من المدهش حقا ذلك التناقض الهائل بين الحقيقة الواقعية للقراصنة والصورة
السينمائية لهم، ومن المؤكد أن كل القوانين فى العالم تجتمع على أن القرصان
هو ذلك الشخص الذى يمارس أعمالا إجرامية فى البحر، تتضمن العنف والاحتجاز
والسرقة والابتزاز مقابل فدية، وحتى التجارة فى الرقيق وبيع المخطوفين
كعبيد، ومع ذلك فإن الفن بشكل عام، والسينما بشكل خاص، تناولا شخصية
القرصان على نحو يضفى عليه نوعا من الجاذبية والسحر، وسوف نحاول هنا أن
نتامل السبب فى هذا التناقض بين الحقيقة والخيال، أو بين الشخصية الواقعية
وصورتها السينمائية، فلابد أن هناك أسبابا قوية دفعت لخلق هذا التناقض، وهى
الأسباب التى قد تكمن فى أعماق النفس البشرية، لكنها قد تمد جذورها أيضا فى
السياق الاجتماعى والاقتصادى والسياسى حتى تتحول هذه الشخصية التى يجرّْمها
القانون إلى بطل تتعاطف وتتوحد معه جماهير المتفرجين.
فلنتوقف أولا عند ملامح العالم الذى يعيشه القرصان فى السينما أو أى وسيط
فنى آخر، بدءاً من حواديت "ألف ليلة وليلة" وحتى سلسلة أفلام "قراصنة
الكاريبي": إن القرصان فى هذه الأعمال الفنية يقيم فى عالم مزيج بين
التاريخ والأسطورة، فأنت لن تستطيع أن تحدد فترة زمنية بعينها تدور فيها
أحداث هذه "الحدوتة" أو تلك، لأنها تتأرجح بين العصور الوسطى وماقبل الثورة
الصناعية فى بدايات القرن التاسع عشر، وهى مرحلة سبقت تطور صناعة الأسلحة
على النحو الذى نعرفه اليوم، لأنه لابد لكى يظل القرصان "بطلا" فإنه يجب
ألا يعتمد على سلاح يبقيه بعيدا عن خصمه، فبطولته تنبع من المواجهة
المباشرة، التى تقضى بأن يكون بارعا فى المبارزة بالسيف، ممتلكا للياقة
بدنية عالية تساعده على الحركة الرشيقة الخاطفة فوق أسطح المراكب وعلى
القفز بينها، متمتعا بجرأة بالغة تجعله لا يهاب مواجهة الموت فى كل لحظة
حتى أنه يضع حياته على كفه، أما على المستوى النفسى فإن بطولة القرصان لا
تكتمل إلا بقدر غير قليل من النبل حتى لو بدا على السطح شريرا قاسى القلب،
بل قد تمتد الحكاية لتُكمل صورته بأن تحدثك عن أن الظروف القاسية هى التى
جعلت منه قرصانا، أو أنه قد يكون فى الأصل عبدا رقيقا استطاع الهروب من
عبوديته واستعادة حريته، وتصل الحواديت إلى إضفاء أقصى درجات البطولة على
القرصان عندما تقول أنه متمرد على ظلم وقع عليه وعلى أقرانه، عندئذ لن يكون
غريبا أن تتوحد معه فى رحلته نحو تحقيق الانتقام!
القرصان فى السينما إذن هو فى التحليل الأخير "بطل شعبي" بالمعنى الفنى
للكلمة، وهو يستمد جاذبيته فى جانب منها من أنه يحقق لنا حلما هروبيا خلال
ساعتين أو ثلاث ونحن ننظر إلى الشاشة فى ظلام قاعة العرض، فقد أتينا من
حياة يومية رتيبة نمضى فيها كالتروس فى آلة هائلة لندخل إلى عالم القراصنة،
هؤلاء الذين يعيشون دائما فى خطر لكننا نضمن _ لأنهم "أبطال"!! _ أنهم
سيخرجون ونحن معهم من المخاطر وقد عشنا أوهام الفوز بالغنيمة، بعد مغامرات
تتحكم فيها الأحداث غير المتوقعة، نمضى خلالها فى مسالك ودروب خفية لا يعرف
أسرارها إلا هؤلاء القراصنة، وقد يتعرض هذا القرصان أو ذاك للمطاردة
والملاحقة من "سلطة" تحاول أن تفرض قانونها، لكن لأن هناك فى أعماق كل منا
رغبة فى التمرد على السلطة فإننا نتمنى لو استطاع القرصان الإفلات من
مطارديه، ناهيك عن مشاركتنا له بعض المتعة وهو يرسو فى الموانى على البر
بعد ترحال طويل، أو انبهارنا بشوقه العارم إلى أن يعثر على كنز مخبوء
وخريطة ضائعة، وما أجملها تلك اللحظة الفنية التى يفتح فيها القرصان صندوقا
قديما أخرجه من حفرة بين الرمال والصخور، فإذا ببريق الذهب يخطف الأبصار!
