح ان تلك مسألة لا تتعلّق بقراره الشخصي فقط، حيث ان الماضي العنيف لن يكف عن ملاحقته. إلا أن "روبي" يعثر على بهجة جديدة بفضل "هاري" الذي يعرّفه على مباهج "الويسكي" ليكتشف لديه قدرة "مذاقية" على التمييز بين الأنواع، الأمر الذي سيمكّنه من الشروع بعملية سرقة برميل ويسكي قديم اكتشف حديثاً ويقدر ثمنه بالملايين. الحوار الفطن المدجّج بالشتائم والشخصيات المساندة فضلاً عن شخصية روبي المحبّبة كلها تتحد في سبيل تقديم بصيص أمل في حكاية تبدو في معظم الأحيان غارقة في سوداوية لا خلاص منها.

في مقاربة مختلفة لموضوع العنف والجريمة، يطعّم المخرج النيوزيلندي أندرو دومينيك شريطه "القتل برقّة" بشخصيات وحوارات ساخرة، تتناقض مع حكايته ومحيطها. في تجربته الثانية مع الممثل براد بيت بعد "اغتيال جيسي جايمس على يد الجبان روبرت فورد" (2007) وبشعرية مماثلة، يقتبس دومينيك رواية جورج ف. هيغينز الصادرة عام 2002 وينقل أحداثها من بوسطن 1974 إلى نيو أورلينز 2008، بعد إعصار كاترينا وفي خضم سباق الإنتخابات الرئاسية. إنها الخلفية التي يختارها المخرج لتقديم فيلم جريمة من الطراز الأول، مؤسلب ومتماسك وسياسي في العمق. بعد عملية سرقة كازينو محلي يديره "ماركي" (راي ليوتا) يقوم بها "فرانكي" (سكوت ماكنيري) و"راسل" (بن مندلسن)، يطلب وسيط المافيا (ريتشارد جنكنز) من "جاكي" (براد بيت) حل المسألة بالقضاء على جميع المتورّطين. يأتي "جاكي" بقاتل مأجور آخر لمساعدته هو "ميكي" (جايمس غاندولفيني) ليكتشف ان الأخير يعاني من اكتئاب وادمان على الكحول والعاهرات. ولكن الحكايات في هذا الفيلم ليست هي الاساس حيث وضعت أفلام الجريمة قانوناً مفاده ان الكل متورط ومذنب ولا أحد سينجو. الأهم هو الأسلوب والمقاربة. بصرياً، يقدم دومينيك استعراضاً قوامه تكتيكات قديمة يعيد إحياءها مثل السلو-موشن وأخرى مبتكرة مثل الهلوسة التي ينخرط فيها أحد الشخصيات بفعل المخدرات وينقلها دومينيك إلى الشاشة من خلال الصوت والصورة. وعلى خط موازٍ، يغرد الفيلم خارج سرب أفلام الجريمة التقليدية بدفعه الخطاب السياسي إلى الواجهة على الرغم من بقائه في الخلفية، يصلنا عبر خطابات أوباما التي يبثها الراديو والتلفزيون عن استمرار الحلم الأميركي والفرص المتاحة أمام الجميع. تتكامل الصورة مع خلفية الأحداث في تلك البقعة المنكوبة بعيد إعصار كاترينا التي تتحول بين اللصوص الصغار والمافيا والقتلة المأجورين إلى غابة من دون قانون، قبل أن تأتي الجملة الأخير على لسان براد بيت موقفاً واضحاً: "أميركا ليست بلداً. إنها أعمال تجارية."

