حين يدور الحديث عن السينما فلا بد لنا كمثقفين أن يكون لنا اهتمام
بالاعمال البصرية والمرئية ولا أحد يُنكر تزواج النص الادبي والسينما...
فمن أهم العوامل التي تُنجح الفيلم هو النص الروائي الذي يتحول الى نص
درامي وسيناريو... ولأننا كمتابعين للمشهد الأدبي والفني في العالم العربي،
فلابد أن تأخذ السينما، كونها النص المرئي عن النص الكتابي، مجالاً ليس
بالقليل من اهتمامنا كأدباء... نقاد... شعراء روائيّين وقصاصين.
اذ السينما هي تجسيد لما نكتبه وتجسيد للنص الكتابي بنص بصري .. السينما
الجادة التي تفضح الواقع وتسلط الضوء على المسكوت عنه في كل مجالات المجتمع
وبين مؤيد ومعارض للأفلام السينمائية المصرية، إلا انها تظل السينما
الرائدة في العالم العربي والتي لا يمكن تجاوزها لمزاجيات معينة... على
الرغم من اختلافي الكبير مع ما يتم طرحه تحت مسمى افلام عربية، إلا أن
السنوات الأربع الماضية اثبتت جرأة في الطرح وصناعة أعلى على المستوى
التقني والدرامي، في الرواية التي تُقدم كفيلم، وهذا ما لوحظ تحديدًا في
أفلام 2007/ 2008 وأهمها فلم تيتو .. الجزيرة .. و كباريه ..
ولأن الجدية في كل طرح هو ما يثير اهتمامي فبه ما يخدم العقل ويكشف
المستور عن بعض خبايا المجتمع المضطهد الذي حولته الظروف لحارات وشوارع
خلفية مليئة بالغث، أجدني أدافع عن النص البصري والذي هو محكوم مسبقًا
بالورق أي بالنص الكتابي، الرواية، لو صح التعبير ..
.. وكي يكون المبنى الأدبي في النصوص السينمائية هو مقصدي لذا سأختار ثلاث
روايات لثلاثة مؤلفين لثلاثة مخرجين، لكنها تشاركت بالبطل الواحد، وهو
شخصية من الشخصيات الناضجة فكريًا وفلسفيًا وحتى حواريًا هو الفنان أحمد
السقا الذي اثبت بكل جدارة إنه الأقدر على تأدية الأدوار الجادة والتي تحمل
داخلها العمق الفلسفي للانسان. فقدرته على تجسيد الصراع القائم بين القوي
والضعيف في افلامة الاخيرة ابتداء من فيلم تيتو والجزيرة. واخيرًا فيلم
ابراهيم الابيض الذي اثار ضجة واسعة لم تعطِ الفنان ولا العمل السينمائي
كنص ولا الاخراج حقه جعلني اتوقف عند هذه النصوص التي اثرت السينما المرئية
واثبتت القدرة الحقيقة للصناعة السينمائية في حال تم الجمع والتأليف الجاد
بين الثلاثية المعروفة النص / الاخراج / البطل .. فقدرة الفنان السقا
العالية على صقل النص الادبي بتجسيد منفرد لا يدل الا على حياكته الجادة
ومعرفته الجادة بكل تفاصيل الشخصيات الثلاث ما جعلني أقف على تجربته
الجماعية ولن أقل الفردية فلولا النص ولولا الاخراج لما تجسدت الثلاثية.
الادوار الثلاثة على الرغم من اختلاف ظروف شخصياتها لكنها توحد بين مبدأ
واحد وهو مبدأ القوة الذي يحكم البشر .. اختلاف شخصيتي تيتو( تأليف محمد
حفظي واخراج طارق العريان) وابراهيم الابيض ( تأليف عباس ابو الحسن واخراج
مروان حامد) توحدتا بطفولة بائسة، ولدت في زمن يحكمه السلاح الابيض .. وهنا
اشارة ذكية من الروائي عباس أبو الحسن حيث اعتمد لعبة الاسماء أيضًا والتي
قد لا يُهتم لها كثيرًا، لكن من الناحية النقدية للنص الأدبي فإن التسميات
مهمة جدًا حيث لها دلالات رمزية خفية تعطي العمل بكامله كاست خاص فابراهيم
الابيض لم يكن أبيض البشرة ولم يُعرف بهذا الاسم الا حين أصبح شابًا وهي
الدلالة الرمزية لابراهيم الذي لا يعرف غير السلاح الابيض منقذًا
ورفيقًا... ومنه اطلق عليه ابراهيم الابيض هذه البيئة التي يُسلط الضوء
عليها في النصوص الجديدة، وهي ما اطلق عليها بالعشوائيات .. هذه العشوائيات
على الرغم من دفاع السقا في لقاء معه ومع الكاتب والمخرج بقوله الا نطلق
عليها عشوائيات، فبهذا تهمش هذا الانسان ولا تعطيه الفرصه للعيش كفرد من
افراد المجتمع واننا نزيد الطين بلة في اطلاق هذه التسمية .. على الرغم من
كلامه الجاد والذي هو محل اعتبار ..
