دورة جديدة لمهرجان
بيروتي لا يزال مرتبكاً، لعجزه عن التحوّل إلى مؤسّسة متكاملة، تنظّم حضوره
الثقافي
والفني بشكل سليم. دورة جديدة لمهرجان أُريد له أن يرتبط
بالمدينة، فإذا به يتّخذ
من المدينة اسمها فقط، محلّقاً في آفاق أخرى وجغرافيات لا تنتهي. فهو
مهرجان دولي
للسينما تارة أولى، وهو مهرجان دولي لأفلام شرق أوسطية تارة ثانية. جعل
مسابقته
الرسمية عربية ذات مرّة، مُدخِلاً فيها إيران؛ وفتح التنافس
على الجوائز المعنوية
أمام جنسيات دولية متفرّقة، مرّات أخرى. لا بأس بهذا كلّه. لكن السجال
النقدي لم
يؤدّ إلى نتائج تتيح للمهرجان أن يخطو خطوة واحدة، على الأقلّ، إلى الأمام.
والجدل
الذي أثارته مقالات نقدية خاصّة بدورات سابقة لم يحرّض إدارة المهرجان على
البحث
الجدّي في لُبّ المشكلة، بهدف حلّها وتحسين شروط النجاح لدورات
لاحقة. فإذا
بالارتباك سيّد المهرجان، وإذا بالأخطاء ـ التي يُمكن تداركها سريعاً لأنها
لا
تحتاج إلى ذكاء خارق لمنع وقوعها، بل إلى إحساس بسيط بالمسؤولية وحسن
الإدارة
والتنظيم ـ تبدأ قبل أربع وعشرين ساعة على افتتاح هذه الدورة،
التي أريد لها أن
تكون مميّزة بدعوة مخرج أميركي كبير، ظنّاً من إدارة المهرجان أن دعوة
كهذه، مهما
كانت مهمّة، تُغطي البهتان الحاصل في داخل النشاط الاستعراضي.
كوبولا
حتى
اللحظة الأخيرة، لم يُصدِّق بعض الزملاء النقّاد أن المخرج الأميركي فرنسيس
فورد
كوبولا سيلبّي دعوة إدارة «مهرجان بيروت السينمائي الدولي»
للمشاركة في افتتاح
الدورة التاسعة بفيلمه الأخير «تيترو»، على الرغم من الحشد الصحافي
والإعلامي
الكبير نسبياً في الطابق التاسع في فندق «ألبيرغو» في الأشرفية، الذي انتظر
وصول
«العرّاب»
للقائه إياهم في مؤتمر صحافي عُقد مساء الثلثاء. تأخّرت الطائرة التي
أقلّته من دمشق إلى بيروت (تردّد أن السلطات اللبنانية لم تسمح لطائرته
الخاصّة
بالهبوط في مطار العاصمة اللبنانية، لأسباب لم يذكرها أحدٌ من
مسؤولي المهرجان أو
مندوبيه الصحافيين)، ما أدّى إلى تأجيل موعد اللقاء تسعين دقيقة، انتهت
بدخول
كوبولا وزوجته إليانور ومديرة المهرجان البيروتي كوليت نوفل، التي لم
تتقيّد بأصول
الضيافة، المتمثّلة بتقديم المخرج بكلمة سريعة والاعتذار عن
التأخير وتوضيح
ملابساته، وبالجلوس إلى جانبه طوال فترة لقائه الزملاء، ولا بأس إذا أدارت
اللقاء
بينه وبين النقّاد القلائل والصحافيين والإعلاميين الكثر. فهي ارتأت البقاء
بعيداً
عن هذا الصخب كلّه، ولم تنتبه إلى أصول أخرى يُفترض بها أن تُمَارَس
احتراماً
للزملاء وللسينما وللمهرجان وللضيف. فالمكان المختار ضيّق
للغاية، وآلية تنظيم جلوس
النقّاد والزملاء غائبة تماماً، لأن العشوائية طغت، إلى درجة أن النقّاد
وجدوا
أنفسهم في صفوف خلفية، لأن مصوّرين وصحافيين غير معنيين بالسينما تمترسوا
في
المقاعد الأولى والثانية. تساءل البعض عن سبب عدم اختيار صالة
سينما «متروبوليس/
أمبير صوفيل» في الأشرفية لعقد المؤتمر الصحافي، وعن سبب عدم دعوة مخرجين
سينمائيين
ومثقفين لبنانيين معنيين بالفن السابع، للقاء المخرج الكبير. لم يحصل أحدٌ
على جواب
شاف. هذه تفاصيل صغيرة، لكنها تعكس المنطق السائد في إدارة
المهرجان، وهو منطق مبني
على العشوائية وعدم التخطيط السليم وغياب الرؤية الواضحة والادّعاء الفارغ
والهوس
القاتل بالاستعراض الإعلامي العابر. هذه تفاصيل صغيرة أكّدت، للمرّة الألف،
استحالة
قيام إدارة سوية، تصنع مهرجاناً لائقاً بالسينما أولاً وأساساً.