أبوظبي السينمائي في

24/05/2012

 

"بعد الموقعة" ليسري نصرالله

أحاديث ما بعد الثورة

ريما المسمار 

عندما أنجز المخرج يسري نصرالله فيلمه القصير "داخلي/خارجي" في إطار الفيلم الجماعي "18 يوم" (قدم في برنامج العروض الخاصة في الدورة 64 لمهرجان كان السينمائي)، أراد التقاط لحظة التماس الأولى بين بطلته البورجوازية (منى زكي) والثورة المشتعلة في ميدان التحرير. اختار مدخلاً جانبياً للميدان هو ذاك الذي دخل منه "المتأخرون" الذين التحقوا بالثورة بعيد قيامها وبعد حيرة وتفكير. في جديده "بعد الموقعة" المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي الخامس والستين، يكرّر المشهد عينه، هذه المرة مع "فاطمة" (ناهد السباعي) الآتية من قرية "نزلة السمّان" الفقيرة المحاذية للهرم. على الرغم من اختلاف طبيعة الشخصيتين وخلفيتيهما، تتفاعلان بالطريقة عينها مع الحدث، مطلقتين العنان لذلك الإنفعال والإنصهار بالثورة ليتغلغلا داخلهما. ما أراد نصرالله قوله من خلال هذين المشهدين في فيلمين مختلفين هو أن الثورة أو تحولاً من هذا النوع ليست بالضرورة أمراً بديهياً كما انها ليست عملية حسابية، تحتسب بموجبها الخسائر والغنائم بدقة ولا عملية جراحية حاسمة لاستئصال مرض خبيث. بصرف النظر عن النتيجة النهائية سينمائياً وحكائياً، يبدو نصرالله حريصاً على مسألة اساسية خلال أفلمته ما هو متعلق بالثورة وهو التعامل معها كعنصر حيوي متحرّك، أرسى بدايات كثيرة وشرّع أسئلة أكثر. من هذا المنظار، يأتي "بعد الموقعة" نصاً بصرياً محمّلاً بالنقاشات والتساؤلات والمخاوف والقلق التي أنتجتها الثورة في ما هو ربما منجزها الاساسي والمتحقّق إلى الآن: كسر الجمود والركود المزمنين في المجتمع المصري.  يحاول صاحب "باب الشمس" و"مرسيدس" و"جنينة الأسماك" و"احكي يا شهرزاد" أن يجعل من عمله السينمائي طرفاً في دفع النقاش قدماً ووسيلة لتسليط الضوء على الهامش حيث التعقيدات والتفاصيل الكامنة خلف الصورة الكبرى والعمومية. إنه سعي لمعاينة المسافة الفاصلة بين "الداخل" و"الخارج" (في استعارة من عنوان فيلمه القصير) أو بين "مقدّمة" المشهد و"خلفيته"، حيث التدرّجات من الأبيض إلى الأسود أو العكس.

"موقعة الجمل" و"مرتكبوها" هي في حالة فيلم "بعد الموقعة" المشهد الأمامي أو المظهر المشين الذي أثمرته اسباب كثيرة في الخلفية، يعمل الفيلم على إبرازها ومواجهتها مع الفكرة العمومية عن أزلام النظام الذين هاجموا بالخيول والجمال المتظاهرين في ميدان التحرير. لا ينفي الفيلم الحادثة ولا يدافع عن مرتكبيها إلا بما هم ضحايا لنظام اجتماعي وحياتي يمحو إنسانيتهم ويغسل عقولهم ويعمي بصيرتهم إلا عن مطاردة أدنى شروط العيش بكل الوسائل الممكنة. على مسرح أحداث الفيلم، يلتقي العالمان: عالم الثوار وضحايا الموقعة من جهة ومرتكبو الموقعة ضحايا الفقر والجهل والفساد من جهة ثانية، ممثلين بـ "ريم" (منة شلبي) التي تعمل في شركة إعلانات بمحاذاة نشاطها ما بعد الثورة كناشطة سياسية واجتماعية، و"محمود" (باسم سمرة) أحد سكان نزلة السمان ومرتكبي موقعة الجمل. بسبب من فعلته تلك وانتشار شريط الفيديو الذي يبيّن تعرضه للضرب في الميدان، يعيش "محمود" ومعه عائلته حالة نفي وعزلة من الطرفين: مناصرو الثورة وأهل قريته الذين يعتبرون تعرّضه للضرب على يد المتظاهرين مهانة. "ريم" هي الأخرى ليست في وضع أفضل لجهة إحساسها بالعزلة. فالأفكار الدعائية السهلة التي تروج الشركة من خلالها لعصر التغيير لا تنسجم مع وعيها الجديد، كما ان الحلقات النقاشية التي تشارك فيها مع نساء أخريات تكشف عن عقلية رجعية لم تغيّرها الثورة وعن أسئلة كبيرة تحتاج إلى إجابات. على هذه الأرضية، يلتقي "محمود" و"ريم" لينشأ بينهما انجذاب جسدي، لن يٌترجم بأكثر من قبلة إلا انه سيفتح عيني كليهما على خيارات جديدة وأسئلة مؤرّقة. تنجذب "ريم" إلى عالم "محمود" كما لو انه حقل تجارب يمتحن قناعاتها وعناوين الثورة التي تدور مدار الإختلافات الطبقية والخطابات الزائفة حول المساواة والوعود الفارغة بتقويض أسس الفساد. أما "محمود"، فيفهم من خلاله احتكاكه بـ"ريم" ان الظلم المفروض عليه لا يبرّر انسحابه من ممارسة دوره كمواطن.

