تعثرت في 'زمن العار' بمحض الصدفة في الأيام الأولى لرمضان
الكريم بينما كنت اتنقل بين القنوات على طريقة القفزات
القنفذية: واحدة للإمام
واثنتان للخلف، مسلحا بريموت كونترول عابر للمسلسلات لا يتوقف عند أي منها
إلا
بالقدر الذي يكشف لعيني المدربتين بحكم طول السهر والحملقة والتدقيق على
فرز الغث
من الثمين. أدركت على نحو مبهم ان 'زمن العار' عمل درامي
مختلف، ويكفي الناقد ان
يدرك ذلك إذا تمكن العمل من تعطيل حواسه النقدية لبعض الوقت (ما يصطلح على
تسميته
بـ' تعليق الشك Suspension of disbelief')
وجذبه في غفلة منه للاستغراق في احداث
العمل والتوحد بشخوصه ولو إلى حين. تلك كانت الاستجابة الأولية شبه
الغريزية التي
شدتني الى 'زمن العار' فرحت انتظره كل يوم وكل ليلة بشغف وترقب، لأشاهد
حلقاته
كاملة ومنقوصة اكثر من مرة في الليلة الواحدة في جولاتي
القنفذية بين المسلسلات،
مستمتعا ومنتشيا بكل لحظة ومشهد وشخصية ونتفة حدث، وتشعب الخطوط الدرامية،
وافتراقها والتقاءها، وتقلباتها وتعرجاتها، فلم يتسرب الملل الي ولو مرة
واحدة في
أية حلقة من حلقاته، وهذا لو تعلمون اجتراح يندر تحققه في صنعة
الدراما
التليفزيونية. ولا أبالغ إذا قلت إن 'زمن العار' هو المسلسل الذي اكتسح كل
المسلسلات عن جدارة كتابة وإخراجا وتمثيلا وتصويرا. والله على
ما أقول شهيد. علما
أن هذه هي المرة الأولى التي اشاهد فيها مسلسلا سوريا كاملا واجتهد لمعرفة
اسماء
الممثلين والممثلات، والعديد منهم وجوههم مألوفة لي دون أسمائهم.
أعترف أن أول
ما جذبني الى المسلسل في حلقاته الأولى كانت تلك العلاقة الآخذة في التبرعم
في
ثنايا الأحداث بين 'جميل وبثينة' (وياله من اختيار ذكي للأسماء
يستدعي من الذاكرة
واحدة من أشهر قصص الحب العارمة في التراث العربي)، وأنا في الأصل من
المعجبين
بالممثل النجم (حقا لا ادعاء كعشرات مدعي النجومية) تيم حسن منذ تألقه في
دورالملك
فاروق (رغم تحفظاتي الكثيرة على رؤية المسلسل الملفقة للتاريخ
والملك والملكية
وعصرما قبل الثورة برمته)، ولم أكن شاهدت الممثلة سلافة معمار من قبل بل
واستغرقني
الأمر بضعة ايام حتى توصلت الى اسمها بفضل الجهود الحثيثة لصديق سوري عزيز
لم يكن
يمر يوم دون ان نلتهم سويا نفس الطبق اليومي الشهي من الحديث
عن المسلسل. هنا يقدم '
تيم' دورا جديدا ومختلفا عن أدواره السابقة (على الأقل تلك التي شاهدتها له)،
سائق التاكسي، ابن البلد، ابن السوق، الزوج المخادع الكذوب، العاشق الباحث
عن علاقة
يهرب بها من عش الزوجية الذي حولته الزوجة جحيما بتسلطها الدائم وملاحقاتها
وتحقيقاتها المباحثية التي لا تنتهي. لكن لنتوقف أولا عند
أعجوبة المسلسل صاحبة
الموهبة الفذة.