والمهرجان، إذ
يحتفل هذا العام بدورته التاسعة (علماً أن توقّفاً حدث ذات عام لأسباب غير
مفهومة)،
استعاد اسماً قديماً له هو «مهرجان بيروت السينمائي الدولي»
(يحلو لإدارة المهرجان
ترجمة الاسم الإنكليزي إلى «مهرجان بيروت الدولي للسينما»)، ومقدّماً
أفلاماً
متفرّقة الأشكال والمضامين. والحركة التي يُحدثها النشاط المذكور هذا، إذ
تقترب من
الاحتفال بالذكرى العاشرة للتأسيس، باتت إحدى المحطّات السينمائية
اللبنانية، التي
لم تستطع لغاية الآن الخروج من العاديّ (أو ما دونه) إلى تأكيد حضور ثقافي
وفني
متحرّر من سطوة المنطق السياحي/ الاستعراضي المغلّف بالسينما
وأفلامها ونجومها، إن
حضر هؤلاء. وإذا حصلت إدارة المهرجان على عناوين سينمائية مهمّة، بفضل
العلاقات
العامّة المنسوجة مع أكثر من طرف سينمائي هنا وهناك (وهذا أمر حسنٌ، بل
ضروريٌ
لإنجاح المهرجان لكنه غير كاف لوحده)، فإن الأفلام الجادة
وحدها لا تصنع مهرجاناً،
لا يزال محتاجاً إلى شروط عدّة كي يستحقّ اسم «مهرجان» وصفة «دولي».
وودستوك
على غرار الدورة السابقة، التي افتُتحت بفيلم بديع ومهمّ وساحر بعنوان «إل
ديفو» للإيطالي باولو سورّينتينو، الذي روى فصولاً من سيرة
رئيس الوزراء الإيطالي
السابق جوليو أندريوتي وعلاقاته المشبوهة بالمافيا وأساليب اشتغاله السياسي
والاجتماعي والاقتصادي والمالي؛ اختارت إدارة المهرجان البيروتي لافتتاح
دورة هذا
العام فيلماً جميلاً ومُربكاً، بالمعنى الجمالي والدرامي
والإنساني والفني، أنجزه
كوبولا بعنوان «تيترو»، الذي افتتح الدورة الواحدة والأربعين لتظاهرة «نصف
شهر
المخرجين»، في إطار الدورة الثانية والستين لمهرجان «كان» السينمائي في
أيار
الفائت. لكن الاختلاف بين الدورتين ظاهرٌ في «فيلم الختام»، إذ
عُرض الفيلم
اللبناني «ميلودراما حبيبي» لهاني طمبا في ختام الدورة السابقة، بينما
اختير الفيلم
الأخير للتايواني آنغ لي «اكتساح وودستوك» (المسابقة الرسمية في مهرجان
«كان» في
دورته الأخيرة) ليختتم الأيام السبعة الخاصّة بالدورة التاسعة
للمهرجان البيروتي في
الرابع عشر من الشهر الجاري. فالفيلم اللبناني، على الرغم من بساطته
الجمالية
وسلاسته البصرية واشتغاله الدرامي على العلاقة القائمة بين الآنيّ
والذاكرة، بعيداً
عن التصوير المباشر لهواجس الحرب ولذكريات الألم والتمزّق الفرديين؛ لم
يبلغ
المرتبة الإبداعية الجميلة لـ «اكتساح وودستوك»، المنفلش على
الذاكرة، والمنفتح على
إحدى اللحظات التاريخية التي شهدت تحوّلاً جذرياً في أنماط الثقافة
والأخلاق
والعلاقات الاجتماعية والانفعالية في أميركا الستينيات.