إن مقاربة من هذا النوع لطرفي نقيض تقود حتماً إلى خطابية على طريقة "الرأي" و"الرأي الآخر"، لم يتمكن الفيلم من تجنّبها ولا حتى من خلال التفاصيل التي حاول نصرالله الإشتغال عليها، سواء أمن خلال الحكايات الجانبية (العلاقة بين ريم وزوجها، وبين ريم وفاطمة زوجة محمود، والعلاقة غير التقليدية بين ريم ومحمود) أو الخيارات البصرية والتوليفية التي سعى من خلالها إلى تكسير خط السرد الأحادي. ظلّت تلك الحكايات بمعظمها شرحاً مطوّلاً ومسوّغاً لتمرير الأفكار التي أراد نصرالله طرحها في الفيلم، محولاً الأخير منبراً  لعرض وجهات النظر المتناحرة وتراشق الأحكام المسبقة وعرض سوء الفهم على الجانبين. وفي حين عبّر الطرفان عن رؤية متقاربة لبعض المواضيع، تفرّد خطاب "محمود" بوعي وتناقضات اثرى من تلك التي عبرت عنها "ريم" ببراءة مفتعلة وسذاجة في كثير من الأحيان. هل فعلاً اعتقدت ان أحد نتائج الثورة أن تجعل من علاقة غير متكافئة بين امرأة عصرية متعلّمة ورجل شبه أمّيّ أمراً طبيعياً؟

يحاول الفيلم الإحاطة بالمشهد المصري ما بعد الثورة وباسئلته وهواجسه المتباينة بين المتن والهوامش، يكثّفها في مشهديات قائمة على الحوارات بشكل اساسي، وعلى تشكيل بصري يعتمد تدرج العمق بما يوحي بالحالة المعقدة والمركبة للشخصيات والظروف. أما الصورة فتتنقل بين المشهد المديني المزدحم ومتسارع الإيقاع وبين مشهد القرية التي تحيا زمناً من نوع آخر، بطيئاً ومتهالكاً وبائساً، وبينهما تختلف جرعة الأمل بإرساء التغيير الحقيقي. المدينة بفوضاها وحركتها الدائمة رمز مزدوج لضياع الأمل وتجدده في آن معاً. والقرية ببؤسها  لا تنفك بؤرة سهلة الإستغلال من قبل منظومة فساد قديمة-جديدة. الأمل يكمن في القدرة على صهر العالمين ولكن الطريق طويلة بحسب المشهد الأخير والرحلة "سيزيفية".

