توطئة لابد منها:
هذه محاولة جادة للتأريخ لبداية سينما الثورة الفلسطينية، من خلال
أبرز أعلامها، ورائدها، المخرج مصطفى أبو علي (الذي رحل أخيراً
/30/7/2009).. وكان من المهم جداً أن يتفضَّل الأستاذ المخرج مصطفى أبو علي
بتصحيح ما التبس عليّ من معلومات، إذ أنني أقدم هذه الدراسة نتيجة تدقيق في
المصادر التاريخية، والشهادات، وخلاصة المقارنة فيما بينها، خاصة وأنني لم
أكن شاهداً على تلك المرحلة، بينما كان هو أحد أهم الفاعلين خلالها..
المثير أننا، إلى اللحظة، لا نمتلك رواية واضحة وصريحة عن تلك
البدايات، ولعلي من خلال هذه المادة أُحرِّض الأستاذ الصديق تيسير مشارقة،
أولاً، ومن خلاله كل الأساتذة الأفاضل ممن له علاقة بالتأريخ والتوثيق
للسينما الفلسطينية، للمبادرة من أجل المساهمة في كتابة حكاية السينما
الفلسطينية، والإفادة في تصويب ما التبس في هذا الصدد، على الأقل بسبب
التباس الروايات والشهادات.. ذاتها..
مصطفى أبو علي..
مؤسس السينما الفلسطينية
إذا كانت سينما الثورة الفلسطينية، قد وُلدت من خلال تكوين قسم صغير
للتصوير الفوتوغرافي، شرع منذ أواخر العام 1967، وبدعم من القائد خليل
الوزير (أبو جهاد الوزير) بتصوير ما يتعلق بالثورة الفلسطينية، عبر تسجيل
صور شهداء الثورة، وبعض المشاهد من مخيمات اللجوء الفلسطينية، وهي المفردات
التي كانت مُتاحة للرصد والتصوير في الواقع الفلسطيني.. فإن المخرج
السينمائي الفلسطيني مصطفى أبو علي، هو من قام بقيادة العمليات الفنية التي
انتهت إلى تحقيق أول فيلم سينمائي فلسطيني، في إطار الثورة الفلسطينية. كان
ذلك في العام 1968، وكان الفيلم بعنوان «لا للحل السلمي».
المصادر والروايات تقول إن هذا الفيلم الفلسطيني الأول جاء نتاج وثمرة
عمل وجهد جماعي لمجموعة من السينمائيين الفلسطينيين، يُذكر منهم صلاح أبو
هنّود، وهاني جوهرية، وسُلافة مرسال، ومطيع إبراهيم، وعمر المختار،
وآخرون.. كما تتفق المصادر جميعها على أن هذا الفيلم تمّ بإشراف المخرج
مصطفى أبو علي.
يقول المخرج مصطفى أبو علي: (لم يكن مطيع إبراهيم وعمر المختار قد
انضمّا لمجموعة «أفلام فلسطين» في تلك الفترة، حيث انهما التحقا بـ «مؤسسة
السينما الفلسطينية» التي تأسّست في بيروت عام 1971 ).
فيلم «لا للحل السلمي» هو أول فيلم سينمائي فلسطيني أُنجز في سياق ما
يمكن أن نسميه «سينما الثورة الفلسطينية»، ولقد أنجز هذا الفيلم مجموعة من
السينمائيين الفلسطينيين في الأردن، لصالح حركة التحرير الوطني الفلسطيني/
فتح، وهي كبرى منظمات الثورة الفلسطينية، والتي بدأت بقيادة العمل
الفلسطيني منذ العام 1965، ليس فقط على المستوى الكفاحي الفدائي العسكري،
بل في مختلف المجالات بما فيها العمل الإبداعي الثقافي. وكان مركز عملها
وتواجدها الأساسي في الأردن، حينذاك، أي قبل أن تعصف بها أحداث أيلول 1970
وتطيح بها خارج الأردن، وتتجه نحو لبنان..