سلافة معمار: درة مكنونة.. وجوهرة مصونة
خلع
الألقاب على الممثلين والممثلات تقليد قديم في الدراما المصرية، وقد زاد
واستفحل
واستهلك حتى فقد اي معنى في العقود الأخيرة. ومن بين هذه
الألقاب لقب 'فنان قدير'،
ومعروف لكل من له صلة بالوسط الفني المصري أن اللقب بات نوعا
من 'جبر الخواطر' يمنح
للممثلين حين يبلغون من العمر عتيا، حتى لو كان الممثل المسن قد قضى جل
عمره الفني
في أدوار الكومبارس، وهو بالمناسبة في اضابير التليفزيون المصري له فئة
مالية
تعادله (أي ان صاحبه يتقاضى اجره عن الحلقة من فئة ' فنان
قدير'). وأوكد لكم ان
الغالبية العظمى من حاملي وحاملات اللقب لا علاقة لهم ولهن بالجدارة الفنية
في أى
من صورها. أردت بهذه المقدمة ان أبعد شبهة الابتذال عن نيتي المبيتة مع سبق
الاصرار
والترصد في خلع لقب فنانة قديرة على سلافة معمار. بالنسبة لي هى اكتشاف:
درة مكنونة
وجوهرة مصونة كما يقول العنوان أعلاه. ولا يخالجني أدنى شك في ان 'زمن
العار' لو
كان قد قدر له ان يكون فيلما - او حتى كمسلسل - وشارك في أية
مسابقة عالمية لنالت
سلافة معمار أوسكار أفضل ممثلة بلا منازع، بصرف النظر عمن سيكون امامها في
المنافسة. تابعت من الحلقة الأولى كيف نمت الشخصية عليها، كيف تقمصتها هي
وكيف
تلبستها الشخصية، وهذا مرة أخرى أمر جد عسير في التمثيل
التليفزيوني. اقول نمت لأن
أداء الممثلين والممثلات للشخصيات الدرامية في بلادنا عموما- مع استثناءات
قليلة-
لا ينمو، بل تظل الشخصية هي هي من الحلقة
الأولى للأخيرة، مهما كانت المساحة
الزمنية التي يفترشها المسلسل وأحداثه. فهم وهن يدركون ويدركن الشخصية
الدرامية على
نحو كلي يكون فكرة عامة عن الشخصية، مبهمة قد لا تهتم بالتفاصيل ولا تراقب
تطورها،
وغالبا ما تكون متأثرة بتنميطات جاهزة ومسبقة، وغالبا أيضا ما
يكون هو متأثرا في
تصوره لها بممثلين آخرين أدوها على هذا النحو أو ذاك. ولكن فلندع التنظير
جانبا
ونعود الى هذه البثينة السلافية الأعجوبة (وقد قرأت أنها ممثلة مسرحية ذات
باع ولعل
هذا يفسر سر سيطرتها على أدواتها التعبيرية وقبضها على ادق
تفاصيل المشاعر والخلجات
وظلالها). تطورت 'بثينة' من الأخت مهيضة الجناح، التي ' انتخبتها'- بالمعنى
المجازي
للكلمة، العائلة بنوع من التآمر غير المعلن، اللاشعوري، ضحية أبدية
للعائلة. في
واحدة من المشاهد الأولى تبدي 'بثينة' تبرمها من طلب اخيها
'نورس' ان تعد له الطعام
فور دخوله، فيدهش هو لهذا التبرم 'غير المتوقع' وغير المبرر من وجهة نظره،
ويسأل
اخته ' شو بها' فتجيبه على نحو عابر لعلها متعبة من كثرة شغل البيت،
فيتساءل عن
الجديد في ذلك، فهذا ما تفعله دائما. هذا ببساطة الأمر الواقع
الذي بات حقيقة لا
حاجة لمناقشتها وليس هناك ما يدعو لتغييره، فلسان حال الأخ يقول هذا هو
دورها هكذا
كان وهكذا سيظل. هذه الوضعية المزرية تتبلور على نحو اكثر درامية حين تتمرد
'بثينة'
على الدور المرسوم لها عائليا، فيستمطر
الجميع خاصة الرجال الفحول اللعنات عليها.
في الحلقات الأولى والتي كانت مساحة حضور 'بثينة' فيها كبيرة، كانت اقرب
شيء الى
خادمة الأسرة، وأحسب أن أحدا لو شاهد حلقة من المسلسل لأول مرة لظنها
بالفعل خادمة
وليست واحدة من العائلة، بمظهرها غير المهندم، أو المشعث او
حتى الرث، خاصة مقارنة
بأختها وزوجة أخيها منذر، بخطاها المهرولة من المطبخ بين طهي الطعام
واعداده وغسل
الصحون، ثم هرولتها الى غرفة امها قعيدة الفراش (الشخصية الوحيدة في
العائلة التي
تدرك الظلم الفادح الذي الم بابنتها وكيف سيكون رحيلها
المأساوي الضربة القاصمة
التي ستهز كيان الابنة كزلزال). في نفس تلك المرحلة الأولى تجلت 'بثينة'
أيضا
بوصفها العانس التي فاتها قطار الزواج، وفي حوار آسر بين الابنة وأمها تنطق
'بثينة'
بالكلمة المرعبة مطأطأة الرأس في خفر محبب
يزيد المشاهد تعاطفا معها، وعلى نحو
مسترسل كما لو أنها قد استسلمت بالفعل 'لنصيبها' فتحاول الأم جاهدة طرد شبح
الفكرة
من رأسها دون جدوى. في ظرف بضع حلقات ستتطور 'بثينة' من دور الضحية الأبدية/
العانس؟ المتفانية في خدمة اسرتها، الساهرة أبدا على رعاية امها المريضة،
الى
العاشقة ربما لأول مرة في حياتها، والأهم من ذلك، المعشوقة، بالتأكيد لأول
مرة في
حياتها. هناك رجل متيم بها، ويطاردها، ويغازلها، بل ويفاتحها
بحبه. مع هذا التطور
بدأت 'بثينة' تتفتح تدريجيا كأنثى لأول مرة في المسلسل، لتكشف عن جاذبية
ودلال
ورقة، تتبلور جميعها من خلال الصورة النقيض تماما لها في الحلقات السابقة.
