سألت المذيعة الماهرة الحسناء «مكرم بدوي» ـ الإعلامي اللامع والصحافي
ذا الباع ـ عن سرّ عدم وضعه النقاط على الحروف، وكان السؤال على الهواء
مباشرة فردّ بدوي منفعلاً: ..لأن الحروف باتت مدهونة بسمن المعونة حيناً
والتجويع حيناً آخر والحصار حيناً ثالثاً، فصارت النقاط ان وضعت فوقها
تتزحلق الى الهاوية!».
هذه لقطة عابرة من حلقة من مسلسل «ماتخافوش» لنور الشريف (الذي يلعب
دور مكرم بدوي)، وهو أحد المسلسلات الرئيسية على الشاشات الرمضانية هذا
العام. ليست هذه العبارة من مقال صحافي سياسي، ولا من برنامج حواري متخصص..
انما هي عبارة درامية نحتت بعناية، لتنحت بدورها ملامح شخصية اعلامي مصري
جريء، يضحي بحياة زوجته وابنته، ويغامر بحياته هو شخصيا في مواجهة «
اللوبي» المختفي وراء كل أكمة، اللوبي الفاسد محليا، واللوبي المتآمر
عربيا، واللوبي الصهيوني دوليا، وينطلق المسلسل من نطاق محلي ليصل الى
ملفات دولية بات كل عربي متورطا فيها حتى ذقنه!
ليس مسلسل «ماتخافوش» وحده الذي يفتح هذه الملفات السياسية. يبدو أن
صناع الدراما الرمضانية هذا العام قرروا ان يحوّلوها الى منتدى سياسي
متعدّد المنابر، يبوح ولا يخفي، ويقول ما لاتقوله صحف وفضائيات سياسية تدعي
لنفسها الجرأة.
ثمة ملفات سياسية من الحاضر وأخرى من الماضي القريب وثالثة تنتمي الى
ماض بعيد متجدد، تفتحها جميعا دراما رمضان هذا العام، بصورة لافتة للأنظار،
وكأن ثمة اتفاقاً غير مكتوب بين المؤلفين والمخرجين والمنتجين الذين صنعوا
هذه المسلسلات، على أن السياسة هي النغمة الرئيسية في الدراما هذا العام،
بصور مباشرة احيانا وغير مباشرة احيانا اخرى، وعلى أن السياسة لا تفطر من
يتعاطاها نهارا او ليلا في رمضان..!
«ماتخافوش»
انشغل نور الشريف منذ سنوات طويلة بتعاطي الشأن السياسي في أعماله
الفنية، سواء في السينما التي سبق له ان قدم فيها شريط «ناجي العلي» العام
1991، والذي كشف من خلاله أوضاعا كثيرة في الملف الفلسطيني وفي الملف
اللبناني، زمن الحرب الأهلية عبر سيرة رسام الكاريكاتير الفلسطيني الأشهر
أو في الدراما التليفزيونية، والتي كان له من خلالها نصيب كبير من الجدل
النقدي والفني في موسمي رمضان الماضيين، عبر مسلسله متعدد الأجزاء والذي لم
يعرض جزؤه الثالث بعد والمعنون « الدالي».
هذا الموسم يفتح الشريف ملفا خطيرا للغاية عبر مسلسله الرمضاني
(ماتخافوش) الذي يشاركه ببطولته نهال عنبر وميرنا وليد وابنته مي نور
الشريف ونخبة من النجوم وإخراج اللبناني المقيم بالقاهرة منذ سنوات بعيدة
«يوسف شرف الدين».
اختار نور الشريف منطقة غنية جدا بالدراما لكي يثير قضيّته، أولنقل
انه اختار «منصة إطلاق» خطرة لقضاياه التي تشبه المتفجرات في هذا المسلسل
الثري بالأحداث.