«لا للحل السلمي»، هو فيلم تسجيلي وثائقي قصير (20 دقيقة)، صُنع من
أجل تسجيل ورصد الموقف الشعبي الجماهيري الرافض لمبادرة روجرز، الأميركية،
التي طُرحت بعد نكسة عام 1967، كشكل من أشكال الحل السلمي التسووي، الذي
أرادت بعض القوى والجهات الدولية، فرضه بعد نكسة حزيران، اتكاء على الواقع
الجديد الذي فرضه الاحتلال. ويقوم الفيلم بتصوير المظاهرات الجماهيرية
الشعبية الرافضة للحلول التسووية (التصفوية، كما اعتاد الكثيرون وصفها)،
ويجري الفيلم العديد من الحوارات، مع فدائيين، ومقاتلين، وأبناء المخيمات
الفلسطينية، في الأردن، ليبين الردَّ الشعبي الجماهيري، الواسع، الرافض
لهذه الحلول التسووية!
يقول المخرج مصطفى أبو علي: (بالنسبة لفيلم لا للحل السلمي فقد
اقترحتُ فكرة الفيلم، وأسلوب تركيبه، وضمن ما كنا نرغب في تنفيذه في البحث
عن لغة للسينما النضالية، وقد نوقشت هذه الاقتراحات، وتم تبنيها، وجرى
تكليف صلاح أبو هنود للذهاب لبيروت لتنفيذها. وعندما عاد بالفيلم، شعرتُ
بخيبة أمل شديدة، لأنه لم يحتوِ على ما اتفقنا عليه، وانتهينا بفيلم مع
تعليق إذاعي حماسي ترافقه اللقطات. أما أفكارنا عن السينما النضالية،
وتطوير لغة خاصة بها، فقد تمت تجربتها لأول مرة في فيلم «بالروح بالدم»).
مصطفى أبو علي، يحتفظ لنفسه أنه كان مؤسِّساً لسينما فلسطينية خالصة،
سينما الثورة التي كانت المجال الفلسطيني الوحيد، بعد أن تناثر السينمائيون
الفلسطينيون في بلدان عربية متعددة: غالب شعث ومحمد صالح الكيالي عملوا في
السينما المصرية والسورية واللبنانية، وعبد الوهاب الهندي وإبراهيم أبو ناب
وصلاح أبو هنود في الأردن، وعمر العلي عملوا ما بين سورية والخليج،
وإبراهيم الصباغ ويوسف شعبان محمد في ليبيا.. وهو، أي مصطفى أبو علي، في
هذا الإطار، وجَّه جهوده للعمل في إطار السينما التي أدرك ضرورة أن تكون
مرافقة لفعاليات الثورة الفلسطينية المسلحة، ولهذا فإنه عاد في العام 1970،
لتقديم فيلم «بالروح بالدم»، وسيستمر بالعمل في إطار سينما الثورة
الفلسطينية، طيلة عقد السبعينيات من القرن العشرين. وسنتوقف نحن هنا أمام
عدد من أفلامه التي أنجزها في هذا الإطار:
«بالروح الدم» 1970
فيلم تسجيلي وثائقي تمثيلي طويل، مدته (40 دقيقة).. موضوعه الأحداث
التي وقعت في أيلول في الأردن، ذاك العام. يفتتح الفيلم بمشاهد مفتوحة على
المكان؛ أفق مدينة عمَّان، العاصمة الأردنية، وعلى الزمان الذي هو العام
1970، حيث مشاهد من القصف الذي كان يستهدف أماكن وجود الفلسطينيين. لقد
بدأت الأحداث الدامية التي تمّ التعارف على تسميتها بأيلول الأسود.