وكأنما
الحب لا يأتي إلا كالقدر الذي لا راد له، محمولا على محفة
المعاناة والصراع المضني
الذي يكتنفها ويكويها، فمن بين كل الرجال لم يعشقها سوى 'جميل'، زوج
صديقتها
الوحيدة 'صباح'، فأي قدر غاشم هذا الذي منحها الحب لأول مرة في حياتها
كثمرة محرمة،
كعلاقة مستحيلة لا مستقبل لها، كحب مجهض قبل ان يولد، وكيف
يمكن لها ان تبني
سعادتها على انقاض عش صديقتها الوحيدة. سنرى هذا الصراع يضطرم في جنباتها
في
المشاهد التي تجمع بينها وبين 'صباح' وهى تنصت لكلامها عن زوجها، بمزيج من
مشاعر
شغف العاشقة الكتوم والصديقة التي يقرعها ضميرها.
لن تدوم سعادة 'بثينة' طويلا
بعد ان تذق طعم فاكهة الحب المحرمة، وستنكص من جديد الى دور الضحية الأبدي
الذي
أدمنته، حين يتنكر العاشق المخاتل الرعديد في خسة ونذالة سيتجرعها ندما
لاحقا، لها
ولجنين الخطيئة في أحشائها، فتنزل كلماته عليها كالصاعقة حين يسألها بوقاحة
ووضاعة
ما إذا كانت متأكدة أن حملها منه. وتوشك في هذه اللحظات المظلمة ان تصل
بدور الضحية
الى منتهاه الأقصى، حين تقدم على الانتحار وتنقذ في اللحظة
الأخيرة. ستترفع 'سلاف'
الى ذرى أخرى في أدائها كما في مشهد اكتشافها لموت امها وحزنها الفاجع
وانهيارها ثم
نقلها في عربة الاسعاف، وحتى في لحظة نقلها على سرير الاسعاف لا تغفل
'بثينة'
-
والمخرجة بالتأكيد - ان تصوب نظرات اتهام حارقة الى ابيها وقد أدركت
ان يد الأب لا
بد ملوثة بدماء الأم. ولا حصر لتلك المشاهد التي تستحوذ فيها على الكاميرا
بخلجات
وجهها، والحركات الملازمة كالتواءة شفتيها التي باتت علامة مسجلة على
الشخصية.
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى...
عودة الى 'جميل' نرى كيف تطورت
شخصيته هو الآخر وعلى نحو جيد الحبك ساهم في شحن العلاقة المحورية في
المسلسل،
محورية بكونها تجسد لب مفهوم 'العار' الذي يسعى كاتبا المسلسل ببراعة وحذق
لتفكيكه،
وتحليله، وخلخلة التناقضات الثاوية في تضاعيفه، بغية نفض تلك
الخزعبلات المعششة في
العقلية الذكورية التي تجعل من مفهوم شرف الرجل لا يوجد إلا خارجه، في جسد
المرأة،
وتحديدا عند غشاء بكارتها، وما عدا ذلك من موبقات وجرائم وانحلال وفساد
وشتى انواع
الرذائل لا يمس الشرف من بعيد او قريب. بدوره يجسد العاشق 'جميل' جانبا
انانيا آخر
من شخصية الرجل الشرقي، ولن يعدم تعاطفا كبيرا من قبيلة
الرجال. فهو يبحث عن ملاذ
يهجع اليه بعيدا من زوجته المتسلطة، التي لا تضيع فرصة في تذكيره بأفضال
أهلها
عليه، والشقة التي يستأجرونها من أبيها تاجر العقارات نظير اجر زهيد. يشعر
جميل أن
رجولته منقوصة في كنف هذه الزوجة، ويتوق الى إمرأة يمارس عليها تلك الرجولة
ويجدها
في 'بثينة' المنكسرة، الخجول، الوحيدة، التواقة بدورها الى رجل
'تستظل' به قبل ان
يفوتها قطار العمر. لكن 'جميل' الذي اعتاد الجبن في علاقته بزوجته، يرتد
الى ذاته
الخسيسة حين يتنكر لبثينة، في اللحظة التي يدرك فيها ان العلاقة لم تعد
مجانية، وأن
لها تبعات لن يكون بوسعه تحملها دون ثمن باهظ فيهرب كأي نذل 'أصيل'، و
تنهار كل
ادعاءاته في الرجولة امام اول امتحان لتحمل المسؤولية. ولسوف
يدفع ثمنا لذلك لاحقا،
بفقدان بثينة حين يدرك بعد فوات الأوان أنه يحبها فعلا، أو هكذا خيل له،
كما يحاول 'سامر' اخو زوجته ان ينبهه الى تشوش مشاعره