أبوظبي السينمائي في

23/05/2012

 

أربعة أيام من مهرجان كان الـ65

الغيوم لم تحجب الكثير

ريما المسمار 

انقلب صيف كان المعتاد إلى عواصف وأمطار، أثقلت أجواءه الخارجية وحصرت فعالياته داخل القاعات وقصر المهرجان. لم تعد نزهة الكروازيت متنفساً محبباً بين عرض وآخر بل مسافة عصية على العبور تحت وابل من الأمطار الغزيرة والمظلات السوداء المتدافعة التي حجبت ألوان ثياب الزاهية. الكل في حالة انتظار، كأن المهرجان لم يبدأ بعد أو كأن البداية الحقيقية أو البداية الثانية لن تكون قبل سطوع الشمس من جديد. إحساس ربما زادت من وطأته  حالة انتظار موازية على جبهة محتوى المسابقة الرسمية التي لاتزال ضنينة على روادها بالمفاجآت الكبرى، بينما هم متأهّبون منذ إعلان التشكيلة الرسمية- بل ربما قبلها منذ تسرّبت عناوين الأفلام إلى الصحافة- لدورة استثنائية مضمونة بقامات كبرى لسينمائيين من طينة لوتش وكياروستامي ورينيه وكروننبرغ وسالز وريغاداس. صحيح ان المهرجان مازال في يومه الخامس وان المفاجآت تأتي غالباً في نصفه الثاني، ولكن ذلك لم يمحُ آثار الخيبة على وجوه الصحافيين بعيد مشاهدة عدد كبير من أفلام المسابقة التي تفتقر إلى التجديد والإنفعال والعمق.

على لائحة الخيبات، أدرجت أفلام ماتيو غاروني وجون هيلكوت وهونغ سانغسو. وبين بين، حلّ عباس كياروستامي وأولريتش سيدل. أما الصدارة، فتقاسمها، بدرجات متفاوتة وحتى لحظة كتابة هذه السطور، "حب" لميشال هانيكي و"خلف التلال" لكريستيان مونغيو و"المطاردة" لتوماس فنتربرغ وكذلك "صدأ وعظام".

الواقع والأسطورة

بعد فوزه بجائزة لجنة التحكيم الكبرى في كان 2008 عن نصه العنيف "غومورا"، يعود الإيطالي ماتيو غاروني بفيلمه "واقع" المفتقد إلى الأصالة والتجديد. في "نابولي"، يحوك خيوط السرد حول "لوتشيانو" رب الاسرة وبائع السمك وصاحب الموهبة الإدائية الساخرة التي يعرضها في المناسبات العائلية. بعد إلحاح أولاده وأفراد عائلته وأملاً بالشهرة والثراء السريعين، يتقدّم بتجربة اداء لبرنامج الواقع الشهير "بيغ براذر" بنسخته الإيطالية والتي تقام في المجمع التجاري للبلدة. بعد فترة وجيزة، يُبلغ "لوتشيانو" بوصوله إلى الترشيحات قبل النهائية ويطلب إليه إجراء تجربة أداء أخيرة في روما. في بلدته، يُعامل "لوتشيانو" كنجم ويعتبر الجميع أن مسألة مشاركته في البرنامج أكيدة. فتبدأ التحضيرات على قدم وساق: يبيع كشك الاسماك الذي يملكه، يجدد اثاث بيته، يضع الخطط بينما ينتظر اتصالاً هاتفياً لن يأتي ابداً لتبليغه بقبوله في البرنامج. مع اقتراب موعد انطلاق "بيغ براذر"، ترتفع وتيرة التوقعات ومعها هوس لوتشيانو وانسحابه من الواقع إلى عالم افتراضي، يعتقد انه مراقب فيه طوال الوقت وما عليه سوى إثبات أهليته لدخول البرنامج. فينطلق في رحلة جنونية، واهباً كل ما يملك إلى المحتاجين، وفاقداً القدرة على التمييز بين الواقع والمتخيل. وعلى الرغم من بدء بث البرنامج من دونه، لا يفقد "لوتشيانو" الأمل بالإنضمام بانياً وهمه على إشارات يفسّرها على هواه. لا شك في أن غاروني يحقّق من خلال مشاهده ولقطاته تنافراً بديعاً يخدم تماماً فكرة ضياع المرجعية لما يمكن أن نطلق عليه وصف "واقعي" أو "غير واقعي"، ويقبض بقوة على ذلك التأثير المخدّر لظاهرة تلفزيون الواقع على الناس العاديين والأمل السهل بالشهرة والمرارة الكبرى من ضياع شيء لم يكن أصلاً ملموساً. ولكن ذلك لا ينفي حقيقة ان الفيلم لم يضف جديداً إلى موضوع قديم ومتداول.