اختار ان يكون مكرم بدوي.. تلك الشخصية الافتراضية التي تدير قناة
فضائية تحمل اسم «الشعلة»، متخصصة بالسياسة والأخبار، كما اختار لبدوي هذا
أن يكون صحافيا في الأصل، لذا فإن بدوي حين يتفوق ويكتسح فضائيا، يقرر
تدشين صحيفته الخاصة الى جوار الفضائية التي يديرها. وبصرف النظر عن طرفة
عابرة في الأحداث، تقول ان العدد الأول مرتجعه صفر ـ وهي الظاهرة التي باتت
عصية على التحقق في اية مطبوعة في العالم اليوم ! ـ فإن مكرم بدوي هذا ينجح
في اثارة قضايا ضخمة للغاية، تكبد القناة خسائر مالية تصل الى اربعين
مليونا من الجنيهات (7ملايين من الدورات تقريبا)، كونه فتح ملفات سياسية،
أغضبت جهات معلنة لديه، ولم يبال.
ربما تبدو مثل هذه الشخصية لمحترفي الاعلام المرئي والمقروء عصية على
التحقق ـ مثل طرفة المرتجع الصفري تماما ـ لكن هكذا اريد للشخصية ان تنحت،
بنبل وتطرف في تبني الحق، ربما ليتأسس عليها بعد ذلك عدد من النتائج
المنطقية. فبدوي هذا لا يخضع لتهديدات الفساد في الداخل ولا تهديدات
الصهيونية في الخارج، ولا يبالي بقتل زوجته وابنته في سبيل راسلته
الاعلامية، ويضع رقبته ذاتها تحت مقصلة لا يطيقها اعلامي من اعلاميي اليوم:
تهمة معاداة السامية.
وفي الحلقات مفاجآت لا حصر لها، تؤهله لكي يكون من أثرى مسلسلات رمضان
هذا العام بالأحداث وأكثرها جدارة بالمشاهدة المستدامة. لكنه، وهذا هو
الأهم، يعد اول مسلسل يفتح ملف السامية ومعاداتها في عالم اليوم. انه دعوة
لتعاطي السياسة بمنطق غائب عن المنطق السائد حاليا، منطق الامتناع عن
الخوف، أو منطق مداهمة الأشباح التي تسكننا، قبل ان تداهمنا هي وتسيطر على
العقول.. أشباح الفساد والتطبيع والكذب، أشباح سياسية شتى، باتت تشغل الرأي
العام في مصر والعالم العربي، لاسيما والإصلاح هو النغمة السائدة اليوم في
العواصم العربية قاطبة.
ربما لهذا يحسب لنور الشريف أنه الوحيد الذي استثمر «الحالة
الاصلاحية» السائدة لكي يصنع دراما مختلفة بمسلسله «ما تخافوش»، حتى وان
اكتنفت المسلسل بعض المبالغات الدرامية..!
الحب والدم
هل يمكن في قلب أحداث العراق الراهنة ان تنشأ قصة حب؟ واذا كان ممكنا
فهل يمكن ان تستمر وتزدهر؟ ولو صار هذا ممكنا فهل يمكن ان تكون القصة بين
اثنين من الذين يعيشون في قلب النار؟
أسئلة حائرة محيرة حقا تلك التي يطرحها مسلسل «هدوء نسبي»، والذي تقوم
ببطولته نيللي كريم والسوري عابد فهد، الذي باتت له شعبية محسوسة لدى
الجمهور المصري الذي عرفه العام الماضي بدور فؤاد الأطرش في مسلسل «أسمهان»
على الرغم من ان الرجل مخضرم وله تاريخه.
بعد ساعات من أحداث التفجيرات الرهيبة قرب المنطقة الخضراء في بغداد،
بدأ المشاهد المصري والعربي في متابعة أحداث «هدوء نسبي».
البطلة نيللي كريم تعمل كمراسلة فضائية، وترتبط بقصة حب في العراق،
وان كانت حياتها تتعرض للقصف الدموي صباح مساء، وتتوالى الاحداث عاصفة لا
ندري الى اين ستطيح بهذا الحب.. وان كان يحسب للمسلسل، هذا النسيج المتماسك
المنطقي بين الحب والحرب والدم المسال في العراق، الا انه يحسب للمسلسل ـ
ربما اكثر ـ انه أول رصد وتحليل حقيقي للأزمة العراقية التي لم يحن بعد في
الافاق وقت انتهائها!