إذا شكّل «إل ديفو»
افتتاحاً لائقاً لمهرجان متخبّط بأزمات
عدّة؛ فإن «تيترو» استعاد تلك اللحظات
القليلة والجميلة. ذلك أن كوبولا، العائد إلى الاختبارات
السينمائية المغايرة
لحالات إنتاجية عادية مرّ بها، إثر وقوعه في كَمّ هائل من المشاكل المالية
والأزمات
النفسية، اختار أن يعيد صوغ ذكريات خاصّة بسيرته الذاتية، في قالب سينمائي
امتلك
شكلاً آسراً ومضموناً مُربكاً، لاحتوائه على جرعات متتالية من
الصدمات البصرية
والدرامية المحرّضة على إعمال العقل والاجتهاد في تفكيك البنى النصّية لفهم
سياقاتها المتداخلة بين الذاتيّ والعام، والمتشابكة حكاياتها بعضها بالبعض
الآخر.
في حين أن آنغ لي عاد، في «اكتساح وودستوك»، إلى العام 1969، باحثاً عن
جذور أحد
أبرز النشاطات الفنية في الولايات المتحدّة الأميركية، الذي أسّس منعطفاً
حقيقياً
في المسار التاريخي للمجتمع الأميركي، بعد اندلاع أحداث أيار
1968 في فرنسا،
والتحوّلات الاجتماعية والثقافية والإنسانية والحياتية التي زُرعت في قلوب
ملايين
البشر وعقولهم وانفعالاتهم. أراد أن يستكشف آلية التأسيس لهذا التحوّل،
عندما اختار
شخصية إليوت تيبر (ديمتري مارتن) ـ الشاب الأميركي اليهودي المتخصّص بهندسة
الديكور
الداخلي، والمقيم مع والديه، والمرتبك جرّاء عيشه لحظة تحوّل حياتي وإنساني
من دون
أن يتّخذ القرارات الملائمة لطموحاته وأحلامه ـ محوراً لفيلم مصنوع بتقنية
التوثيق
ومناخاته الفنية، ومغلّف بأسلوب روائي سردي لم يغرق في التسطيح، لأنه حافظ
على
المعطيات الواقعية لرسم ملامح مرحلة وتفاصيل ذاكرة لا تزالان
فاعلتين، إلى حدّ ما،
في الوجدان الجماعي للمجتمع الأميركي (والعالمي، وإن بدرجات متفاوتة). لهذا
كلّه،
يُمكن القول إن «اكتساح وودستوك» شهادة بصرية عن معنى المواجهة السلمية
لملايين
الشباب الأميركيين ضد الحرب والسياسة، والدفاع عن الحرية
والجنس والتحرّر المطلق من
قيود البيئة الغارقة في الدم والعنف والموت. غير أن آنغ لي لم يصوّر الحدث
نفسه، بل
حفر في التفاصيل المتفرّقة التي بدّلت وجه أميركا والتاريخ، في ظلّ حرب
فيتنام،
واحتدام النزاع القائم في منطقة الشرق الأوسط إثر هزيمة حرب الأيام الستة
(1967)
وارتفاع حدّة المواجهة الصامتة في حرب الاستنزاف بين إسرائيل ومصر،
بالتزامن مع
إحدى أهم الانجازات الأميركية: الصعود إلى القمر. فهذه كلّها مُقدَّمة في
المشاهد
الأولى من الفيلم، الذي يدخل سريعاً في الحياة المملّة في المدينة
الأميركية
«غرينويتش
فيلاج» القريبة من نيويورك، قبل أن تنقلب الأمور كلّها رأساً على عقب.
السفير اللبنانية في
08/10/2009 |