ليس بعيداً من الإنطلاق من مرجعية حاضرة، هذه المرة سينمائية، يعود المخرج الأوسترالي جون هيلكوت إلى الوسترن وسينما العصابات في "قاطع طريق" (Lawless)، مجدداً مع الكاتب والموسيقي نيك كايف تعاوناً أثمر قبل سبع سنوات عملاً مميزاً في عنوان "الإقتراح" (The Proposition). مقتبساً رواية مات بوندورانت عن سيرة جده جاك بنودورانت وأخويه فوريست وهاورد، صاغ كايف وهيلكوت أحداث الفيلم في فيرجينيا في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي بالتزامن مع تضييق الخناق على الإتجار بالكحول في ما عرف بـ"حقبة الحظر" (1920-1933). انها الفترة نفسها التي شهدت صعود أفلام العصابات التي استوحت من الشخصيات الواقعية  نجوماً لأفلامها، مستثمرة افتتان الشعب بأناس خارجين عن المألوف. آثر هيلكوت أن يجعل فيلمه يبدو وكأنه ينتمي إلى أفلام ذلك النوع وتلك المرحلة، في غياب أية إضافات أو اختراقات تبدو مشروعة بعد مرور كل تلك العقود. بخلاف مايكل مان الذي تقصّد التقشّف في "عدو الشعب" (2009) مدركاً سلفاً ان ساعتين على الشاشة لا تكفي في كافة الأحوال للدخول في دهاليز الحقبة التاريخية بينما هي أكثر من كافية لاستعراض مهاراته الاخراجية والتوليفية والتصويرية (مع شريكه المفضل مدير التصوير دانتي سبينوتي) والتجريبية عن طريق منح الكاميرا الرقمية مكانة أرفع ومنح الحكاية القديمة والتاريخ تحديثاً بصرياً، يدعي هيلكوت تشريح الاسطورة التي اكتنفت الأخوة بوندورانت فإذا بالفيلم يعجز عن تفكيكها كما يلزم. شيا لابوف في دور الأخ جاك الأصغر الذي عليه أن يثبت لأخويه استحقاقه للقب العائلة وصفة الذي لا يقهر يشع في الدور، بينما الممثل الموهوب توم هاردي في دور الأخ الأكبر فوريست لا يملك سوى الهيئة الخارجية لنقل صورة عن بطل، فيما حكايات الحب الجانبية (بين جاك وميا واسيكوفسكا وبين فوريست وجيسيكا تشاستاين) تبدو إضافات تزيينية تبقى على السطح ولا تؤثر في مسار السرد. يبقى ان الفيلم سيروق حتماً لمحبي النوع والمتلهفين على العنف والدم المشرّعين هنا بجرعات كبيرة.