واضطرابه بين مشاعر الذنب التي تنتابه
تجاهها وما يخاله حبا حقيقيا. هذا الخليط المضطرب من مشاعر
الذنب والحب او العطف
يقف وراء تمرده في الأصل على 'بيت الطاعة' الزوجية الذي اقامته له ' صباح'
ولن يمضي
وقت طويل قبل ان تدرك هي الأخرى أن عنادها ونزعتها المتسلطة والمتملكة توشك
ان
تفقدها كل شيء، إذا لم تنح جانبا رغبتها في الانتقام بإذلال
زوجها كما ينصحها
اخوها. هذه الـ ' صباح' نفسها لا ترى شيئا مشينا بالمرة في التآمر او على
الأقل
التواطؤ مع خالتها 'سهيلة' في مخططها للايقاع بوالد بثينة 'ابي منذر' في فخ
الزوجية
لتفوز منه بغنيمة في شكل شقة تمليك. وحتى بعد ان تكتشف 'صباح ' خيانة زوجها
لها لا
تتراجع عن تواطئها هذا، بل ان سهيلة تستمهلها لتؤجل انتقامها
من 'بثينة' حتى لا
تفسد مخططها للإيقاع بطاغية الأسرة المتصابي الذي أعماه شبقه المشبوب في
خريف العمر
عن رؤية الفخ المنصوب له. بالنسبة لنا نحن المشاهدين، تبدو خيانة 'جميل'
لزوجته في
جانب منها على الأقل، نوعا من العدالة الشعرية، أو لنقل '
قصاصا إلهيا صغيرا من 'صباح'
التي لا تمانع في التواطؤ مع خالتها في سعيها لهدم بيت عائلة 'ابو منذر'،
فيكون جزاؤها من نفس جنس العمل: ان يتداعى بيتها هي نفسها. لكن دلالة هذا
القصاص
الشعري تغيب عنها لاستغراقها في العماء الذاتي فتبدو حتى اللحظة الأخيرة
مصممة على
الانتقام لجرح انوثتها بإذلال زوجها على حد قولها لأخيها. وفي آخر مشهد
يجمعهما
تبدو وكأنها لم ولن تتعلم شيئا من محنتها، فلم تزل على تسلطها
وغيرتها، ويظل عش
الزوجية على حاله: آيل للسقوط في أية لحظة، ربما مع ظهور 'بثينة' أخرى.
'صباح'
ليست وحدها في هذا العماء الذاتي، فهذا '
زمن العار' والكل متوج رأسه به (إذا جاز
التعبير)، ومع ذلك فإن أحدا لا يرى العار إلا على رؤوس الآخرين.
وطن آيل
للسقوط ..
دون ان يرفع لافتات سياسية مباشرة من أي نوع، يحمل 'زمن العار'
بين طياته زخما من الدلالات بين السياسية والاجتماعية والنفسية. فمن الواضح
ان
الحراك الاجتماعي الذي يشهده المجتمع السوري منذ عدة سنوات بتأثير العولمة
والانفتاح النسبي وقياسا على سبيل المثال بالمجتمع المصري، مع
الفروق الكثيرة بين
المجتمعين بالنسبة لدرجة الانفتاح والحلحلة السياسية ومدى تغلغل آليات
العولمة
وتداعياتها ومن ثم قدرة كل مجتمع على امتصاص صدماتها، هذه العوامل مجتمعة
أدت الى
خلخلة منظومة القيم الاخلاقية والاجتماعية التي ظلت تحكم
النسيج الاجتماعي لعقود
طويلة. يسلط الكاتبان الضوء على بيت 'أبو منذر' بوصفه في إحدى تجلياته
الدرامية
'ميكروكوزم'
أو تجسيد مصغر للوطن/المجتمع الذي يتلقى كل هذه الهزات ويرصد تأثير
ارتداداتها المتتالية على تداعي أعمدة 'بيت أبو منذر' (وكم يبدو التعبير
الشامي هنا
بليغا في إشارته الى كل من العائلة كنسيج اجتماعي، والبيت بالمعنى المادي
بوصفه
المنزل الذي تستظل به العائلة ويصنع مفهوم التئامها أصلا تحت
سقف واحد). ويقودنا
المسلسل عبر حلقاته في رحلة تداعي أعمدة البنيان هذه حجرا بحجر، وتخلخل
نسيج
العلاقات بين افراد الأسرة، حتى تنتهي عملية التداعي الأولى الى 'بيع'
المنزل
واقتسامه، وتنتهي الثانية الى تشتت أفراد الأسرة كل في طريق،
وقد ترسخ في قناعة كل
منهم أن لا نجاة إلا بالقفز من المركب الموشك على الغرق.