الفيلم يحاول تقديم عرض وتحليل لأحداث أيلول الدامي، وقد شاء أن يقوم
بذلك من خلال مشاهد تسجيلية حيّة، تصوّر العمليات العسكرية التي استهدفت
الفلسطينيين، في مواقع الفدائيين كما في المخيمات، ويحاول القيام بعملية
ترميز وتدليل من خلال مشاهد تمثيلية، ذات طابع مسرحي مباشر، تؤكد على
التحالف ما بين الإمبريالية الغربية، والإدارة الأمريكية، والحركة
الصهيونية، والرجعيات العربية، ضد الثورة الفلسطينية، يشرح ذلك التعليق
الصوتي المرافق. في ذات الوقت الذي يقدّم مشاهد من التدريبات والفعاليات
التي تمارسها الثورة الفلسطينية، وتمثّلها لتجارب ثورية ناجزة خلال القرن
العشرين، في الجزائر وفيتنام وكوبا، لتكون حركة تحرر وطني.
يقوم الفيلم بتقديم رؤية الثورة الفلسطينية بصدد تلك الأحداث، فيمرّ
على العديد من التفاصيل ذات العلاقة بالشأن، كالموقف الفلسطيني من مبادرة
روجرز، لكن الفيلم يريد التأكيد على أن السلطة الأردنية أخذت مواقفها ضد
الثورة، منذ البدء، وهي منذ منتصف العام 1969 بدأت العمل لتهيئة الأجواء
لضرب الثورة، حيث بدأت بمحاولة زرع الفرقة والشقاق بين الثورة الفلسطينية
والشعب، ومنها الأخذ بتضخيم الأخطاء التي بدرت من الثورة، والادعاء بأنها
تستهدف النيل من كرامة الجيش الأردني. وصولاً إلى اشتعال النار في عمان
وإربد والزرقا..
لقد هُزمت الثورة هزيمة نكراء أمام الجيش الأردني، في معركة غير
متكافئة أصلاً، وغير مبررة!.. والفيلم لن يتوانى عن عرض ما أمكنه من مشاهد
من الدمار في المخيمات. القتل والتدمير. وخراب البيوت. ضرب المستشفيات.
لجوء الفلسطينيين إلى الجوامع. استنجاد الناس بالثورة، ورجال الميليشيا.
وفضلاً عن المشاهد الحية قام المخرج باستخدام صور فوتوغرافية من الصحف،
والمنشورات، والاهتمام بتحريك الكاميرا على تفصيلات من الصورة، بحيث تبدو
الكاميرا كأنها تقرأ المانشيتات، وتتأمل تفاصيل الصور، والرسوم
الكاريكاتورية، والكشف عن التضامن العربي والدولي مع الثورة، من خلال
تسجيلات صوتية، أقوال وأشعار وخطابات، ورسائل إلى مؤتمر القمة العربية،
لينتهي إلى حديث عرفات عن ملحمة عمان، وعن استكمال المشوار.
يعتبر فيلم «بالروح بالدم»، الفيلم الثاني الذي أنتجته الثورة، وحركة
فتح تحديداً. وإذا انتبهنا إلى أن هذا الفيلم يعود إلى فترة مبكرة تماماً،
في عمر السينما الفلسطينية، بل عموم السينما العربية (باستثناء مصر)،
فيمكننا القول إن المجموعة التي عملت في هذا الفيلم، والمخرج مصطفى أبو
علي، التي استلم قيادها والإشراف عليها، حاولت استخدام كل ما يمكن من
أساليب وطرق عمل الفيلم التسجيلي الوثائقي، وصولاً إلى توظيف مشاهد تمثيلية
مصنّعة (على سذاجتها) من أجل صناعة الفيلم، وبالتالي فإن الفيلم كان
مدرسياً حرفياً من الناحية البنائية الفنية، ولم يخرج عن تقليدية الفيلم
التسجيلي.
