|
تابعت مسلسل أفراح إبليس بدقة شديدة، لعدة أسباب أولها أنه ومسلسل الرحايا
يمثلان ضلعي الدراما التليفزيونية التي تدور أحداثها في جنوب مصر هذا
العام، ثانيها أن كاتبه محمد صفاء عامر أصبح واحداً من أكثر كتاب الدراما
التليفزيونية في السنوات الأخيرة تناولاً لصعيد مصر وأهله، وله عدد من
الأعمال المهمة منها «ذئاب الجبل»، و «حلم الجنوبي» ، «الضوء الشارد»، و
«مسألة مبدأ» ، و«حدائق الشيطان»، ثم هذا المسلسل الجديد، حتي أن البعض بات
يعتبره متخصصا فيه، رغم ما قيل إنه من أبناء الدلتا أي بحراوي!، ومع ذلك
فهل كل من يكتب عن مكان أو منطقة لابد أن يكون منها، أي الصعيدي لا يكتب
سوي عن الصعيدي، وابن الحي الشعبي نفس الحال إلخ، والحقيقة أنه تفسير نقدي
خطأ، بمعني أن الكاتب ليس شرطاً أن يكون كذلك إنما يجب أن يكون عارفاً بمن
يكتب عنهم، تطبيقاً للمبدأ القائل «اكتب عما تعرف». < <
وعي بالتطرف
هنا يثبت محمد صفاء عامر أنه بكل المقاييس واع إلي حد كبير بهذا المجتمع
المتطرف في كثير من عاداته وتقاليده رغم أنه ليس بصعيدي لكنه يكتب مثلاً
عبر عمله بهذا الصعيد فترة طويلة، مهما يدعي البعض من أبناء الصعيد -من أنه
يكتب عن صعيد قديم من ثلاثين عاماً تغير الآن- بيد أنني رغم كل احترامي لهم
فهل لهم أن يفسروا مثلاً هذا التطرف البشع الذي أصبح سمة لخلافات تكاد تكون
يومية بين أبناء هذا الصعيد الواحد من مسلمين ومسيحيين وتحولت بعضها الآن
لعلاقات ثأرية طبق الأصل للنزاعات الثأرية القديمة التي كانت سائدة بينهم
وكانت قائمة علي صراعات عائلاته واثبات قوتها وهيمنة بعضها علي الآخر،
وأذكر بعضهم بكتاب الراحل أديبنا الكبير يحيي حقي «خليها علي الله » الذي
يرصد فيه ذكرياته عن الفترة التي عمل بها في هذا الصعيد في العشرينيات من
القرن الماضي وقدم لنا صورة شديدة الدقة عن العوامل التي تعصف بهذا الصعيد
تاريخياً، وعلي رأسها التزمت والجو المحافظ في علاقة الرجل بالمرأة، وتكاد
تكون صورة طبق الأصل مما يحدث اليوم، فقط ألبست الآن غطاء دينياً تسلل
إليها عبر متغيرات السبعينيات التي هبت فيها رياح هذا التطرف الديني علي
مصر كلها، حيث وجد تربة صالحة بعد امتزاجه بما هو متأصل فيهم للتشابه
الشديد فيما يدعوان إليه، وبالذات العلاقة بين الرجل والمرأة، بمعني آخر
أصبح الدين بمثابة غطاء شرعي لما هو قائم تاريخياً بين الرجل والمرأة في
هذا الصعيد، أي بين ما يمكن تسميته بالإسلام البدوي الذي وفد إلينا من
البيئات الصحراوية المجاورة المنغلقة علي نفسها، وهذا النوع من الريف الشبه
المنغلق علي نفسه بعيداً عن أي محاولة لتحديثه، والذي نوه عنه يحيي حقي
وأكد في كل صفحة في كتابه كيف يمسك بخناقة، مضافاً إليه تحليل العوامل
والأسباب الأخري وعلي رأسها الفقر المدقع الذي يعيش فيه أغلب الصعايدة
بينما العائلات الغنية والسلطة والدولة التي تحكمه هي نفسها الآن، بمعني
مجرد تكرار لما يحدث الآن، أسوق تلك المقدمة لتأكيد أن محمد صفاء عامر في
هذا المسلسل تحديداً، قدم صورة أصدق ما تكون عن هذا الريف الجنوبي المصري،
