|
ربما وجد المخرج البوسني امير كوستوريتسا عذرا لنفسه عندما قرر أن
يصنع فيلم «رقم عشرة» عن لاعب كرة القدم الأرجنتيني دييغو مارادونا. فهو
يجده «مبثوثاً» في أفلام روائية له مثل «قط أسود ... قط أبيض»، وربما في
«أب في مهمة عمل»، وخاصة عندما كان يستقل القطار ليبحث عن اللاعب الأسطورة.
فالقطارات هنا تذكره بحالتين: النازية عندما كانت تقتاد بها ضحاياها إلى
معسكرات الاعتقال، والشيوعية البكماء التي كانت هي الأخرى تقتاد ضحاياها
أيضا إلى الغولاغ . القطار في حالة مارادونا بالطبع مسألة مختلفة، لكن
كوستوريتسا لا ينفك يذكر به، فالعثور على ضالته ليس أمراً هيناً . البحث
هنا (للمفارقة) يشبه الذهاب في الحالتين، وهذا موضوع أشبه بالاستحالة، اذ
لايمكن لقطار واحد أن يتقدم في اتجاهين وفي وقت واحد .
يقرر أمير كوستوريتسا في لحظة استثنائية أن يذهب إليه بدءا من العام
2005 في مسقط رأسه، ويعترف بأنه كان يعتقد بوجود صعوبة في الوصول إليه، فقد
تحول في بلاده الأرجنتين إلى إله من لحم ودم، وصار بوسع محبيه أن ينضموا
إلى الكنيسة المارادونية، وأن يغفروا له هفواته وأخطاءه، لأن الناس سرعان
«ما يتعودون الصفح عن الآلهة».
بالطبع سوف يلتفت المخرج البوسني في لقاءاته معه إلى أفكاره التي أخذت
تطغى بالتدريج على ركلاته السحرية، والتي أصبحت جزءا من ماضيه الذهبي الذي
لايغتفر، كأن يظهر شغوفا بالحديث عن فيديل كاسترو، وهو كان يلتقيه حتى وقت
قريب بشكل دوري واصفا إياه بالسد المنيع الذي وقف في وجه أميركا، ومنعها من
التهام دول أميركا اللاتينية . من هي أميركا الغاشمة بحسب النجم ماردونا؟:
«إنها جورج بوش السفاح الذي لا يمكنني أن أتناول معه طعام العشاء «.
يبدو إلى هنا «بطل كرة القدم عبر كل العصور» منتشياً ومتلذذاً بالحديث
الحر والانسيابي عن أعداء الأرجنتين. وهو يتخفف أو يتفلت من الضغوط الرهيبة
التي عاشها جرّاء ادمانه الكوكايين، وكان بدأ يتنفسه مثلما يتنفس الهواء
وقد فقد رشاقته وأصبح مدورا مثل برميل. وكان يعرف أيضا كلاعب مرّغ أنوف
الانكليز بالوحل في مطارحة كروية جمعت إلى جانب مراقصة الكرة، الجنس
والتانغو والشعر والتصفيق بالأيدي حتى الموت. فهم (الانكليز) من تلوثت
أيديهم بالدماء الأرجنتينية . بالطبع سيتوقف الكثيرون أمام ساحر الكرة
القصير القامة، وربما أكثر أمام لمسة اليد اليسرى التي تحولت إلى أيقونة
بين معجبيه، وهو يعرف تماما بأن اللحظة التي هزّ فيها الشباك الانكليزية
عام 1986، انما كان يسرق فيها محفظة من جيب انكليزي. ربما يحمل تعليقه
اعترافاً ضمنياً باللمسة، وقد كان لابد أن يكتمل قوسها حتى تكتمل لحظة
الاعجاب بالآلهة وهي تتجول بين البشر العاديين. أبعد من كل ذلك، وانطلاقاً
من هذه اللحظة يتساءل كوستوريتسا كيف أمكن لبلد عالم ثالثي واقع لا محالة
تحت طائلة ديون العالم المتقدم أن يفلت من البراثن الحديدية، ويقوم
بالالتفاف على معادلة كونية من خلال لمسة يد فاتنة قام باختراعها شاب ظل
حتى وقت قريب معدماً ومجهولاً ولا أحد يعترف به. وهي بالتأكيد معادلة لم
تكن تفرضها كرة القدم على المصارف والاحتكارات، بالقدر الذي كانت تتدخل فيه
المافيات المنتشرة حول اللعبات الكبيرة. مارادونا يبسط الاجابة بطبعه المرح
والمشاغب معتبرا أن رئيس فيدرالية المافيات الايطالية كان قد قرر حينها
(مونديال 1986) المباراة النهائية بين ألمانيا وانكلترة، وجاء هو ببساطة
ليزيح واحدة من أفكاره عن الطاولة، ويتفرغ من بعدها لفكرته الثانية، مبددا
بذلك أحلام الكثير من المافيات الكبيرة .