ويُروى أن هذا الفيلم قد عُرض على من حضر مؤتمر القمة العربي، الذي عقد ذاك
العام، في دلالة على أهمية الفيلم السينمائي، كوثيقة بصرية حاسمة.
يقول المخرج مصطفى أبو علي عن هذا الفيلم: (أخي بشار.. بتقديري..
الفيلم خرج كثيراً عن تقليدية الفيلم التسجيلي، فالوسائل المختلفة، السمعية
والبصرية، التي استعملت لنقل مضمون الفيلم، لم تكن مألوفة في تلك الفترة،
وربما أيضا الآن.. هل لاحظت الرسومات داخل الفيلم للجندي الذي يفقأ عينيه،
فهي للفنان التشكيلي السوري نذير نبعة، وقد رافقها مقطع من موسيقى
سترافينسكي «قصة جندي» المعروفة؟)..
«عدوان صهيوني» 1972
فيلم تسجيلي وثائقي قصير مدته (22 دقيقة) يسجّل الصورة البشعة للعدوان
الصهيوني ضد العزل، من المدنيين في مخيمات فلسطينية، وقرى في سوريا ولبنان،
رداً على عملية ميونيخ الشهيرة، التي نفذها فدائيون فلسطينيون ضد الوفد
الرياضي الإسرائيلي المشارك في أولمبياد ميونيخ عام 1972.
في فيلمه هذا، يقدم مصطفى أبو علي المشاهد المسجّلة عن آثار تلك
الغارات الوحشية، فيعرض لصور الجثث والأشلاء، كما يعرض لحجم الدمار الكبير،
وينهج المخرج أسلوب تقديم غالبية المشاهد بصمت، ومن دون أدنى مؤثرات، أو
موسيقى مرافقة، وحتى دون أي تعليق..
هنا، وعلى الرغم من أن المخرج يتحدث عن الموضوع ذاته، الاعتداءات
والمجازر والقتل، إلا أن هذا الفيلم يختلف عن سابقه تماماً. يبدأ الفيلم
بلقطات واسعة تتأمل في جرود وجبال وأحراش متناثرة في الريف السوري
واللبناني. قطعان ماعز. صوت الثغاء، وخرير مياه النهر. تبدو الكاميرا وهي
تتجوّل بلقطات بانورامية، واسعة ثم متوسطة وقريبة، بين الحقول والمزارع،
والبساتين والكروم. نهاية الصيف. جمع المواسم. البيادر. درس سنابل القمح،
بداية الطريق لتتحول إلى أرغفة خبز. الحياة تسير بكل ببطء وهدوء ورخاوة..
ولكن أيلول مرة أخرى على الأبواب!
يقطع المخرج انسياب هذه الحياة على الشاشة من خلال إيراده كتابة أولى
تقول: «أفلام فلسطين.. تقدّم.. عدوان صهيوني». وهي حالة أولى، في السينما
الفلسطينية، لتأخير عنوان الفيلم، واسم منتجه، إلى ما بعد الدخول في
الفيلم. ثم كتابة تالية توضّح: «في 8 أيلول 1973 قام طيران العدو الصهيوني
بقصف المدنيين ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين في جنوب وشمال لبنان وسوريا»..
وستتم إعادة الكتابة باللغة الإنكليزية، ثم بالفرنسية..
بهذه الطريقة يخرج الفيلم متلقيه من الحالة البدئية التي قدّمها؛
سلامة العيش وأمنه، إلى ما يفعله العدوان الصهيوني: مشاهد من الغارات. صوت
أجهزة الإنذار. سيارة إسعاف مسرعة. التدمير، الحرائق، أعمدة الدخان.
الخراب، والتحطيم، للبيوت والممتلكات.. الجثث والأشلاء الممزقة للناس
وحيواناتهم.. عدد قليل من الناس يبحثون عما تبقى لهم من ناس أو ممتلكات..
إخراج جثث من تحت الركام. جثث أطفال وطلاب مدارس.