التداعي تبدأ أولى
معالمه في الظهور مع الضمور التدريجي لدور الأم الحاضر / الغائب في قلب
الأسرة
المفككة التي تبدو مرتبطة ظاهريا بوشائج واهية لن تصمد كثيرا
امام نذر أولى العواصف
التي تهب عليها. فكل منهم مستغرق في عالمه الخاص، حتى في تلك اللحظات
القصيرة التي
تجمعهم عادة امام التليفزيون (وهو عموما وسيلة تنتقص من التفاعل الاجتماعي
عوضا عن
أن تدعمه) نجدهم محملقين في الشاشة ونادرا ما يتبادلون الحوار إلا من بضع
كلمات
مقتضبة، فكل منهم ساهم في مشروعه او همه الخاص. 'سومر' ينفث
الدخان وقد انتفخت
جيوبه ببضع مئات من ليرات الرشاوى في نهاية يوم عمل ' شاق'، ومنذر وزوجته
يحلمان
باكتمال زواجهما في شقة تجمعهما وحدهما بعيدا عن سجن العائلة الكبير الذي
يملؤهما
بمشاعر الضيف الثقيل غير المرغوب فيه، و 'رانية' التي تبحث عن
الحب في علاقات عقيمة
تتركها تراوح مكانها بين الصد والانكفاء الميلودرامي على همومها، و'بثينة'
المتفانية التي فاتها ان تكون لها حياة في غمرة غرقها لأذنيها في أدوارها
المتعددة
كربة بيت، وخادمة، وأم بديلة، وممرضة للأم المريضة.
والأب 'أبو منذر'، المستغرق
دائما في صمته، مطأطىء الراس ساهما، حالما بأحضان عشيقته المتصابية علها
تعيده الى
شباب ولى ولن يعود. الأب، هو العنصر الحاسم في هدم المعبد على رؤوس ساكنيه،
ذلك
الطاغية الصغير (رب البيت إذا كان بالدف ضاربا)، الذي يسوغ
لنفسه كل شيء إرضاء
لنزواته، يضع بنفسه ولنفسه معايير الصواب والخطأ ويحاسب الآخرين عليها
ويريدهم ان
يتقبلوها دون نقاش. زوجته قعيدة الفراش (الممثلة ثناء دبسي في دور فذ جدير
بالاعجاب
والانحناء، فطوال حلقات المسلسل التي ظهرت فيها كانت قعيدة الفراش وقد ركزت
أداءها
في خلجات وجهها وتعبيرات صوتها ووصلت الى ذروة الأداء في مشهد
موتها وبالأحرى
إماتتها على يد الزوج الخسيس)، تحاجج زوجها في ذلك المشهد حول زواجه المزمع
وكيف
أنها لا تمانع ان يتزوج لكنها تخشى على هيبته وسط ابنائه، فيرد عليها بغلظة
تنبع من
احساس بالذنب يكابر ان يعترف به طالبا منها بنبرة سخرية وقحة
ان تعتبر زواجه ذاك
بمثابة مكافأة نهاية الخدمة لأنه تحملها كل هذه السنين، ويصل الحوار
والمشهد الى
ذروته الدرامية بلحظات احتضار الأم فيما الزوج يرقبها في صمت وتلصص ثم يغلق
الباب
بيد مرتعدة حتى تلفظ أنفاسها الأخيرة، ثم يسارع الى الاختباء
كطفل مذعور متظاهرا
بالنوم على الأريكة، مسترقا النظر والسمع للحظة اكتشاف الأبناء لموتها. هذا
واحد من
أقوى المشاهد الدرامية قاطبة التي شاهدتها في تاريخ المسلسلات العربية،
كتابة
وتمثيلا وإخراجا، وقد ابدع ثلاثتهم فيه: ثناء دبسي، والممثل
الفذ خالد تاجا،
والمخرجة رشا شربتجي، والمؤلفان حسن سامي يوسف ونجيب نصير.