يحقق لنا القرصان فى السينما كثيرا من المحرمات المرغوبة فى واقع الحياة،
وتلك هى إحدى وظائف الفن التى لا تخلو من التعقيد النفسى ففى أعماق
"اللاوعي" تقبع تلك الرغبات التى قد تستحق العقاب إذا ماسعينا إلى إشباعها
فى الواقع، لكن تحقيقها ونحن نعيش الفيلم/الحلم يجعلنا فى مأمن من العقاب.
أما على المستوى الاجتماعى والسياسى فبقدر مايحفل الواقع بمؤسسات يجد
الإنسان نفسه أمامها عاجزا عن تحقيق فرديته، فإن أفلام القراصنة تقدم نوعا
من "اليوتوبيا" البديلة عن هذا الواقع، يوتوبيا تتناقض تماما مع الحياة
الحقيقية للقراصنة، لأن القراصنة فى السينما يعيشون فى مجتمع يحقق المساواة
بين الجميع عندما يأتى وقت توزيع الغنائم، بل إنه يحقق الديموقراطية أيضا
(!!)، لأن البحارة القراصنة يختارون من بينهم أكثرهم ذكاء وقوة ومراسا لكى
يكون قبطانا، وهم يملكون حق التمرد عليه والإطاحة به عندما يفقد هذه
الصفات، وقد تذهب السينما بمجتمع القراصنة إلى صورة أكثر إغراءً عندما تجعل
القرصان رمزا للتحرير، فالقراصنة السينمائيون يسعون إلى ضم المزيد من
المتمردين إلى صفوفهم، مما يدفعهم أحيانا إلى تحرير من يرزحون تحت ظل الرق
والعبودية.
وإذا كانت تلك هى الأبعاد النفسية والاجتماعية والسياسية التى تضفى سحرا
على الصورة السينمائية لعالم القراصنة، فقد كان طبيعيا أن تظهر أفلام تدور
حول هذا العالم منذ عصر السينما الصامتة، وذلك تحت عنوان "نمط أفلام
المغامرات" التى قد تشمل أيضا الفرسان والمستكشفين، لكن مقتضيات الدراما _
التى تتطلب صراعا بين طرفين قويين _ أدت إلى أن يحتوى كل فيلم على "بطل"
و"خصم"، لذلك انقسمت صورة القرصان إلى صورتين متناقضتين، يمكن أن تلخصهما
فى صورة "سندباد"، البطل الجميل النبيل نقى القلب الذى يحافظ على براءته
رغم الأهوال التى يمر بها، وعلى الطرف الآخر صورة "الكابتن هوك" الشرير ذى
العين الواحدة واليد المقطوعة التى تحولت إلى خطاف، ويسعى دائما للقضاء على
"القرصان البطل" الذى سوف نجد أنفسنا بالطبع منجذبين إليه، نقف معه فى
السراء والضراء. ومن خلال هاتين الشخصيتين تتولد الحبكة والصراع، فالبطل
يسعى لتحقيق العدل بينما الخصم الشرير يحاول إعاقته والقضاء عليه، ووسط هذا
الجو المشحون بالعنف توجد بطلة جميلة، من خلالها ينمو خط رومانسى بينها
وبين البطل حيث تتولد قصة حب، لابد أنها أيضا تواجَه بالعوائق التى تحول
دون اكتمالها، لكن مواضعات هذا النمط السينمائى تقضى بأن تنتهى "الحدوتة"
بانتصار الخير على الشر، ويلتئم شمل البطل والبطلة لكى يعيشا فى "التبات
والنبات".