لا يخلو (رقم عشرة) من شغب الرسوم المتحركة التي تناولت مارادونا وهو
(ينازل) مارغريت تاتشر وسط صراخ الجماهير المؤيدة له. النزال الذي لا ينتهي
إلا من خلال الاطاحة برأس السيدة الحديدية على الأرض. لم يكن ذلك موقف
كوستوريتسا من الصراع الدائر أمامه، وهو يعترف بأنه تلقى تربية غربية، ولكن
ما يحدث أمامه على الشاشة هو تقليد سلوك مارادونا الذي لاينفك يذكر باعجابه
الكبير بفيديل كاسترو، وبخصيتيه حتى، وأن يشير إلى حجمهما، كما لو أنهما
بحجم كرتي قدم. وشم فيديل متوضع على قصبة ساقه اليسرى، ووشم آخر لتشي
غيفارا على ذراعه اليسرى. الوشمان الأبديان كأنه بهما يفارق غواية الضربات
التي عاش لها أكثر مما عاش لأي شيء آخر، وربما أكثر مما عاش ومنح وقتا
لابنتيه دالما وجوكا. ذلك أنه في اللقاء الكروي الذي جمعه إلى جانب المنتخب
الانكليزي خيل للعالم حينها أن الكرة الأرضية سوف تنزل عن محورها، ولكن
شيئا من هذا لم يحدث. بقيت الكرة الأرضية في مكانها، وكرة القدم هي التي
ظلت تتأرجح بين الشباك في نزال كروي سيتذكره الأرجنتينيون بوصفه فصلاً
تاريخياً رتبت فيه شهوة الانتقام من حرب خاسرة مثل حرب جزر المالوين أجمل
وألذ ترتيب .
ولد دييغو مارادونا في فيلا باستو من عائلة فقيرة معدمة تقيم في أكواخ
قصديرية . له أخت واحدة وشقيقان كان يحلو لهما أن يحترفا لعبة كرة القدم في
الملاعب المحلية، ولكن مع سطوع نجم شقيقهما الأصغر بعد أن لعب لحساب منتخب
بلاده وهو في السادسة عشرة من عمره تنازلا له عن سدة العرش ورضيا بدوريهما
في اللعبة، وقد انصرفا إلى شؤون أخرى في الحياة .
الكوخ القصديري سوف يكون موقعا محببا لمارادونا وسوف تزوره كاميرا
كوستوريتسا مستخدما في نفس الوقت صورا أرشيفية بالأسود والأبيض لذلك الشاب
المتحمس الذي لا يمل «مناطحة» الطابة برأس مشعث الشعر، يخيل لمن يتابعه أن
فعلا كرويا أبديّ المنحى يدور في هذه اللحظات، وأنه ليس بالامكان حدوث قطع
متخيل هنا. فالشاب البوهيمي يراقص الكرة من دون أن يشعر بالتعب، وبالقرب من
ذلك الكوخ الذي لم يزره البطل منذ خمسة عشر عاما كما يخبرنا. يحيلنا
كوستوريتسا إلى متعة الأندرغراوند من خلال الموسيقى التي يفتتح بها فيلمه،
وهو بذلك يحيل إلى تفتيت اللحظة الأكثر مأسوية في حياة النجم الأسطوري،
اللحظة التي عاشها في طفولته قبل أن يتحول إلى رمز معبود من الجماهير. من
يمكنه أن ينسى بعد عام 1986 تلك الجحافل البشرية التي كانت تنتظره مع كل
اطلالة له. إنها طريقة الأرجنتينيين في العيش وفي اللوعة، ذلك أنه على كل
معجب إن أراد راحة البال العاطفي أن يعقد قرانه على حبيبته وأن يتزوج بها
في الاستاديون الخاص بالكنيسة المارادونية، وأمام نصب خاص بها شعاره لمسة
اليد اليسرى. اليد الغشاشة التي هزت شباك الانكليز إلى الأبد . كانت الشباك
هنا تهتز من دون أن تتوقف بفعل هدف واحد لامثيل له في التاريخ، وكأن الأمر
بدا مجرد مزحة لاتخرج عن نطاق نشل محفظة انكليزي غشاش بدوره سيسقط وراءها
تباعا وبطريقة الرسوم المتحركة الأمير تشارلز والملكة اليزابيت وطوني بلير
وحتى ريغان وجورج بوش. جميعهم سيكونون هدفا لمارادونا وتسديداته المراوغة