بعد أن أزاح الزوجة/
الأم من طريقه، يقدم 'أبو منذر' على تفكيك
العائلة ببيع المنزل ليشتري لنفسه وزوجته
المغناج الجديد عش الزوجية ويؤثثه، ثم يمنح كلا من ابنائه
نصيبه ليؤمن مستقبله
معتبرا بذلك انه قد أدى واجبه. وكأنما بيع المنزل وتقسيم ريعه على الابناء
يأتي
بمثابة المسمار الأخير في نعش الأسرة التي ينخر التفكك اوصالها منذ زمن.
فالإبن
'سومر'
(تألق في أدائه الممثل مكسيم خليل)، غارق في تكوين ثروته الصغيرة من
الرشاوى
من قروش المواطنين اصحاب المصالح والمعاملات اليومية، ويخطط لحياته مع
شريكته في
العمل والرشوى، وهو لا يرى في ذلك ثلما لشرفه ولا انتقاصا
لرجولته ولا خيانة لأي من
قيم الأمانة والعفة، لكنه ينتفض فجأة لأن أخته حملت سفاحا او عبر زواج عرفي
ويتوعدها بالانتقام، إلى أن ترده صديقته الى صوابه وتذكره بأن الجميع
غارقون في
الخطايا، وكلنا لصوص، صغارا وكبارا، أو أولئك الحيتان الذين
يشيرون اليهم دائما
كنوع من تبرير سرقاتهم الصغيرة، وبما أن الوطن صار مستباحا فلماذا لا ينهش
كل منا
ما تصل يداه إليه من لحمه، إلى آخر تداعيات انهيار القيم في مجتمع ما
وتحلله
تدريجيا وصولا الى مرحلة الغابة التي يتوحش فيها المواطنون
ويستأسدون على بعضهم
البعض فيما اللصوص الكبار يتلهون بانشغال الصغار عنهم وعن غنائمهم الكبرى.
وهنا اود
ان أشير الى أن هذه العينة البسيطة من الفساد البيروقراطي كما بينها
المسلسل، سبق
وان عايشناها في مصر، لكن معذرة للأخوة السوريين فهنا ايضا ستجدون ان مصر
سبقتكم
بأشواط كبيرة، فرشاوى الموظفين الصغار لم تعد تستوقف أحدا في
ام الدنيا لأن
اللصوصية عندنا تجاوزت هذه السفاسف بمراحل، لصوصنا لا يقنعون بأقل من
البلايين،
وندعو لكم ألا تلحقوا بنا سريعا. صديقة 'سومر' التي تذكره بألا داعي
لاستصدار
الأحكام على الآخرين وامتشاق سيوف الشرف والرجولة المزيفة،
فكلنا في الخطيئة بشر،
وفي هذا الدور أيضا تاأقت نادين تحسين بك فبدت بملامح وجهها الحسية التي
تجمع بين
الشبق والغواية ونظراتها المصوبة سهامها عليه دائما (مقابل نظراته الزائغة
والتي
تهرب من المواجهة) توشك ان تخترق مسامه لتعري تناقضاته وداخله
المضطرب الخرب،
وبمنطقها التبريري وعقلها الحسابي الصارم، تبدت كاستدعاء لصورة أمنا حواء
وهي تزين
الخطيئة لسيدنا آدم. وكيف لسومر ان يعترض أمام هذا الألق والشبق الأنثوي
الذي يعده
بالجنة وأنهارها من الأموال المتدفقة. حين يعترض 'سومر' على المساواة بين
خطيئة
اخته وخطاياه بزعم أن تلك مسألة أخرى، يكشف عن العماء الذي
يغشي عيون الناس في
مجتمعاتنا حيث تختلط المفاهيم الى هذه الدرجة من الفصام الاخلاقي والنفسي
الذي
يتجلى في الطرق التي يحلون بها صراعاتهم الأخلاقية على هذا النحو الملفق
دون ان
يتوقفوا عند الخراب الذي يعشش في هذه المفاهيم وتلك الاتجاهات
المتناقضة.