لقد ظلت تلك الشخصيات وهذه الحبكة تتكرر فيلما بعد الآخر، وسوف نشير هنا
إلى بعض الأمثلة، ففى فترة السينما الصامتة قام النجم دوجلاس فيربانكس
بتجسيد دور القرصان البطل فى فيلم "القرصان الأسود" (1926)، وبعد ظهور
السينما الناطقة جاء إيرول فلين فى "كابتن بلاد" (1932) و"صقر البحر"
(1940)، ثم تايرون باور فى "البجعة السوداء" (1942)، وروبرت نيوتون فى
"جزيرة الكنز" (1950)، وبيرت لانكستر فى "القرصان الملكي" (1952)، ويول
براينر فى "القرصان القاسي" (1958). إنك إذا تأملت هؤلاء النجوم جميعا
لتأكدت من أنهم يتمتعون بالوسامة واللياقة البدنية العالية والإيحاء بالنبل
الرقيق تحت سطح الجهامة والقسوة، إنهم كانوا أقرب إلى "روبين هود" يعيش فى
البحار، يأخذ من الأغنياء ليمنح الفقراء، وتكتمل الصورة الساحرة لهم
ولعالمهم من خلال الأزياء الخاصة زاهية الألوان للقراصنة، والديكورات شبه
التاريخية، والانتقال بين البحر والموانئ ودهاليز السلطة وقصور الأثرياء.
لكن أفلام القراصنة شهدت تراجعا كبيرا خلال العقود الثلاثة الأخيرة من
القرن العشرين، حين ظهرت أفلام متناثرة لم يحقق أى منها نجاحا تجاريا أو
نقديا يستحق التوقف عنده، ولعل خير مثال على ذلك هو فيلم المخرج الشهير
ستيفن سبيلبيرج "هوك" (1991)، وفى الحقيقة أن تراجع هذا النمط الفيلمى جاء
مواكبا لأفول أنماط قريبة أخرى مثل أفلام "الويسترن" أو الغرب الأمريكى وقد
يعود ذلك إلى أن المتفرج كان يحتاج فى هذه الفترة إلى الهروب إلى مدى أبعد
من مجرد الخيال الساحر الذى تتيحه أفلام القراصنة أو "الشجيع"، لقد كان
المتفرج فى حاجة إلى مزيد من العنف والدماء، ينسى فيها توترات الحرب
الباردة بما تحمل من خطر التحول فجأة إلى الأسلحة النووية، أو الحرب
الساخنة فى فيتنام التى كانت أشبه بمستنقع دموى ليس هناك طريق واضح للخروج
منه، لذلك لم يكن غريبا أن تظهر أفلام مغامرات أكثر عصرية ودموية، تتراوح
بين ألاعيب "إنديانا جونز" والعنف العشوائى عند "رامبو".
وفى الوقت الذى بدا فيه أن نمط أفلام القراصنة قد انتهى دون رجعة، وأنها
أصبحت عتيقة الطراز حتى أنه يستحيل أن تتواءم مع تطور أساليب حياة الجيل
الجديد من المتفرجين، ظهر أول أفلام سلسلة "قراصنة الكاريبي" (2003) ليحقق
نجاحا جماهيريا وفنيا ملحوظا ومفاجئا، لتتوالى بعده حلقتان فى عامى 2006
و2007، وماتزال هناك حلقات أخرى فى الطريق. دفع هذا النجاح إلى التساؤل حول
أسبابه، التى يمكنك أن تجدها داخل عالم الفيلم وفى العالم الواقعى على
السواء. تكاد أفلام "قراصنة الكاريبي" أن تسير فى نفس الأجواء التى سارت
فيها أفلام القراصنة السابقة، سواء فى بناء الشخصيات أو الحبكة، مع بعض
التنويعات التى جعلت من "قراصنة الكاريبي" عالما متفردا بخصائص خاصة. إن
الحبكة العامة للسلسلة تدور حول القرصان جاك سبارو (جونى ديب) الذى تدفع
الظروف إلى إقصائه عن قيادة سفينته بعد تمرد البحارة عليه بقيادة القرصان
الشرير باربوسا (جيفرى راش)، الذى بدأ مساعدا لسبارو لكنه خانه لكى يتولى
القيادة بدلا عنه، وفى محاولة جاك سبارو أن يستعيد السفينة يلتقى هدفه مع
هدف الفارس ويل تيرنر (أورلاندو بلوم) الذى يريد بدوره تحرير حبيبته
المختطفة إليزابيث سوان (كيرا نايتلي)، بينما يظهر فى الخلفية عالمان
متناقضان تماما: عالم الأحياء الموتى أو القراصنة الذين غرقوا فى البحر
ويريدون تحقيق الخلاص حتى تنعم أرواحهم بالصعود إلى السماء، وعالم السلطة
الذى تمثله شركة تجارة الهند الشرقية، والتى هى فى الحقيقة تمارس القرصنة
المقننة المقنَّعة!
