تُختتم في العاصمة الإيطالية مساء اليوم فعاليات الدورة الرابعة لمهرجان
روما
السينمائي الدولي التي حوّلت العاصمة الإيطالية لتسعة أيام
عاصمةً للسينما
العالمية. وعلى رغم ثراء هذا المهرجان الوليد اقتصادياً وكونه هدد منذ
اللحظة
الإولى لانطلاقه مهرجانات كبيرة مثل «البندقية» و «لوكارنو» و «تورينو» فإن
تداعيات
الأزمة الاقتصادية تركت آثارها عليه أيضاً ولم تتمكن احتفالية المكان
والعدد الكبير
من النجوم الذين مرّوا على البساط الأحمر من إعادة خلق الأجواء
التي ميّزت الدورات
السابقة. أعداد كبيرة من المتفرجين احتشدت للقاء النجمين العالميين ريتشارد
غير
وجورج كلوني الذي حضر برفقة صديقته الإيطالية الجديدة إليزابيتا كاناليس.
وربّما
انتبه الناس إلى شخص كلوني وعناقه مع كاناليس أكثر من انتباههم
إلى ما يعرضه فيلم
«في
الفضاء إلى الأعلى» الذي أدى بطولته وكان من إخراج جيسون رايتمان (نجل
إيفان
رايتمان) والذي عرض لواحد من وجوه الأزمة لاقتصادية العالمية، بل أقسى
وجوهها، أي
البطالة والتسريح من العمل لملايين من العاملين في العالم. لم يكتف جيسون
رايتمان
بعرض الأزمة من خلال الحالات الإنسانية التي مسّتها تداعيات
الأزمة، بل من خلال
اللاإنسانية التي ميّزت من قاموا بتسريح تلك الملايين من الأيدي العاملة،
لا بل عرض
مقدار «الوقاحة» التي ميّزت هؤلاء وأبرزهم الفيلم «منتفعين» من مأساة غيرهم.
واستخدم رايتمان الكوميديا المريرة في عرض الحالة دون الوقوع في هوّة
«النهاية
السعيدة» المعتادة للأفلام الأمريكية، فـ «النهاية السعيدة لهذه الأزمة
ليست بادية
بعد في الأفق...» كما قال المخرج الشاب في مؤتمره الصحفي عقب عرض الفيلم.
ولكن، وعلى رغم غياب الاحتفالية المعتادة فإن ما ميّز هذه الدورة هو
المستوى
العالي في اختيارات المدير الفني للمهرجان، (ورئيسة تحرير مجلة
«تشاك» السينمائية
الشهرية)، بييرا دي تاسّيس التي فضّلت تقليص عدد الأفلام المتنافسة في
المسابقة
الرسمية. وعلى العكس ممّا هو معتاد في المهرجانات الكبرى، فإن ١٤ فيلماً
فقط تنافست
على جائزة «مارك آوريليو الذهبي». وقالت دي تاسّيس: «أردت تقديم برنامج غير
مزدحم
لإتاحة الفرصة أمام النقّاد والمتفرجين لمشاهدة أكبر عدد من
الأفلام وللحيلولة دون
تقاطع العروض. أردت تسهيل مهمّتهم في متابعة الأعمال بشكل مريح وممتع».
وأكدت بييرا
دي تاسّيس أنها استندت إلى صيغة جديدة تقوم على «المزج بين التجارب
والمشارب
المتعددة لعالم السينما اليوم وبالذات التقريب بين التجارب
الشبابية وأفلام
الميزانيات الصغيرة من جهة، وتجارب المعلّمين والأسماء الكبيرة في عالم
سينما
اليوم» وأشارت إلى «الحضور المتميّز للسينما الأميركية المستقلّة التي بدأت
تتعامل
مع النجوم دون اعتبار ذلك خروجاً عن استقلاليتها» وأضافت أن
«دورة هذا العام قاربت
بين لغات و «لهجات» السينما العالمية المتعددة وتجاربها على الصعد
الإقليمية
والوطنية».
شكل واضح
رئاسة المهرجان أنيطت بـ «قيصر» مهرجانات السينما الإيطالية جان لويجي
روندي
الذي سبق أن أدار مهرجان البندقية في الثمانينات لمرتين وتولّى
رئاسة بيينالة
البندقية نفسها. أقيم المهرجان في «أوديتوريوم الموسيقى» الذي صممه
المعماري
الإيطالي العالمي رينزو بيانو، إلّا أن نشاطاته لم تتحدد في هذا القصر فحسب
وتوزعت
فروع السوق المرافق للمهرجان في مواقع عدة ما جعل من فيا
فينيتو بازاراً للسينما
حيث أقيم «سوق الفيلم».
رئيس المهرجان قال إنّ «مهرجان روما السينمائي الدولي، بدورته الرابعة بدأ
يتّخذ
شكلاً واضح المعالم ما يمكن اختزاله بمقولة «كل السينما لكل
الناس». وشدد روندي على
الصيغة الأساسية التي ولد هذا المهرجان تحت ظلالها، أي صيغة «احتفال روما
السينمائي»، التي ما تزال قائمة وما تزال لدى الإدارة الجديدة النية في
إبقائه لحظة
تعيش فيها المدينة بأسرها وكأنها أصبحت «مصنع الأحلام» وتستعيد به روما
أيام
«الدولتشي
فيتا» التي اخترعها فيديريكو فيلّيني في «تشيني تشيتّا - مدينة السينما»
حين أعاد بناء «فيا فينيتو» عبر رؤى الراحل
مارتشيلّو ماسترويانّي.