الصمت يخيّم على المكان.. لا يستخدم المخرج أي مؤثّر صوتي. ربما يريد
أن يترك المشاهد يسمع صوت آلة العرض، فقط، مع التركيز القاسي، في هذا الصمت
الموحش، على المشاهد الموجعة (رأس طفل فلقته شظية، وبطن طفل آخر مُزِّقت
أحشاؤه). أطفال جرحى في المستشفيات. مشاهد من تدمير مدارس، ودوائر حكومية.
انتشال جثة فتى متصلّبة من ماء البحر المالح. تدمير في كل مكان، ومصوّر
أجنبي يجول بكاميرته بين هذا الحطام. مدنيون، رجال ونساء، في نظرات ذاهلة
تكاد لا تصدّق أن هذا يحصل. مشاهد النادبات النائحات. تشييع الضحايا في
أعراس وطنية، يمتزج فيها التكبير بالشعار بالتصفيق بالعويل.. مسيرات تعلن
أن المقاومة مستمرة.. وهنا سيظهر الصوت، عندما نرى رشاش المقاومة، وهو
يتصدَّى لطائرة إسرائيلية..
فيلم «عدوان صهيوني» محاولة للتعبير بالصورة عما يجري. محاولة لفسح
المجال أمام الصورة أن تحكي الكثير من حكاية المأساة بدون كلام.. بدون
ثرثرة.. بدون شعارات.. بدون خطابات..
يقول المخرج مصطفى أبو علي: (أخي بشار: شكرا لملاحظتك بان الفيلم
(يختلف) عن سابقه. نعم، هذا صحيح!.. ففي إطار البحث عن لغة سينمائية خاصة
بنا، كان كل فيلم (من أفلامي) يجرب أسلوباً مختلفاً. وستجد أن فيلم «ليس
لهم وجود» مختلف عن سابقيه أيضاً، وهكذا مع كل فيلم.. وعلى الرغم من اختلاف
الأسلوب أو الأساليب فإن الروح واحدة، كما لاحظ الفنان التشكيلي الفلسطيني
إسماعيل شموط، بعد مشاهدته لأحد الأفلام أثناء فترة بيروت).
«ليس لهم وجود» 1974
فيلم تسجيلي وثائقي متوسط الطول (مدته 25 دقيقة). يصوّر الغارات
الوحشية على مخيمات النبطية وعين الحلوة والرشيدية والبرج الشمالي، في جنوب
لبنان، باعتبارها محاولات إبادة صهيونية ضد الفلسطينيين، مما يذكّر
بمحاولات الإبادة الإمبريالية التي ارتكبت في غير منطقة من العالم، ضد
الشعوب المناضلة والمكافحة..
إنه الموضوع ذاته، ولكن هذه المرّة يعتمد المخرج طريقة أخرى، مختلفة
عما فعله في فيلميه السابقين. سيجعل المخرج مصطفى أبو علي من فيلمه هذا
مقطوعات بصرية مكوّنة من عدّة أقسام، مرقَّمة متتالية، متراكبة ومتراكمة..
هي تسعة أقسام، تتقاود فيما بينها لتقدّم البنية والمقولة النهائية للفيلم.
القسم الأول: المخيم. مخيم النبطية حيث نرى مشاهد من هذا المخيم تتدفق
على أنغام موسيقى أغنية (رباعيات الخيام) لأم كلثوم. الكاميرا ترصد المكان،
بكافة تفاصيله.. البيوت، باحاتها، الغرف، الجدران المحمّلة بصور شخصية، من
أفراد الأسرة، تتشبث الصور في إطاراتها الخشبية، وتتمسك الشخصيات بنظراتها.
