ينتمي المسلسل التلفزيوني الأميركي «عقول مجرمة»، الذي ابتكره جف ديفيس وبثّته المحطة التلفزيونية الأميركية «سي بي أس» للمرّة الأولى في الثاني والعشرين من أيلول 2005، إلى فئة الأعمال البوليسية. هذا في الشكل. لكن المضمون الدرامي يبدّل سريعاً تلك النظرة البديهية، لأن التقنية المعتمدة في سرد أحداثه العنيفة تجمع النمط البوليسي في التحقيق الجنائي بالتحليل النفسي القادر على التعرّف إلى القاتل، بدءاً من الأدلّة الأولى المتروكة في ساحة الجريمة، من خلال التوغّل شيئاً فشيئاً في شخصيته المنكشفة، ببطء، أمام المحقّقين. والمحقّقون، المنتمون إلى «وحدة التحليل السلوكي» التابعة لـ«المكتب الفيدرالي للتحقيقات» (مقرّها في «كوانتيكو» في فيرجينيا) يسعون جاهدين إلى تفكيك العناصر المتوافرة لديهم، بهدف إعادة تركيبها وفقاً لمسار التحقيق، وللمعطيات التي يعثرون عليها في كل خطوة من خطواتهم المُطارِدة لهذا القاتل أو ذاك.

بهذا المعنى، يتحرّر «عقول مجرمة» من قواعد التحقيق البوليسي الروتيني، التي شكّلت البنية الجوهرية لمسلسلات أميركية كثيرة، لعلّ أبرزها «مركز شرطة لوس أنجلوس» و«كوجاك» و«ستارسكي وهاتش» مثلاً، التي تُعتبر أعمالاً كلاسيكية في هذا المجال، إذ تخضع التحقيقات للمعطيات المتوافرة على «الأرض»، من دون التنقيب في السلوك الجرمي السابق للجريمة، أو في العلاقات التي ينسجها المجرم/ القاتل مع ضحاياه قبل ارتكابه جريمته وبعدها، ومن دون التوغّل في متاهة النفس والجسد والأفكار والأساليب المعتمدة في القتل تحديداً، لأنها مسلسلات انبثقت من واقع العمل اليومي في دوائر المحقّقين الجنائيين والتحرّيين العاملين على كشف الحقائق بالطرق التقليدية، من دون تجاوز الحالة النفسية والاجتماعية المحيطة بالمجرم، وظروف إقدامه على خطوته الجرمية. وإذا بدت هذه المسلسلات قديمة، تفكيراً ومعالجة وتمثيلاً ومنطقاً عادياً في ملاحقة المجرم/ القاتل، فإن «عقول مجرمة» شكّل حالة مختلفة تماماً عن تلك الحالات العتيقة، لانتمائه إلى نمط مغاير للتقليد. حالة لا تلتزم التحقيق البوليسي الروتيني، لأن شخصياتها الرئيسة باتت أكثر تطوّراً منهجياً في تنفيذ التحقيقات المطلوبة. وهو، بولوجه العالم الذاتي المنغلق على نفسه والخاصّ بالقاتل (سواء كان قاتلاً عادياً أم قاتلاً متسلسلاً)، انضوى في لائحة أعمال متمرّدة على الأسلوب التقليدي البحت، كـ«التحقيقات في مسرح الجريمة» بنسخه الثلاث مثلاً. علماً بأن هناك تكاملاً خفياً بين أعمال فريقي هذين المسلسلين، لأن المحقّقين في مسرح الجريمة ينقّبون بدقّة عن كل شيء متعلّق بالضحية والجلاّد معاً حيث ارتُكبت الجريمة، في حين أن محقّقي «عقول مجرمة» يستفيدون من المسرح نفسه، كي ينطلقوا إلى العوالم الذاتية الخاصّة بمرتكبي جرائم القتل. ومع أن المسلسل الأول (أي «التحقيقات في مسرح الجريمة») بنسخه الثلاث لا يتداخل في «عقول مجرمة»، إلاّ أنه يجد صداه فيه، بشكل أو بآخر، لأن التحقيق في مسرح الجريمة يؤدّي إلى تحديد ملامح القاتل، باستخدام الأدوات المادية وتحليلها وفقاً للمعطيات الموجودة؛ بينما تحقيقات «وحدة التحليل السلوكي» تنطلق من مسرح الجريمة أيضاً، لكنها تستخدم التحليل النفسي أساساً في بحثها عن الفاعل.