كما رصده يحيي حقي قبله، فقط عيبه وسقطته فيه نزع هذا الغطاء الديني عنه
الذي أمسك بخناقة، فبان وكأننا أمام صعيد يحيي حقي، لا صعيد اليوم، ومن ثم
فنقدي له ليس كما نقده صعايدتنا الأجلاء أن الصعيد الذي قدمه لم يعد
موجوداً وإنما هو صعيد منزوع عنه التطرف الديني وفقره المستمر، تماماً مثل
اللبن حين ينزع عنه قشدته، لكن بالرغم من ذلك هل هذا اللبن المنزوع عنه
دسمه ليس فيه ما يستحق، بالطبع لا فقد قدم لنا ميلو دراما حراقة عن هذا
الصعيد بمفرداته المخيفة التي تحكمه وعلي رأسها العائلات والعزوة التي تجعل
من رأس كل عائلة ما يكاد يجعله زعيم قبيلة تتحكم في القرية أو المركز الذي
يعيشون فيه، وهنا هما عائلتان الأقوي فيهما هو رجل يدعي «همام أبو رسلان»
(جمال سليمان) وعائلته، في مقابل عائلة الحاج زهران (محمد ريحان) الطيب
وأخيه الذي لا يفرق في شره عن همام (محمود مسعود)، وهما العائلتان اللتان
تتانطحان في فرض نفوذهما علي المنطقة، بيد أن همام يظل الأخطر بقدرته علي
ربط سيطرته بالقوي الكبري منه وهي هنا هي السطات التنفيذية من العمدة حتي
الأجهزة الأمنية بتدرجها، ثم الأخطر السلطة السياسية الممثلة في السلطة
النيابية التي تنوب عن المحافظة في البرلمان، هو القادر علي التحكم في
مجريات الأمور علي الكل، والذين يحسبون له ألف حساب، لكن الدراما هنا تتخذ
منحي ثانياً هو في الحقيقة صلب العمل، ألا وهو كيف تنعكس الظروف العائلية
لهذا الرجل بكل تناقضاتها علي كل سلوكياته بين أسرته ثم في الدوائر الوسعي
التي يصطدم بها، أي كيف يتحرك بين الخاص والعام؟، وكيف يفسر ويقيم كل ما
يحدث له، وبحيث يخضعه لعقليته وطريقة تفكيره؟ إننا أمام نموذج فريد ربما لم
نقابله من قبل في دراما من هذا النوع وأظهر مثل علي ذلك كيف يحلل الحرام
بمفهوم هذا المجتمع، حينما يفرض علي ابنه الأصغر الزواج بابنة مرشح الدائرة
القادم من القاهرة الذي يحميه لينجح، وهي فتاة متحررة وتقاليدها تختلف
جذرياً عن تقاليد هذا العالم الذي يعيش فيه، أي أنه ببساطة يحلل الزواج من
هذه الفتاة لمجرد أنها ابنة قيادة سياسية كبيرة، علي حساب رفض حب هذا الابن
مطربة حاول الكاتب تقديمها في أجمل وأنبل صورة ممكنة فهي خريجة كونسيرفتوار
وليس مطربة كباريهات، أو كيف من أجل ستر فضيحة ابنه الكبير (ويعمل محامياً
في قنا) المتزوج أصلاً من ابنة خاله في قريتهم ومنجب منها وتعيش في بيتهم،
والذي يتزوج بعقد عرفي من فتاة اسكندرية ويستأجر لها شقة كبيرة، وحملت منه،
ولما تكشفت له الحقيقة، لبس ثوب العادل وعاقب الابن باحتضان الطفل
والاعتراف به بل الانفاق عليه، وهو في ذلك مدفوع لأن يحاول حماية الابن
الذي يعتبره وريثه فهو صورة طبق الأصل من شره الذي لا يتورع عن قتل أي
مخلوق في سبيل مصلحة عائلته، أما الطامة الكبري فهو حينما يحلل لنفسه، حب
فتاة من عمر ابنته دهب (أيتن عامر)، جاءت تعيش في حماية زوجته (عبلة كامل)
بعدما لم يعد لها من يأويها بوفاة ذويها وضعفه مع أول غواية من الفتاة التي
ظهر أنها لعوب، ففجرت مشاعر الغيرة لدي الزوجة فطردتها، فظل يبحث عنها حتي
وجدها في الإسكندرية.