الزواريب، سمة المخيم، حيث الممرات الضيقة المتعرجة، بين البيوت
الواطئة والمكشوفة على بعضها البعض. قنوات الصرف المكشوفة.. الدكاكين
الصغيرة، البسطات، العربات، الباعة المتجوّلون. سوق الخضرة. الناس في
حياتهم اليومية. النساء يغسلن وينشرن الغسيل. يطبخن.. الكنس والعناية
بالنباتات التي زرعنها في أصص من تنك علب الحليب أو الزيت، أو أحواض من
الإسمنت والحجر.. الأطفال وألعابهم بأبسط الأدوات وأفقر الأساليب.. الرجال
وقعداتهم. الدواوين، القهوة المرّة. الكانون والركوة والدلّة..
تنتهي الجولة إلى باحة (حوش) أحد البيوت في المخيم، حيث أسرة لاجئة
تجلس، الأم تعمل على رقّ العجين بواسطة (الشوبك)، في حضنها طفل رضيع،
وحولها ثلاثة أطفال يتسابقون بأعمارهم. الأب ينتظر، وابنته الصبية تكتب
رسالة إلى أخيها الفدائي، تخبره عن مبادرة الشؤون الاجتماعية لجمع هدايا
ورسائل للفدائيين من أهالي المخيم.
على شريط الصورة تبدو الصبية وهي تكتب، بينما على شريط الصوت نسمعها
تقرأ رسالتها، بلهجة فلسطينية صافية. تنتهي من الكتابة/القراءة، وتناول
الرسالة لأبيها. عندها يبدأ التعليق معرفاً بمخيم النبطية، بدءاً من إنشائه
عند الخمسينيات، حتى اللحظة (1974). وثمة استطراد في تمثيل مشهد يبين رجلاً
من الشؤون الاجتماعية وقد جاء لأخذ الرسائل والهدايا للفدائيين، من أهالي
المخيم
القسم الثاني: الفدائي. إذ يتم الانتقال إلى أحد مواقع الفدائيين. في
المشهد خيمتان وبضعة فدائيين، يمكثون بين الأشجار. نراهم على إيقاع صرخات
نشيد (فدائي). يحضر رجل الشؤون الاجتماعية ويقوم بتوزيع الأكياس التي
أحضرها لهم من المخيم. يبدأ الفدائي بقراءة الرسالة ذاتها، وتأتينا أيضاً
بصوت الصبية ذاتها.. نرى أكثر من فدائي يقرأ كل منهم رسالة.. ربما هي
ذاتها.
تعرّف الصبية عن نفسها، باسمها (عايدة الشيخ) وعمرها الذي يبلغ
العاشرة. مخيمها في النبطية، بينما هي من فلسطين، من قرية الكابري. ويكشف
المشهد أن الصبية تكنّ للفدائي (كلّ فدائي) مشاعر الأخوة. وهذا إن أهدته
منشفة، فذاك ما تقدر عليه.. وسترسل سلامها لكل فدائي.
القسم الثالث: الإمبريالية. يظهر الصحفي الفلسطيني (أحمد صوّان) يتحدث
بنبرة قوية، ليؤكد أن الإمبريالية مستعدة لارتكاب أي جريمة، وإبادة أي شعب،
إذا اقتضت مصالحها. والفيلم سيؤكد من خلال بطاقات مكتوبة متتالية: فيتنام،
موزامبيق، الهنود الحمر، جنوب أفريقيا، المذابح النازية.. والإبادة عنوان
ووسيلة لتحقيق الأهداف الإمبريالية..
القسم الرابع: إسرائيل. الطائرات الإسرائيلية تشن هجوماً على مخيم
النبطية، بتاريخ 16/5/1974. مشاهد لطيران حربي، يحوّم في فضاء المخيم.
كتابة تبيّن مقولة غولدا مائير: (الفلسطينيون. من هم الفلسطينيون؟.. لا
أعرف شعباً بهذا الاسم).. على شريط الصوت أصوات قصف وغارات وإطلاق نار..