الحب والدم ايضا ثنائية واضحة المعالم في مسلسل «حرب الجواسيس». هنا
زمن الأحداث يختلف، ومعه تختلف «الرطانة» السياسية في العمل. في «ما تخافوش»
و«هدوء نسبي» القضايا معاصرة وساخنة جدا، وفي حرب الجواسيس، ننتقل الى ماض
ليس ببعيد جدا، تحديدا زمن حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية الاسرائيلية،
حيث تبدأ أحداث المسلسل بالعام 1968 وتنتهي في العام 1971.
المسلسل الذي تضطلع ببطولته نجمة السينما منة شلبي مع هشام سليم
والسوري باسم ياخور وشريف سلامة، وكتب له السيناريو بشير الديك وأخرجه نادر
جلال، مأخوذ عن أصل أدبي ذائع الصيت هو رواية «سامية فهمي»، التي كتبها
الراحل صالح مرسي عميد أدب الجاسوسية، ونشرها على حلقات في مجلة «المصور»
السياسية الأسبوعية المصرية في أواخر الثمانينيات، والرواية بدورها من
ملفات الاستخبارات العامة المصرية، وان كان الديك غير عنوانها حين حولها
الى مسلسل الى «حرب الجواسيس»، لأسباب فنية.
البطلة سامية فهمي نموذج للفتاة المصرية المتشبعة بالروح الوطنية،
صحافية هي في « روزاليوسف» كما تقول الرواية، ويقال انها لاتزال على قيد
الحياة، غير ان كل الفضول الصحافي والمطاردات التي اعتادها ابناء صاحبة
الجلالة، لم تفلح في الكشف عن شخصيتها الحقيقية في الشهور الماضية، بل ان
منة شلبي ذاتها قالت غير مرة انها لم تلتق سامية فهمي ـ وهو اسم مستعار
بالطبع ـ الى اليوم.
فهمي فتاة ربما نجدها الى اليوم من حولنا في شوارع القاهرة، فلا يزال
ثمة وطنيون ووطنيات بالملايين في مصر لم تغير الأيام ولاءهم. لكن فهمي
استثنائية.. فهي ابنة ضابط شهيد من القوات المسلحة المصرية، وهي متشبعة
بولاء خاص جدا للناصرية وعبد الناصر، وعضوة في التنظيم الطليعي، والى ذلك
فهي صحافية نشطة وجريئة القلب، تصر على ان تكون المراسلة الحربية لمجلتها
في الجبهة لتدون وتنشر يوميات بطولات الاستنزاف المصرية!
شخصية بهذه التركيبة الوطنية وهذه الذهنية السياسية المؤدلجة، كيف
تصنع حين تكتشف ان حبيبها خائن يتجسس لصالح استخبارات الدولة العبرية
«موساد»؟
هنا يختلف التعاطي السياسي لهذا المسلسل عن بقية المسلسلات، انه يختلف
اولا في سياقه الزمني، وبالتالي فهو يربط التاريخ القريب بالتاريخ الجاري،
ومثل هذه الأعمال تكون مطلوبة في ذاتها لإنعاش الذاكرة الوطنية، وتلقين
أجيال لم تشهد الصراع العربي الصهيوني ولا شهداء الحروب الأربعة بين مصر
واسرائيل، أصولا تاريخية ضرورية للغاية باتوا يجهلونها او يوشكون..!
السياسة هنا ـ ثانياً ـ ممزوجة بالطبيعة الأمنية للقصة الأصلية
وبعوالم التجسس والاستخبارات، وهو رهان مهم للدراما المصرية، تحوم حوله من
وقت الى وقت ليس لاسباب وطنية وحسب وانما كذلك لاسباب انتاجية، فهذه
المسلسلات هي من اكثر الأعمال رواجاً مصرياً وعربيا.
