فيلم المخرج الجزائري – الفرنسي "رشيد بو شارب" الجديد "لندن ريفر" (نهر
لندن) الذي يعرض ابتداء من هذا الأسبوع في قاعات السينما الفرنسية يشكل
رسالة في شكل نداء إلى عالم "بلا أحقاد ولا آراء مسبقة". أما رسالة الفيلم
الثانية فهي أن الناس متساوون في إحساسهم بوقع الفاجعة والأحزان بالرغم من
اختلاف أديانهم وأعراقهم.
في الفيلم تلتقي الثقافات الإنجليزية الكاثوليكية بالفرانكفونية بالإسلامية
الإفريقية والعربية في مدينة تعيش حالة استثنائية هي أشبه بحالة حرب.. حالة
استنفار قصوى.
طالع
أيضا:
فيلم
"البلديون": المسلمون حرروا
فرنسا!
فبعد فيلمه "أنديجان" (السكان الأصليون) 2006 والذي عالج فيه المخرج بو
شارب مشاركة الأفارقة في تحرير فرنسا إلى جانب قوات الحلفاء، ينقلنا عبر
فيلمه الجديد "لندن ريفر" 2009 إلى تعقيدات الحاضر وإلى علاقة أوروبا
بمهاجريها ومواطنيها الجدد العرب–المسلمين.
جين.. وعلي
الزمن هو 7 يوليو 2005 في لندن حينما كانت العاصمة البريطانية تحت صدمة
التفجيرات الإرهابية التي أدت إلى مقتل حوالي 57 قتيلا ومئات الجرحى،
يومها توقفت "إليزابيث" (الممثلة البريطانية بلندا بلتين) عن عملها في
مزرعتها بجزيرة "قرنيس" البريطانية وهي مصدومة وهي تشاهد عبر الشاشة سيارات
الإسعاف والجرحى والقتلى ورجال الشرطة يحيطون بمحطات مترو الأنفاق.
توقفت إليزابيث عن عملها لتهاتف "جين" ابنتها المقيمة والتي تدرس في لندن،
غير أن إليزابيث لم تتمكن من الحصول على ابنتها عبر الهاتف، وتركت لها أكثر
من رسالة صوتية ترجوها مكالمتها على وجه السرعة لأنها قلقة جدا.
انتهى الأمر بإليزابيث بأن تركت عملها في المزرعة لترحل إلى لندن بحثا عن
ابنتها "جين"، على الطرف الآخر من نهر المونش (فرنسا) ينقلنا المخرج رشيد
بو شارب ليلقي الضوء على شخصية "عثمان" (الممثل المالي ستوقي كيوتي) الذي
يعمل بدوره كحارس في إحدى الغابات ليعتزم فجأة السفر للندن على وجه السرعة
من أجل البحث عن ابنه "علي" الذي لم يتصل بوالدته منذ التفجيرات التي هزت
العاصمة البريطانية لندن.
تنزل "إليزابيث" من سيارة الأجرة في شارع "بلاكستوك" في العاصمة البريطانية
لندن، حيث صورت معظم أجزاء الفيلم، وتحمل عنوان ابنتها في يدها وتقف برهة
أمام "مجزرة البركة" للحم الحلال غير مستوعبة أن ابنتها تسكن في مثل هذا
الحي.. يخرج صاحب المجزرة العربي المسلم ويسألها عن حاجتها "تجيبه بأن
ابنتها تسكن في هذا العنوان"، فيقول لها بأنه "مالك العمارة الجديد"، وأن
"جين" ابنتها بالفعل كانت تسكن في شقة هنا في الطابق الثاني من العمارة
نفسها ولكنها اختفت منذ يوم التفجيرات.
وجه جديد لبريطانيا
لا شك أن "مشهد الجزار المسلم" وهو يخرج من محله في "شارع بلاكستوك" يتعلق
برسالة ضمنية من المخرج إلى "إليزابيث" وإلى المشاهدين من الأجيال الآباء
والعقود الماضية بأن صورة لندن وعبرها صورة بريطانيا الحديثة لم تعد كما
كانت في السابق، فهناك واقع جديد قوامه "بريطانيا متعددة الأعراق"، وهو
واقع ستكتشفه "إليزابيث" في رحلتها الطويلة والشاقة؛ بحثا عن ابنتها بين
إعلانات المفقودين الملصقة على الجدران وغرف الموتى المثلجة في مستشفيات
لندن.