هذا
الفصام يصل ذروته في المشهد الذي يجمع بين ' سومر' وأبيه، الذي اختارت له
المخرجة
موقعا دالا وسط فضاء ممتد ترصعه العمارات قيد الانشاء فيبدوان
كأقزام تمتد ارض خلاء
قاحلة خلفهما. يقايض الابن اباه بالسكوت عن جريمة قتل امه التي ينكرها
الأب، مقابل
ان يحصل على حوالي مليون ليرة زيادة عن حصته. اعتقد ان هذه درجة جديدة من
الانحطاط
لم نسمع عنها من قبل، حين يستنكر الأب ان يخاطبه ابنه على هذا
النحو الصفيق، فيهمس
في اذنه بابتسامة وقحة 'أبي لا يقتل امي'. اعتقد ان هذا مشهد آخر فريد في
بابه في
تاريخ الدراما العربية. وتتعمق دلالة المشهد بآخر نقيض له، حين تذهب
'بثينة' لتضع
باقة ورد على قبر أمها، وتجلس الى جوارها كأنما جاءت تسألها
النصح والسند في ذروة
محنتها وضياعها المضني وهى تهيم لأيام وليال هاربة من منزلها بعد ان تملكها
الرعب
من مصير ينتظرها عقابا على تدنيسها 'شرف العائلة'. على هذا النحو يتجاور
النبل
والخسة في النفس البشرية، داخل العائلة الواحدة بين اب قاتل،
وابن انتهازي وضيع
وابنة مكلومة تستنجد بروح أمها.
الضحية تستسلم لدورها الأبدي
هكذا
في الحلقة الأخيرة تعود بثينة من جديد، طائعة متطوعة الى نفس دور الضحية
المتفانية
المكرسة ذاتها والمنكرة اياها تماما ودائما لخدمة آلآخرين، وهو
نفس الدور الذي 'انتخبتها'
العائلة بتواطؤ جماعي من قبل لتؤديه.
في الحلقة الأخيرة ايضا نرى
تطورا مفاجئا لشخصية الأخت الصغرى 'رانية'، وهي التي ظلت طوال المسلسل اقرب
الى
تنويعة على شخصية 'الضحية' التي تجسد 'بثينة' نموذجها الأصلي.
تنتقل ' رانية ' من
دور الضحية مع صديقها المراوغ المخاتل، الذي يتخذ منها لعبة يلهو بها كلما
عن له
ليلقي بها في أقرب فرصة حين تحاصره عشيقة أخرى أكثر شراسة، ثم يعاود
غوايتها فتهرول
اليه ككلبة القى اليها بعظمة، تتمرد 'رانية' أخيرا على دورها
السلبي هذا، فتلفظ
صديقها أخيرا وتخبره رأيها الحقيقي فيه لتقطع بذلك حبلها السري الذي ربطها
طوال
الوقت الى علاقة مرضية، غير متكافئة ولا مستقبل لها. شبيه بهذ التمرد ما
تفعله مع
زوجة أبيها 'سهيلة' فتنتقل من دور المتفرجة على مضض لتهاجمها
وتتصدى لها، ولكن بعد
فوات الأوان حيث فازت الزوجة بالغنيمة ومعها ورقة الطلاق. في الحالتين نرى
انها
تعلمت الدرس وراحت تدافع عن نفسها وعن وجودها وتمردت على دور الضحية. وهو
نفس الدرس
الذي تعلمه 'منذر' حين يقول لزوجته بعد الفوز بعقد المنزل
الجديد إنه لم يعد يعبأ
بالعائلة ولا بصراعات الأخوة والأخوات ' فخار يكسر بعضه'، على حد قوله،
فيما زوجته
تحاول ان تثنيه ولكن دون جدوى كما يبدو. وهو نفس الدرس الذي تعلمه نورس من
خلال
الرشوة وتدعم بنصائح خطيبته الأكثر حذاقة وايمانا بمبدأ 'انا
ومن بعدي الطوفان'
وأهمية إعمال العقل دائما - أي المصلحة الشخصية - وترك العواطف جانبا ولا
يستثنى من
ذلك علاقتهما فتبين له من البداية انه لا مجال للخلط بين البيزنس والعواطف،
الشغل
شغل والعلاقة الخاصة شيء آخر، منفصلان ولا يلتقيان او
يتداخلان. وهكذا الأب، وجميع
الشخصيات تقريبا، إلا بثينة تعود في هدوء واستسلام لارتداء ملابس الضحية،
متنكرة
لبصيص السعادة الذي أطل من كوة صغيرة بعد طول يأس، وعد بالسعادة التي طرقت
بابها
بعد طول انتظار في صورة رجل يحبها.
تبدو 'بثينة ' في النهاية اقرب الى الام
تريزا، مسيح العصر الجديد الذي يحمل عن البشرية آلامها. الأم المتفانية
التي توحدت
بامها المتفانية الأولى ولم تجد لها دورا في الحياة، ولا تجرؤ على المطالبة
بحق ولا
تدرك حتى ان لها شيء اسمه حق. في هذه اللحظة الختامية من
الحلقة الأخيرة تحولت
بثينة بالمعنى الحرفي للكلمة الى الأم الجديدة للعائلة، بعد أن كانت الأم
البديلة
طوال حياة امها وهي طريحة الفراش، حتى بالنسبة للأب الذي ارتد مع شيخوخته
الى الطفل
الصغير الباحث عن ام ترعاه في خريف العمر بعد ان تبددت نزوات العاشق
المتصابي وذهبت
ادراج الرياح مع العشيقة/الزوجة المحتالة التي طارت بـ'تحويشة العمر'.