وربما تكون هذه هي المرة الاولى للدراما المصرية التي تقدم فيها بطولة
استخباراتية نسائية. فسامية فهمي تذهب برجليها طائعة مختارة للاستخبارات
المصرية لتعترف على حبيبها، ولتقبل مهمة تكلفها بها الاستخبارات المصرية
لجلب حبيبها المستقر في ايطاليا الى القاهرة متلبسا، لتستقر رقبته في حبل
المشنقة!
ليبرالية عكاشة
في الجزء الثاني من ملحمته التي ينوي ان يصل بها الى ستة اجزاء «المصراوية»،
يكرس اسامة انور عكاشة محورا كاملا من المسلسل للحديث عن نشأة حزب الوفد
المصري في أواخر العقد الثاني من القرن العشرين، ويجعل بطل الأحداث ـ
العمدة فتح الله الذي يلعب دوره «ممدوح عبد العليم» ـ وفدي الوجه واليد
واللسان، على قول المتنبي.
ونلاحظ هنا ان اهتمام عكاشة الوفدي وان كانت له سوابق في «ليالي
الحلمية «ـ ملحمته الأشهر على الاطلاق ـ لكنه هنا لا يكتفي بالاستعراض، بل
ينطلق كأنه يبشر بالوفد، لاسيما القيم الليبرالية التي مثلها هذا الحزب
لمصر والمصريين في زمن مؤسسه الزعيم الراحل «سعد باشا زغلول «.
هذا يعكس تحول عكاشة الذي ظهرواضحا في العامين الماضيين. فعكاشة كان
طوال الوقت محسوبا على اليسار الناصري، لكنه قبل عامين اعلن انه وان كان
متمسكا بمعاداته للتطبيع وباعتبار اسرائيل عدواً اساسياً ـ كما قال ـ الا
انه اعاد نظره في الفكرة القومية ووجدها ضد الصالح المصري الراهن، وبدا
كأنه يدعو للانغلاق، كما اعلن انه لم يعد يبشر باليسارية ولكن بالاستنارة
والقيم الليبرالية».»
هاهو عكاشة يؤكد ذلك دراميا في المصراوية، ويشرح على لسان ابطال العمل
كيف ان «الوفد» ـ الممثل الرئيسي لليبرالية السياسية في مصر في ذلك الزمان
ـ هو الحزب الشعبي الأكبر وانه لا زعيم الا سعد زغلول.
ويجعل التبشير بالقيم الوفدية واضحا جليا ليس فقط على لسان البطل
ممدوح عبد العليم ولكن على ألسنة بقية الابطال.
ولا ملامة على عكاشة ان كان اليوم يحتفي بماضي الوفد، فالوفد كان حقا
الحزب الشعبي الاول للمصريين قبل ثورة تموز ـ يوليو 1952، وهو الحزب الذي
حرك وقاد الثورة الشعبية في العام 1919. لكن هل هذه الحماسة الوفدية لدى
عكاشة في «المصراوية» تعبير نهائي عما بات يعتنقه سياسيا، ام انها تعبير عن
مرحلة درامية ستمر؟ ربما، والاجابة لن تتّضح الا حين تمر «المصراوية»
بالمرحلة الناصرية خلال الأجزاء القادمة منها!
عموما.. سادت السياسة بقوة دراما رمضان هذا العام.. ربما المناخ العام
هو ما يقف وراء تلك الظاهرة، فبعد ان كانت دراما الحكي الاجتماعي المستعرض،
هي المادة المفضلة للدراما الرمضانية، باتت السياسة مطلوبة بقوة لهذه
الدراما. لا يمكن للمنتجين ان يتجاهلوا المرحلة الاصلاحية الراهنة في مصر،
النظام نفسه هو اول الداعين لحوار مجتمعي حول الاصلاح اليوم، ولا يمكن ان
يتجاهلوا الحال في العراق او فلسطين، ولا الملفات السياسية الكثيرة التي
باتت تزدحم بها الصحف والمجلات والفضائيات، فتملأ الدنيا وتشغل الناس..!
المستقبل اللبنانية في
06/09/2009 |