عبر مسارات الفيلم ستقتنع "إليزابيث" أنها "إزاء وجه جديد لبريطانيا" وخاصة
حينما تكتشف أن ابنتها "جين" تتعلم العربية، ومن المرجح أن تكون قد اعتنقت
الإسلام، وأنها تسكن مع شاب مسلم أسود في شقتها يدعى "علي" هو ذاته ابن
عثمان الذي جاء يبحث عن ابنه من فرنسا.
يصور المخرج رشيد بو شارب لقاء "إليزابيث" بـ"عثمان" الباحثين كليهما عن
ابنيهما بشكل يكشف فيه عن ثقافتين وحضارتين لا تباعد بينها الجغرافيا
والعادات والتقاليد فحسب، بل الجهل المتبادل والآراء المسبقة والعنصرية لا
ضد السود فحسب من قبل البيض، ولكن ضد عثمان بوصفه ينتمي كذلك إلى ديانة
(الإسلام) عرفت بكونها ديانة دماء وإرهاب لدى الجمهور الغربي عموما.
تقف إليزابيث البيضاء في بداية الفيلم أمام عثمان الرجل الطويل القامة
النحيف الأسود ذي الشعر الطويل فيمد لها يده ليسلم عليها، ولكنها تكتفي
بالسلام عليه بتحية شفاهية مفضلة التحدث معه عن بعد دون ملامسته أو حتى
الاقتراب منه.
لمخاطبة عثمان تتكلم إليزابيث اللغة الفرنسية بلكنة إنجليزية، بينما هو
يحادثها بلغة فرنسية ذات لكنة إفريقية، فيما نسمع من حين لآخر لغة عربية
يتبادلها سكان "شارع بلاكستوك" فيما تسود الإنجليزية أغلب مقاطع الفيلم..
من هذه الوجهة بالذات يبدو الفيلم عبارة عن بانوراما لغوية عالمية في مدينة
-هي لندن- تعيش تحت وقع التفجيرات والخوف والرعب من تكرر الأعمال
الإرهابية.
رحلة البحث عن "جين" بالنسبة لإليزابيث و"علي" بالنسبة "لعثمان" ستمكنهما
من الالتقاء في أكثر من مكان.. في المستشفيات وفي غرف الموتى وفي مراكز
الشرطة وفي مدرسة اللغة العربية حيث كان كل من "جين" و"علي" يتابعان دروس
اللغة العربية.
لا جنسية للحزن
يمكننا المخرج "رشيد بو شارب" من خلال هذه اللقاءات من معنى مهم في الفيلم،
وهو المعنى الذي ستفهمه إليزابيث فيما بعد؛ أن الأحزان والشجن لا جنسية
لهما ولا دين لهما، فلا فرق بين حزن كاثوليكية قادمة من أعماق بريطانيا
ولهفتها على لقاء ابنتها، وبين حزن مسلم أسود أصوله تعود إلى مالي
الإفريقية.
ينتهي المطاف بإليزابيث في ثنايا الفيلم بتغيير نظرتها إلى عثمان، والعكس
حيث تتغير نظرة عثمان لإليزابيث، وبعد أن تجنبت حتى مد يدها للسلام عليه في
بداية الفيلم تعرض عليه تناول الطعام معها وتمكنه من مرقد في شقة ابنتها
التي كانت شقة ابنه أيضا ويواصلان رحلتهما؛ رحلة البحث عن "جين" و"علي".
يتعبان من البحث فيجلسان جنبا إلى جنب في إحدى حدائق لندن ويتبادلان
الابتسامات والضحك في غمرة الأحزان والكمد ويأكلان تفاحة سويا.. تفاحة
تذكرنا بتفاحة آدم في الجنة والمصير المشترك بين الإنسانية جمعاء.
في فيلم "لندن ريفر" لا تهدأ كاميرا "بو شارب" في تذكيرنا بأهمية الاختلاف
والتنوع الثقافي الذي لا يجب أن يكون عائقا للتواصل والحوار والعيش المشترك
في رحلة فيلم أحد أهدافه هو البحث عما يجمعنا مع الآخر بالرغم من الأجواء
التي عمت العاصمة البريطانية لندن في ذلك الوقت.. أجواء الإرهاب
والإسلاموفوبيا والجهل والارتياب المتبادلين.
مراسل شبكة "إسلام اون لاين" في فرنسا.
إسلام أنلاين في
13/10/2009 |