كيف حين
يسألها زوجها المفترض 'ما في حدا هنا يخدم ابوكي؟' فتجيب 'لا ما في.. ما في..'
بتوكيد واستسلام تام للدور المصيري المحتوم، ولا تفكر لحظة أن 'ما في حدا'
لأن
الجميع تخلوا عن أداء أدوارهم، أو أن في ذلك نوعا من الغبن والظلم والتجني
عليها،
كلا بالمرة. هي الآن تعود من جديد الى تقمص دور الأم التي
غيبها الموت. هذا هو
ملاذها الأخير، أن تدفن أنوثتها المطمورة أصلا في ثوب الأمومة دون ان تكون
لها ذرية
حقيقية. فلا يجد الزوج المنتظر - وربما آخر رجل سيطرق بابها في حياتها- سوى
ان
ينسحب مطأطىء الرأس صاغرا وقد سلم امره لله، سائرا بالتصوير
البطيء ويغلق الباب
خلفه، ومن ورائه المسلسل.
النقطة الأخيرة التي تنبغي الاشارة اليها واعتبرها من
اهم عناصر جدارة الملسسل تتعلق بإخراج رشا شربتجي، وخاصة فيما يتعلق بإسلوب
إدارتها
لفريق العمل من الممثلين والممثلات تباروا في التجويد وتألق كل منهم نجما
في دوره
(خالد
تاجا، منى واصف، بسام كوسا، ثناء دبسي، مكسيم خليل، تيم حسن، نادين تحسين
بك،
وقبلهم جميعا، دون أن نغمط حق احد كان في النجومية والتألق، سلافة معمار،
وغيرهم
آخرون لا تحضرني أسماؤهم، فمعذرة)، وكيف نجحت في الوصول بهم
ومعهم الى أسلوب شبه
موحد او ' إنسامبل' في الأداء، وهو ما حقق درجة عالية من التناغم وساهم في
ضبط
إيقاع منتظم، مشحون بالتوتر الدرامي معظم الوقت دون ان يتسرب الملل الى
المشاهد
(
باستثناء بعض المشاهد القليلة في الحلقات الأخيرة). الجانب الآخرمن
اسلوب رشا
شربتجي المتميز في التعامل مع الممثلين، يكمن في استخدامها الكاميرا
لملاحقة أو
مصاحبة الممثل داخل المشهد الواحد، بحيث تلتقط الكاميرا واحيانا تتصيد بحذق
ملامح
بعينها من اداء الممثل كأيماءة او لفتة، كما في مشهد المواجهة بين 'نورس'
وأبيه وهي
تسلط الكاميرا في لقطة 'زووم' على قدمي 'نورس' وهو يحركها
عشوائيا على الأرض، قبل
ان تنسحب الكاميرا فتتسع اللقطة مستعرضة إياه وعلامات التوتر على وجهه وهو
ينفث
دخان سيكارته بعصبية في الهواء، تحسبا للقنبلة التي سيلقي بها في وجه ابيه،
توطئة
للصفقة التي سيقايضه عليها، ثم تتسع اللقطة أكثر لتظهر 'نورس'
وحيدا وسط فراغ كبير
يحتوي العمارات قيد الانشاء قبل ان ينضم الى اللقطة 'أبو منذر' فيبدو
تواجههما في
المشهد كمنازلة في الصحراء يلجأ كل منهما فيها الى ما في جعبته من أسلحة،
ولا
يتركنا المشهد إلا وقد تيقنا عمن عساه فاز في المنازلة. أو كما
في مشهد عزاء أم
بثينة، والتوتر الكامن تحت السطح يؤطره صوت المقرئ يتلو القرآن الكريم،
وينعكس ذلك
التوتر على أداء 'جميل' منذ دخوله المنزل وسلامه على الأب وابنه نورس، ثم
جلوسه
منفردا ونظراته زائغة مضطربة كمن يبحث عن بثينة خلف الأبواب،
وتوتر آخر نلمحه سريعا
في طريقة استقبال 'نورس' لـ 'حسان' بعد المشاجرة الحامية التي دبت بينهما
في حلقة
سابقة، وكيف يستقبله الأب بترحاب فيما يتحاشى ' نورس' النظر اليه. يعود الى
المخرجة
أولا
، ومدير التصوير ثانيا، التقاط هذه اللحظات من بين خلجات وأدوات الممثل
التعبيرية.
ناقد سينمائي من مصر
القدس العربي في
14/10/2009 |