شخصية تستحق التحليل
ولم يتردد في قتل الإنسان الذي أحبها وتزوجت منه في ليلة دخلتهما وأظن أن
مثل هذه الشخصية والتي شرحها الكاتب تستحق فعلاً التحليل، وحيث أكد بما لا
يدع مجالاً للشك أنه يحمل قمة المرارة نحو هؤلاء البشر ذوي الأدمغة
المأفونة، الذين تحركهم عوامل الثروة والغطرسة والاستحواذ والتملك، وأبلغ
مثل علاقته بزوجته التي يعاملها بكل وحشية لمجرد ثورتها لكرامتها بعد
معرفتها بخيانته، وهي ابنة العم التي أحبها وعاشت معه تبارك كل تصرفاته
الإجرامية، هؤلاء الذين يكادون يكونون يعيشون في القرن التاسع عشر لا القرن
العشرين أو الواحد والعشرين!، بالطبع هناك خطوط أخري هدف منها الكاتب
الوصول لحل للقضاء علي هذا الطاغية عبر قصة زواج ابنته (ريهام عبدالغفور)
من ابن العائلة «زين» (أحمد صفوت) المناوئة لها والتي جاءت كأجمل قصة حب
رومانسية في العمل وحيث ما يلبث همام أن يقوم بقتل عميد تلك العائلة (زهران)،
والد زوج الابنة، حتي لا يستمر مرشحاً في انتخابات مجلس الشعب عن الدائرة،
لحساب السياسي القاهري «عزيز الشهابي» (مصطفي حشيش) الذي وعده في النجاح
فيها بالتزكية فتشتعل نار الثأر بين العائلتين وبالذات أخ القتيل الذي يظل
يتحين الفرص، حتي ينجح في اصطياد ابنه الكبير المحامي وهو قادم لزيارة
عائلته برفقة زوجته الثانية وطفله الجديد منها، وابيها وأمها، حيث يطلق
النار وأعوانه علي سيارته فيقتل حمياه والزوجة ويأخذ طفلة الرضيع الذي أفلت
من الموت.
فاجعة كبري
وتكون الفاجعة حينما يموت الابن الكبير «كمال» (أحمد سعيد عبدالغني). في
المستشفي لنري في النهاية هذا الهمام وقد أصابه الشلل حيث لا يتحمل فقده،
بينما ينزل (تتر) النهاية موضحاً أن هناك جزءاً آخر من المسلسل، وهنا نصاب
نحن بفاجعة أخري، لا لأنه سيكون هناك جزء ثان لكن استخفاف الكاتب بقواعد
الدراما كعادته ناسياً أهم قاعدة وهي الحتمية التي توصلنا لما يسمي
الاستكشاف ثم الانقلاب، بمعني أن البطل المحوري يكتشف ونكتشف معه حجم
المصيبة التي وضع نفسه فيها، ومن ثم يحدث الانقلاب أي انقلاب الوضع عليه
فإذا ما كان شريراً مثل بطلنا هنا فمصيره إما الموت وإما الإعدام وإما
السجن نتيجة انكشاف جرائمه، لذلك يحدث لنا كمشاهدين ما يسمي التطهير، أو
الراحة الحقيقية لأن المجرم دفع الثمن، أما حينما يتلاعب بقواعد الدراما أي
بوضع نهاية غير ذلك مثل إصابة البطل همام بالمرض العضال فهو ضعف من الكاتب،
حينما تعييه الحيلة في وضع نهاية تتسق مع كل ما بناه وكل قواعد الدراما
«اللي عرفناها» حيث يفعل هنا ما فعل في مسلسله الأسبق حدائق الشيطان «حيث
يمرض المجرم وينهار» بينما هنا يصاب بالشلل وكأنه يقول لنا «اصبر علي جار
السو يا يرحل يا تيجي له داهية وتشيله» وهكذا يصبح محمد صفاء عامر «صاحب
نظرية جديدة في الدراما فالمجرم عنده عقابه» بإذن الله هو المرض ولذلك لا
تيأسوا من رحمة الله؟! فهو القادر علي العقاب، والسؤال هو طيب ماذا لو هذا
الوحش لم يصب بما أصيب به، هل نظل ننتظر رحمة الله.
علي أي حال أنت في هذا المسلسل لا تستطيع تجاهل كل ما سبق من قيم طرحها،
ولا مستويات التمثيل ولا أستطيع أن أعدد أسماءهم جميعاً فالكل أجاد في
دوره، أما مخرجه سامي محمد علي فقد نجح في تشويقنا لمتابعة حلقاته، لكنه
فشل في تقديم صعيد حقيقي نعرفه جميعاً وبالمقابل رأينا صعيداً تليفزيونياً
أصابنا بالغيظ من ديكوراته وملابسه ومكياج ممثليه وكونه لم يرنا من هذا
المجتمع إلا كباراته فقط.. أما الشعب فهو في إجازة.
الأهالي المصرية في
12/10/2009 |