الأدب والتحليل السلوكي

بالإضافة إلى هذا، استند «عقول مجرمة» الى علاقة الأدب بالنفس البشرية والحالات الإنسانية والتفاصيل المعيشة. ذلك أن كل حلقة من حلقاته تبدأ بجملة مستلّة من رواية أو نصّ فلسفي أو قول أدبي أو فكري لكاتب أو مفكّر أميركي أو غربي تحديداً، أو تنتهي بمثل هذه الـــجمل المتطـــابقة إلى حدّ كبير والمناخ الذي ظلّل الحلقة، أو المسار الدراماتيكي الذي عاشته الضحايا وجلاّديها معاً.

استقالة

وإذا بدا جايزون غيديون (ماندي باتنكن)، الذي ظهر في المواسم المُنتجة بين العامين 2005 و2007، أقدرهم على رؤية الأمور بعين ثاقبة وحادّة؛ وإذا شكّل ديفيد روسّي (جو مانتينيا)، الذي بات رئيس الوحدة المذكورة بعد استقالة غيديون في نهاية العام 2007، امتداداً ما لشخصية سلفه، مع إضافات ذاتية جعلته يعالج القضايا بالتزامه منهجاً واقعياً وميدانياً مبتعداً، إلى حدّ ما، عن التفاصيل النفسية، من دون التغاضي عنها؛ فإن الدكتور سبنسر ريد (ماثيو غراي غوبلر) يُعتبر الحلقة الأهم في مجال التحليل السلوكي، لأنه الأقدر على ربط المسائل بعضها ببعض، ولأنه المحلّل النفسي الشاب والمتواضع والخجول، الناجح في مهنته إلى حدود قصوى من الفعالية؛ وأكثرهم ثقافة وقدرة على مطابقة الأقوال المأثورة على مجريات الأحداث، تماماً كرئيسه السابق غيديون.

استقال غيديون بحسب المسلسل إثر تعرّضه لمأزق نفسي نتج من شعوره بمسؤوليته عن مقتل مجموعة من العناصر التابعين لـ«المكتب الفيدرالي للتحقيقات». كأن هذه الحادثة فجّرت كل شيء، بعد فترات طويلة من المشاهدة اليومية لوجوه القتلى وجثثهم المتحلّلة وعيونهم الغائصة، أحياناً، في متاهات الخيبة والبراءة والعجز عن حماية النفس من موت محتم؛ وهذا ما أوقعه في الفخّ الأخطر، إذ تمزّقت دفاعاته، وتشوّهت علاقته بمهنته بعد تعرّض علاقته بذاته إلى الاهتزاز؛ على الرغم من نجاحه في إنقاذ زميليه ريد وديريك مورغان (شيمار مور) من جحيم الكوابيس التي ألمّت بهما جرّاء تعرّضهما لضغط المهنة وتداعياتها الحادّة. وهو، قبيل غرقه الأخير في المأزق النفسي المدمِّر، عانى آلام الروح، وبدأ ينوص في عزلة خـــانقة أفضت به إلى الاستقالة، أو بالأحـــرى إلى ما يشبه الاستقالة، لأنه اختفى كلّياً عن المشهد، تـــاركاً رسالة تعلن نهاية مســــاره المهنـــي، إلى جانب شـــارته كمحقّق سرّي وسلاحه الفردي.

يحمل عنوان المسلسل مضمونه الدرامي منذ بداية كل حلقة. فالمحقّقون والمشاهدون مدعوون معاً إلى اختراق تلك العقول المجرمة تمهيداً لإلقاء القبض على القتلة. وبانتظار ذلك، تمتدّ الحلقات على مسافات شاسعة من التشويق والتحليل والمطاردة، من دون التغاضي عن الأزمات الشخصية المتعلّقة بأفراد الوحدة؛ وتتحوّل المُشاهدة إلى «فرجة» محفوفة بعناوين شتّى تزيل الأقنعة عن وجوه كثيرين يُقيمون في الجماعة، وينقضّون على أفرادها في لحظات فقدانهم سلطة الوعي.

السفير اللبنانية في

16/10/2009