ومشاهد بصرية لتحضير الطائرات الحربية للإقلاع. الطائرات تنطلق. يبدأ
القصف. وكتابة على الشاشة لمقولة موشي دايان: (لم يعد لفلسطين وجود.. لقد
انتهت). الغارات مستمرة على شريط الصوت. ومشاهد للطيران الحربي يغير..
يقول المخرج مصطفى أبو علي: (أخي بشار: ألاحظ أنه قد فاتك شيء مهم
هنا، وهو مرافقة موسيقى لـ (جان سابستيان باخ) مع قصف الطائرات. ويأتي هذا
الاستعمال للموسيقى (الغربية) مقابل الموسيقى (الشرقية) في الفقرة الأولى
لرياض السنباطي في رباعيات الخيام.. إن إسرائيل تقتلنا تحت مظلة الحضارة
الغربية.. وقد أثار هذا الاستعمال للموسيقى اهتماماً كبيراً بين النقاد.
وقد ظل أحدهم (ناقد/ باحث) يسألني المرة تلو الأخرى (مشككاً) إذا كنت تأثرت
بـ المخرج (فرانسيس فورد كوبولا) في فيلمه «القيامة الآن»، إذ يبدو أنه
استعمل الموسيقى الكلاسيكية بطريقة مماثلة، وكنت أنفي ذلك، ولكنه لم يصدق..
وبعد مرات عديدة من تكرار السؤال، وقد ضاق بي هذا الأمر، لجأت إلى
الانترنيت، وبحثت عن فيلم كوبولا، لأجد أنه انتج عام 1979 ، وفيلمي أنتج
عام 1974، وبإمكانك أن تتصور أية خيبة أصيب بها، عندما واجهته بهذه
الحقيقة).
القسم الخامس: الإبادة. لقد أبيد ثلاثة أرباع مخيم النبطية. صور آثار
التدمير. البيوت. الحطام. النباتات. مشاهد صامتة للمخيم مدمراً. نقل جثث
الضحايا.. يبدو المخيم كأنما زلزال عنيف ضربه..
القسم السادس: الإعلام. مؤتمر صحفي، حيث السيد فاروق القدومي، رئيس
الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية، يقرأ بيان حول الغارات
والهجمات ضد المخيمات.. البيان يؤكّد على الربط بين إسرائيل والنازية. وعلى
التحالف الأمريكي الإسرائيلي. ويبين حقيقة الحقد والكراهية للعرب.
يؤكد القدومي على الموقف الفلسطيني العالي بالقول: من الموت والشهادة
نصنع تاريخ أمتنا. نقاتل من أجل السلام والعدالة. نقيم الدولة الفلسطينية
الديمقراطية على كامل تراب فلسطين. وسنبقى نناضل حتى نحقق الهدف المنشود.
القسم السابع: شهادة من خارج المخيم. مواطن من مدينة النبطية: يقول إن
بين 40- 50 طائرة قامت بالقصف على المخيم.
القسم الثامن: شهادات من المخيم. امرأة استشهد ابنها الشاب تحت
الأنقاض. والفيلم يترك للأم حرية الحديث، تنظّر تارة حول الصراع، وتتحدث
تارة أخرى مع صورة ابنها الشهيد. رجل فقد 4 أولاد. رجل آخر يقول: (مش مهم
من يموت. المهم أن نستمر بالثورة).
القسم التاسع: الذاكرة. الفدائي الذي رأيناه في البداية يتلقى رسالة
وهدية، يتذكّر الصبية عايدة، ابنة المخيم الذي أُبيد. عودة ثانية إلى أغنية
أم كلثوم، رباعيات الخيام، تماماً عند المقطع الذي يقول: (أولى بهذا القلب
أن يخفق..)
الفدائي صامت..
لقطات ليلية لمدفع رشاشة مقاومة يطلق رصاصاته فتتوهج في قلب العتمة.
لا شك أنه في المواجهة.
الفدائي صامت..
المستقبل اللبنانية في
06/09/2009 |