لكن دعنا نستخدم هذه التسمية مجازًا، فإن هذه العشوائيات ليست في مصر
وحسب، بل في كل الوطن العربي هذا لو صح اطلاق كلمة وطن ... ففي العراق
تحديدًا بدأت تظهر وبتسميات أخرى وفي سوريا تجد العشوائيات وفي الاردن وفي
الكويت وفي كل بلد .. لذا هذا النص الروائي ليس مختصًا ببلد واحد ولا يعتقد
المتفرج العربي انه في معزل عن هذا العالم بل اقول لكل من شاهد فيلم
ابراهيم الابيض إن في كل بلد عربي يوجد حي يقوده زرزور وهناك عشري وهناك
ابراهيم الابيض وهناك حب عنيف وحورية لا تعرف كيف تعبر عن حبها الا بالقتل.
وليكن النقاد والباحثون والمختصون في كل الشعوب العربية أكثر جدية في دراسة
هذه الظاهرة بمراجعة جادة لفلمي تيتو وابراهيم الابيض كي يعرفوا على الاقل
كمية الاضطهاد التي تمر بها هذه العشش الصغيرة، وكمية الخفافيش التي أهملت
حتى استطالت اظفارها وليس لسبب سوى التهميش والنظرة الدونية والفقر والجوع
الذي يجعل هذه الشريحة من البشر تسلك سلوكًا عدائيًا حتى في طريقة حبها
وحتى في طريقة تعبيرها عن هذا الحب. إذ سيكون عنيفًا وقاسيًا تمامًا كما
عاشت وكما تربت... لتكن المشاهدة جادة كي نصل إلى حلول لا إلى الطعن بقدرة
الممثل او بالكاتب او بكمية الدم التي أُريقت في الفيلم ( مع انها دماء
وهمية فمن الاجدر ان تفكروا بالدم الحقيقي الذي اصبح لا ارخص منه)
فيلم ابراهيم الابيض من العلامات الفارقة في تاريخ السينما العربية ابتداء
من النص الروائي مروراً بالاخراج الذي اظهر بجدارة ان الصناعة قابلة للتطور
وما ان تتاح الفرصة حتى يستطيع المخرج العربي مقارعة الأفلام العالمية التي
لم تصبح عالمية الا بفعل الانتاجات والشركات التي تموّل هذه الافلام باضافة
وجود عين المخرج الجاد والنص والممثل المحترف .. ليتربع قمة الفلم نجمه
المثقف احمد السقا... وليثبت انه صاحب مبدأ وأن التمثيل رسالة جادة وهادفة
وأن لكل مرحلة من حياة الانسان تقدمها الفكري والمعرفي وبهذا سينعكس على
دور الممثل في مرحلته الآنية وما يقدم من أعمال... لم يكن الفيلم دمويًا
كما عرض وكما تصايح بعضهم بقدر ما كان صادقًا وصارخًا بكمية المشاعر التي
حاول الكاتب اللعب عليها من خلال حورية وابراهيم وانتهاء بمقتلهما وهي
النتيجة الطبيعية لبيئة لا تعرف غير الموت حقيقة... هذا الفيلم كان صادمًا
لدرجة الرفض من قبل بعض النقاد... لأننا تعودنا على تلميع وجوهنا...
وتعودنا على كمية المساحيق التي تخفي البثور من تلك الوجوه... ولأن أعيننا
ما اعتادت هذا الكم من الصدق... من الحقيقة فترانا نغمضها خوف المعرفة وكما
يقول كولن ولسون لا صفح بعد المعرفة... فأي صفح بعد كشف حقيقة عالم يعيش
تحتنا وربما كنا نعيشه دون أن ندري... هذا الفيلم فضح الإنسان بزيفه من
داخله... بل هو تعرية حقيقية لانسانية الفرد والوحشية التي تتجسد في
داخله... فما هذا المجتمع الذي رأيناه على الشاشة إلا مجتمع دواخلنا
ونفوسنا التي بدأت تضيق بكل شيء اذ الانسان هو فرد داخل مجتمع ومجتمع داخل
فرد ..!