كان من المثير لدهشة المتفرج أن يظهر أورلاندو بلوم فى دور الفارس الوسيم
تيرنر وريثا لأدوار نجوم مثل دوجلاس فيربانكس وإيرول فلين، فهو الرجل
المهذب الرشيق الرقيق، وبرغم كونه ابن قرصان فإنه يريد أن يتخلى عن حياة
القرصنة ليعيش حياة متحضرة هادئة، وعلى النقيض لم تكن الحبيبة إليزابيث
تمثل مجرد "الفتاة فى محنة" التى تنتظر الإنقاذ على يد الرجل، فقد كانت
تبدو أحيانا متمتعة بشجاعة الفرسان حتى أنها تفضل ارتداء ثياب القراصنة على
ارتداء ملابس النساء، وهو ماسوف يخلق توترا بداخلها بين حبها لخطيبها تيرنر
وانجذابها للقرصان جاك سبارو، وفى شخصية هذا الأخير يكمن الجانب الأكبر من
سحر الفيلم، فقد أدى جونى ديب الدور على نحو مختلف تماما عما عهده المتفرج
لشخصية القرصان الوسيم، إنه فى الحقيقة يمثل "الهو" بمصطلحات علم النفس، أو
مايريد المتفرج أن يكونه لكنه لا يستطيع بسبب القيود الاجتماعية! لقد كان
سبارو أقرب إلى "الغجري" الذى لا يستقر على أية أرض، بذلك الماكياج الثقيل،
وهو يتحدث كأنه مخمور ويترنح أثناء سيره حتى أننا نشعر أنه لا يدرك الأخطار
المحدقة به أو لا يهتم بها، وهو لا يعتنى بملابسه ونظافته وتصرفاته، وعندما
يفعل ذلك فإنه يبدو مضحكا، كما أنه يستخدم الدعابة المرحة فى الوقت الذى
ينتظر فيه المتفرج أنه سوف يستخدم سيفه!
لقد جاء قرصان جونى ديب أقرب إلى "نجوم موسيقى الروك" الذين يعشقهم جمهور
المراهقين من المتفرجين، وهو قرصان متمرد على الأعراف التقليدية، وعلى
السلطات التى تصنع القوانين على مقاسها من أجل أقلية منغلقة على ذاتها ولا
تضع حسابا لجماهير الناس، وذلك هو الجانب الواقعى الذى فتن الجمهور فى
شخصية جاك سبارو، الذى ظهر فى عصر تمسحت فيه بعض السلطات بشعارات مثل
الديموقراطية ومحاربة الإرهاب بينما كانت تفعل النقيض تماما، وفى تمرد جاك
سبارو على هذه السلطات _ بقدر تمرده على الأشرار من القراصنة _ تحول إلى
بطل شعبى من ذلك النوع الذى يظهر فى فترات التحلل والتدهور الحضاريين، مثل
كل أبطال قصص الشطار واللصوص والمحتالين الذين ظهروا فى الحكايات الشعبية،
فى سياق لم يكن يحقق العدالة، وكان هؤلاء الأبطال الصعاليك (والقراصنة) هم
حلم الشعوب لاستعادة الحق المسلوب. إن هذا يعيدنا إلى التناقض الحاد بين
كون القرصان مجرما فى الواقع، وبطلا فى الفن، لكنه التناقض الذى يعبر عن أن
الواقع لا يحقق العدالة، لذلك يلجأ المتفرج إلى القرصان، لعله يحقق له فى
خياله عالما أكثر جمالا وعدلا!!
ناقد مصري
العربي المصرية في
04/08/2009 |