حب وصدأ

في عمل جديد مذهل عنونه "حب"، قدم ميشال هانيكي، صاحب "الشريط الابيض" (الفائز بسعفة كان الذهب عام 2009)، حكاية  بل حكايات متفرّعة من معنى الحب والطرق التي يقود إليها: الإنعتاق، الأنانية، التفاني، الجنون، الياس، الأمل... كل هذا في حكاية تدور أحداثها بين جدران منزل، ما إن تدخل الكاميرا إليه لا تغادره أبداً. في شقة الزوجين المسنين "جورج"  (جان لوي ترانتنيان) و"آن" (إيمانويل ريفا)، تشهد الكاميرا ويشهد المتفرج معها على حكاية استثنائية بتفاصيلها ودقتها وسردها المحكم. بعد مشهد اقتتاحي في مسرح فرساي حيث يحضر معلما البيانو "جورج" و"آن" حفلة لتلميذهما السابق، يعودان إلى منزلهما وسط أجواء تكشف عن حب لم يذبل بينهما ورغبة جورج التي لم تذبل بعد وشخصية آن الجذابة بعندها وحدتها. في صباح اليوم التالي، تصاب "آن" بحالة من الإنفصال عن الوجود تدوم دقائق قليلة قبل ان تعود إلى طبيعتها وإنما لوقت قصير فقط. يتضح انها اصيبت بشلل نصفي يجبرها على استخدام الكرسي المتحرّك. إزاء محاولة جورج التأقلم مع الوضع وإحاطتها بكل الحب والرعاية، تبدأ "آن" بفقدان الرغبة في الإستمرار على هذا المنوال. تقوم بمحاولة انتحار فاشلة تستسلم بعدها لواقع الحال من دون مقاومة أو نزاع. هكذا تتراجع حالتها سريعاً لتصبح طريحة الفراش دوماً فاقدة الوعي معظم الوقت والذاكرة. بين حين وآخر، تخترق يوميات الزوجين المنغلقة ابنتهما "إيفا" (إيزابيل أوبير) بنوبات عصبية وعجز عن تقديم اية مساعدة سوى الشكوى والتوتر. تسير الايام ببطء وسط روتين تزداد وطأته يوماً بعد آخر مع تدهور حالة آن وانسحابها الكلي من الحياة إلى زمن آخر، يتجسّد في كلامها غير المترابط عن طفولتها. بموازاتها، يحاول "جورج" لملمة نفسه، متفانياً في رعايتها ومستعيداً حكايات من طفولتها يرويها على مسمعها ايبقيها على صله بالحياة، ولكن أيضاً ليتمسّك بما تبقى من ذاكرته قبل أن تضيع هي الأخرى. يتابع هانيكي من مسافة التفاصيل الصغرى لهذا الصراع من أجل الحياة وضدها في آن، قابضاً على اصغر الإنفعالات والتحولات التي يعيشها الإثنان، كل في اتجاه مختلف. في مشهد يشكل ذروة الفيلم، تبصق "آن" الماء التي أجبرها "جورج" على شربها في وجهه فيصفعها الأخير بدون وعي. لحظات تعود فيها "آن" إلى الحياة، بوعي يظهر في عينيها ويتجسّد بسؤال لا تقوى على النطق به: هل هذا مازال يُسمى حباً؟ في اللحظة عينها، يدرك "جورج" بداية تحول هذا الحب إلى عنف وأنانية، فيقرر تحقيق رغبتها بترك الحياة. نص رائع عن معاني الرغبة –أو فقدانها- والإرادة والحب ولكن ايضاً عن حق الإنسان في تحديد مصيره.