للجميع . لا يخفي مارادونا وشم جيفارا، لا بل يظهره أمام الكاميرا، وكأنه
يكشف بدوره عن آلام مواطنه التائه في الغابات والأحراش، ولاتعوزه سوى
اللمسات الانسانية من لحم مارادونا نفسه. الابنتان اللتان أرادتا من «الأب
الدنيء» أن يعيش، وأن يتوقف عن تعاطي الكوكايين، هما من تؤرخان لدرجة التيه
التي يعاني منها النجم في عزلته ووحدته بعد اعتزاله وابقائه على سر
الموضوعات السياسية التي أخذ يشتغل بها وهو يدرب منتخب بلاده من دون نتائج
تذكر. وحدها الملكة (زوجته) من آمنت به بعد كل تلك المنعطفات التراجيدية في
حياته، وأزالت عن عينيه تلك الغشاوة الحمراء التي كادت تمهد الطريق لانهاء
حياته. فمع كل جرعة زائدة كانت تزداد الغشاوة، وكان هو يشعر أن الموت يقترب
منه. كان يحس بنفسه خرقة بالية، وإن كان قد قرر «من في الأعلى إن الوقت لم
يحن بعد، وقام بانتشالي من محنتي وأغلق الباب مؤقتا على الفكرة وأبقاني على
الأرض». الأرض التي تحولت يوم أصرت على البقاء مقيمة في محورها الخالد إلى
شغف كوني غريب وأسئلة حاضرة على الدوام عن جدوى مقاومة بلد عالم ثالثي غارق
بالديون حتى أذنيه لكل هذا التأرجح في السياسة والاقتصاد والرياضة .
كوستوريتسا لن يمنع نفسه من الذهاب مع النجم الأرجنتيني إلى بلغراد في
طائرة خاصة ليذكره بلعبة له في أحد ملاعب يوغوسلافيا السابقة، وإن لم يفهم
مارادونا، وهويجول في شوارع صربيا، كيف أمكن للناتو أن يقصف كل تلك المباني
وقد ظلت على حالها مدمرة. كان بوسعه أن يجيب على الفور، ومن تلقاء نفسه
ويحمل المسؤولية لخافيير سولانا الاشتراكي الاسباني اليائس. اشتراكية
سولانا لاتشبه بالطبع اشتراكية هوغو تشافيز عند مارادونا، اذ يمكن لهذا
الهندي الأحمر المنحدر من سلالات باتت الآن منقرضة أن ينفخ أمام الجماهير
ثلاث مرات إلى الأعلى، فيتوقف المطر، وإذا لم يتوقف في المرة الأولى، فعليه
أن ينفخ ثانية، وهنا سيصفق له مارادونا مثل الأطفال .
مواخير بوينس آيرس وحدها يمكنها في هذا التلاقح العجيب بين السياسة
والرياضة أن تجيب على الكثير من الأسئلة، ففيها ولد رقص التانغو عام 1883،
الرقص الذي يشبه ركض مارادونا في الملاعب. الرقص الذي «نحت» من آلام
العاهرات الوحيدات الحزينات، ووحده بورغيس يمكنه أن يقول إنه سواء ولد فيها
التانغو أو الفالس، فإن الرقص مهما كان شكله هو وحده الذي يمكنه أن يعين
العاهرات على تجاوز شقائهن وهن مصطفات إلى جانب بعضهن البعض ويقمن بملامسة
الأجساد في لحظات تفوير شهوانية. مراقصة كرة القدم مسألة لا تختلف كثيرا
على ما يبدو. الكرة عاهرة بطبعها، وهي تفعل كما تفعل المعجزات في أميركا
اللاتينية اذ يمكن لهدف بلمسة يد أن يتحول إلى شعار لمناكفة الأقوياء.
وحدها الأيدي الضعيفة يمكنها أن تلتصق بأوشام خضراء كثيرة، ووحده تشافيز
ينفخ نحو الأعلى ثلاث مرات بحضور ايفو موراليس وصور فيديل وتشي غيفارا
وسيمون بوليفار ليوقف المطر فلا أحد يحتاجه في الاستاديون اللاتيني الهائج
. أما الفلاحون المتحدرون من قبائل الهنود الحمر الجدد فهم يخططون للمزيد
من المعجزات، أو هكذا ظهرت صورهم على الأقل في فيلم كبير عن لاعب كبير.
المستقبل اللبنانية في
20/09/2009 |