أما فيلم تيتو الذي كتب روايته محمد حفظي والتي أخذت عن قصة حقيقية كما
صرح السقا فإن هذه الرواية شكلت بعدًا انسانيًا يلامس الروح البشرية ليجعلك
تفكر في آخر الفيلم قائلاً "هل يُعقل لانسان أن يُنبذ بهذه الطريقة، على
الرغم ممّا كان يردد انه يريد أن ينظف...". هذه الكلمة التي شكلت رمزية
الفيلم بكامله والتي قد لا تستوقف احدًا، لكنها عبّرت عن البعد الفلسفي
لانسان قهرته الظروف لتجعل منه سوابق ومجرم وما ان يحين الوقت لينظف حتى
يجد الظروف من جديد لا تسمح له بهذه النظافة التي قد يتمتع بها كثيرون لكن
دون الاحساس بقيمتها او بجوهرها لمن فقدها... وما بينهما يأتي فيلم الجزيرة
الذي جاء بمنطق قانون القوة ووصايا الأب لابنه قبل أن يموت .. ليس منصور في
فيلم الجزيرة إلا واحدًا من ملايين في بقاع العالم العربي يعيشون على مبدأ
الثأر والقوة .. ففي العراق تحديدًا ما زال النظام العشائري قائمًا، وما
زالت هناك ثارات مبيتة بين عشيرتين وهذا ما يشترك به العرب جميعهم في حال
ارجاعهم الى الزمن القبلي وأن نظام القبيلة من الصعب ازالته مهما استجدت
الحكومات ومهما استطالت يد القانون ومهما تعولمنا لكن قانون العشيرة أو
القبيلة هو الذي سيسود رغمًا عن أنف الدولة، وهذا واقع لا يستطيع أحد تحديه
أو رفضه بالمطلق قد يحدث تجميد لبعض تحركات القبائل لكن لا يمكن اطلاقاً
بتر كل التقاليد والعادات الصحراوية التي تربوا عليها.
بعد هذا العرض المبسط لثلاث روايات بثلاثة مخرجين اشتركت ببطل واحد، أودّ
ان انوّه الى ان هذه الروايات الثلاث، على الرغم من أنها قدمت في مصر ومن
سينما مصرية لكنها توحد الفرد العربي بداخلها اذ تلامس البعد الانساني في
كل انسان قد يصبح يومًا تيتو أو منصور أو ابراهيم الابيض ... واود الاشادة
بدور الفنان أحمد السقا الذي استطاع ان يجسد النص الكتابي لهذه الشخصيات
الثلاث لا لكونه ممثلاً فحسب، بل لايمانه بالشخصية ولايمانه أن هذا العمل
لا بد أن يأتي كما نراه الان... لذا جاء هذا النجاح المنقطع النظير على
الرغم من الحملة الشرسة التي تعرض لها من بعض النقاد وعبر الصحف المصرية ..
لكن بعد حين سيُلتفت للعمل على أنه من أهم الاعمال الفارقة في السينما
العربية... وذلك لجودة النص المعروض والذي أصبح نادرًا أن تجد نصًا جادًا
يُعمل منه فيلم سينمائي.
وهنا أرى المسؤولية الحقيقة في صناعة افلام جادة تقع على عاتق الروائيين
العرب وأرى أنه لا بد من فتح الابواب من الطرفين لرفد السينما الحقة بنصوص
مهمة تستحق التأدية قادرة على توفير العمق الثقافي والبصري للمشاهد كي
نرقى بذائقتنا البصرية والأدبية والنقدية الى مستوى يؤهلنا ككتاب / فنانين
أن نناقش قضايا مجتماعتنا المتشابهه رغم اختلافاتها.
وليست الأفلام الثلاثة التي تم ذكرها الا مثالاً على جدية النص والاخراج
والتمثيل لتكون الأفلام روايات مرئية لا مجرد تفاهات تأخذ عدة ساعات من
اعمارنا القصيرة.
إيلاف في
22/08/2009 |