الحب في شريط جاك أوديار "صدأ وعظام" حاضر من خلال افتقاد شخصيات الفيلم إليه. جديد صاحب "نبي" عمل متقشّف وواثق، يفتقد التحوير والتنويع على الجنر اللذين وسما فيلمه السابق، إلا انه لا يفتقر إلى العمق ولا الشخصيات المكتملة، وينهل من الميلودراما مع الإضافات اللازمة التي تمنع انزلاقه التام فيها. من دون الخوض في خلفيات الشخصيات وحكاياتها الماضية التي تبدو معقّدة نظراً إلى ما هو عليه حاضرها، يضعنا الفيلم مباشرة أمام حكاية كانما تشارف على خواتيمها: "علي" (ماتياس سكونرتس) المفلس وابنه "سام" صاحب الخمس سنوات المفلسان يتجهان في القطار إلى ساحل الجنوب الفرنسي حيث شقيقة علي وزوجها يعيشان في بيت متواضع. هناك، يترك "علي" ابنه في رعاية اخته ويبدأ عمله كحارس لنادٍ ليلي حيث يلتقي "ستيفاني" (ماريون كوتيار). يتولد انجذاب ما بينهما على الرغم من احداً منهما لا يعجله الآخر.  فهو ينظر إليها كواحدة من الفتيات الثريات الباحثات عن علاقات عابرة بينما تنظر هي إليه في إطار علاقتها المرتبكة بالرجال كما بذاتها، بما يدفعها إلى الغرق في عملها كمدرّبة حيتان قاتلة. بمهارة سردية وحبكة متمكّنة، يحوّل أوديار المشهد الذي يعرّفنا من خلاله على "تسيفاني" ومهنتها إلى نقطة التحول الدرامية في الفيلم: أثناء تقديمها عرض تدريب الحيتان،  يتمكن أحدها من القفز إلى حافة البركة التي تقف عندها. بتقشّف مبهر، يختزل أوديار المشهد بلقطة تحت المياه المصبوغة بالدم بينما تصلنا من السطح ارتدادات صوت الدمار الذي خلّفه ارتطام الحوت باليابسة. في المشهد التالي، تستفيق "ستيفاني" في المستشفى لتكتشف ونكتشف معها انها فقدت ساقيها!  بخلاف حكايات التغلّب على الماساة والعثور على أمل جديد في الحياة التي نقع عليها في الأفلام الهوليوودية التي تعالج مواضيع من هذا النوع، يأخذنا فيلم أوديار في رحلة رفض آنا التأقلم وياسها. وفي ما يبدو بحثاً عن أمل أو تعاطف، تتصل "ستيفاني" بعلي لتفاجأ ببروده وعدم اكتراثه. لعل ذلك ما يجذبها إليه خلافاً للآخرين حولها الذين يحيطونه بنظرات التعاطف والشفقة والذنب. كل شيء في العلاقة بين "ستيفاني" و"علي" سيكمل بخلاف التوقعات: لا عواطف ولا تعاطف بل فقط خطوات محسوبة يقوم بها الإثنان بحسب حاجاتهما. ولكن التحوّل سيأتي متأخراً بعد أن يتسبب علي بالأذى لكل من حوله، عندما تصيبه الكارثة مباشرة من خلال ابنه. حكاية غير عادية يرويها أوديار، ممسكاً بعناية بخيوطها، موازناً بين جرعات الحب والتاثر والكره، وقاطعاً الطريق على المشاهد للإستسلام إلى التماهي مع بطله. إنها لعبة سيطرة بين شخصيات الفيلم وبين الفيلم ومخرجه وبين المشاهد والفيلم، تتجسد بروعة في مشهد عودة "ستيفاني" إلى الأكواريوم للتواصل مع الحيتان التي بترت ساقيها، مثبتة قدرتها، بعجزها، على السيطرة عليها من جديد ومستلهمة تلك القوة ربما أو القدرة على السيطرة لترتيب حياتها وعلاقتها بعلي.

النسخة والاصل

في ما يبدو استكمالاً لتيمة العلاقات الملتبسة وايضاً الترحال الجغرافي اللذين بدأهما صاحب "طعم الكرز" و"أين منزل الصديق؟" و"بين أغصان الزيتون" قبل عامين بفيلمه "نسخة مصدّقة" الذي صوره في توسكانة الإيطالية مع جولييت بينوش،  يذهب عباس كياروستامي هذه المرة في "مثل امرىء عاشق" إلى طوكيو حيث يختار تصوير جزء من حكاية يومية لفتاة جامعية تدعى "أكيكو" (رِن تاكاناشي)، تمتهن البغاء لتأمين معيشتها. يقوم الفيلم على لقاء يدوم أربعة وعشرين ساعة بينها وبين "واتانابي" (تاداشي أوكونو)، الاستاذ الجامعي الستيني. وكما في "نسخة مصدّقة"، يذهب كياروستامي بهذا اللقاء إلى تخوم لا علاقة لها بظروف لقائهما الأول واسبابه. فما بدأ على انه علاقة عابرة بين "زبون" وفتاة تتقاضى مقابل الجنس، يُجرّد من سياقه تماماً مضيفاً المزيد من الإلتباس على دوافع "واتانابي" خلف طلب "أكيكو". في شقته الصغيرة حيث تتكدّس الكتب، ينأى "واتانابي" بنفسه عن معاشرة الفتاة التي تغطّ في نوم عميق غير آبهة بمحاولاته  التي تغطّ في نوم عميق غير آبهة بمحاولاته إقناعها مشاركته وجبة العشاء التي حضرها لها خصيصاً. في صباح اليوم التالي، يوصلها إلى الجامعة حيث يلتقي بصديقها المشتعل غيرة. وإذ يظنه الأخير جدها، يسترسل في شرح مشكلات علاقتهما التمحورة حول شكه وغيرته. بكلمات مقتضبة تزيد من حيرة الشاب، يرد "واتانابي" مختزلاً طبيعة العلاقات الملتبسة والبعيدة من الوضوح والصدق. وإذا كان "نسخة مصدّقة" قد اتّخذ من ذلك اللقاء العابر بين مالكة معرض تحف قديمة وكاتب انكليزي حجة للغوص العميق على عناوين كبرى مثل العلاقات، الحياة والفن، والواقع والتمثيل، فإن "مثل امرىء عاشق" يكتفي بموضوعة الإلتباس والفرضيات التي تتحكّم بنظرتنا وفهمنا إلى الحياة والناس، في قالب لا يخلو من الكوميديا والسخرية، حيث يجعل كياروستامي من "أكيكو"، أكثر من الشخصيات الباقية، رمزاً واختزالاً لنساء كثيرات، طارحاً مرة أخرى فكرة الشبه والتشابه والحقيقة والخيال في علاقتهما بالواقع. فـ"أكيكو" هي التجسيد الواقعي لابنة الأستاذ ولحفيدته ولفتاة اللوحة المعلّقة في منزله، فيما كينونتها غير محدّدة بذاتها. هي انعكاسات لحقيقة محتملة، يجزم كياروستامي من خلالها استحالة القبض على حقيقة الإنسان إلا من خلال كيفية انعكاساتها في عيون الآخرين. لا شيء يحدّد حقيقة "أكيكو" كأنها طيف خاضع لتأويلات متعددة. لذلك ربما يسترسل كياروستامي في مطلع الفيلم بمحاولة تعريفها من خلال رسائل جدتها الصوتية التي هي الإعتراف بوجود لأكيكو خارج أطر التعريف الأخرى القسرية التي يفرضها الآخرون. ولكن الإعتراف بكينونتها يبقى ناقصاً بعدم لقائها بجدتها وبقاء الأخيرة هي الأخرى طيفاً. كذلك، لا تنجح محاولات "واتانابي" تحديد هوية "أكيكو" من خلال الإشارة إلى انتمائها إلى جغرافيا وثقافة يختزلهما حساء الجمبري. هنا، تسارع هي إلى رفض هذا التحديد مؤكّدة انها لا تحب هذا الحساء. ومثل "أكيكو"، يغلّف كياروستامي العلاقة بينها وبين صديقها بالتباس مانحاً إياه عنوان الفيلم "ما يشبه الحب". إنه البحث المستحيل عن اصول الاشياء والعثور على السهل على اشباهها أو نسخ عنها، تبقى نسخاً وإن كانت "طبق الاصل". في المشهد الأخير، تجسيد ملموس لفكرة الهوية الملتبسة أو حتى المموّهة والمحاصرة، حيث يقفل الفيلم على "أكيكو" و"واتانابي" محاصرين في شقة الأخير بغضب صديقها العاشق وغيرته.

أبوظبي السينمائي في

21/05/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)