جوليا للختام
المهرجان احتفى بالنجمة الأميركية الكبيرة ميريل ستريب، ومنحها جائزة «مارك
آوريليو الذهبي للحياة الفنية» وسيعرض اليوم الشريط الأخير من
بطولتها «جوليا -
جوليا» في الحفل الذي يلي توزيع جوائز المهرجان، حيث مُنحت فيه سيدة
السينما
الأميركية صولجان حفل الختام، فيما شارك ريتشارد غير في لقاء حواري مع
الجمهور. بعث
خلاله النجم الأميركي رسالة إلى الزعامة الصينية تدعوهم إلى «ضرورة عدم
الزهو
بقوّتهم الاقتصادية وضرورة الانتباه إلى حقوق أبناء
التيبيت»... نجمان مشهوران، أي
كولين فاريل ومونيكا بيلّوتشي، كانا من بين المدعوين وكانا سيثيران الكثير
من
الحراك الإعلامي إلّا أنهما أعلنا أنهما لن يتواجدا في المهرجان. فاريل
فضّل البقاء
إلى جانب مولوده الجديد الذي رُزق به قبيل افتتاح المهرجان، وبيلّوتشي
اعتذرت عن
الحضور «بسبب التزامات سابقة».
كارافان حاشد من الأفلام افتتحه في هذه السنة فيلم «ترياج» للمخرج البوسني
دانيس
تانوفتش (الحائز على الأوسكار عام 2002 عن فيلمه - أرض الحياد
-) وهو من بطولة
النجم كولين فاريل والنجمة الحسناء باز فيغا. يروي الفيلم أياماً حياة
مصوّر
فوتوغرافي حربي عايش حروباً عديدة في بقاع شتى من الأرض، ومن بينها حرب
كردستان.
ويعرض تانوفيتش عذابات ما بعد معايشة الحرب حين يعود المصوّر إلى بلاده في
ارلندا
مغموراً بالشعور الطاغي بالخسران بسبب إخفاق زميله المفضّل من العودة إلي
دياره.
تانوفيتش، الذي سجّل بشريطه الأوسكاري «أرض الحياد» عذابات الحرب على أهله
في
البوسنة، يُدخل، بهذا الشريط، إصبعه في الجرح الأوروبي مثيراً ملف
المسؤولية
التاريخية لأوروبا في حرب البلقان وما وقع فيها من مآسٍ وما
تُمثّله تلك المنطقة من
مخاطر للسلام في أورربا بسبب تغطية جمر الحرب برماد قد تُطيّره أية ريح
مهما كانت
وئيدة.
الالتزام السياسي كان واضحاً في العديد من الأفلام، إلّا أن المديرة الفنية
للمهرجان بييرا دي تاسّيس أكدت على أنها لم تسع إلى صياغة
برنامج من الأفلام
السياسية، بل «أتحت مساحة هامة للذكرى لأنني أعتبر الذكرى ضرورية لصياغة
المستقبل،
فهاهو دانيس تانوفيتش يذكّرنا بمأساة الشعب الكردي تحت وطأة حكم صدام حسين
والتشيلي
ميغيل ليتين يدق بشريطه «رقم عشرة جزيرة داوسون» ناقوس الخطر إزاء التناسي
ويعيد
بفيلمه فتح ملف معاناة السجناء السياسيين بعد انقلاب الجنرال
بينوشيت الذي أطاح
بحكومة سلفادور آلييندي المنتخب ديموقراطياً في التشيلي في الحادي عشر من
أيلول (سبتمبر) ١٩٧٣».
حضور عربي وحيد
الحرب أيضاً كانت في الحضور السينمائي العربي الوحيد في هذه الدورة من
المهرجان.
شريط المخرجة اللبنانية ديما الحر «كل يوم عطلة»
- Everyday is a holiday -
من
بطولة النجمة الفلسطينية هيام عبّاس إلى جانب الكاتبة والممثلة الفلسطينية
منال خضر (بطلة فيلم إيليا سليمان «يد إلهيّة»)
والممثلة الشابة ريّا حيدر في دور صعب
للغاية. وعلى رغم أن الفيلم يروي البلاد، (أي بلاد) على خلفية الحرب، وعلى
رغم ما
يصل إلى سمع المشاهد من أصوات التفجيرات فإن ما يُرى في الفيلم من أدوات
القتل في
الحروب ليس إلّا إطلاق عيار ناري وحيد. وتبدو تلك الإطلاقة مثل
الطلقة التي اغتالت
ارشيدوف النمسا عام ١٩١٤ وأطلقت عنان الحرب العالمية لأولى. هذه الإطلاقة
أيضاً
تُطلق العنان لضياع كامل لمجموعة من النساء في صحراء حجرية قاحلة وخالية من
أية
نأمة حياة. الرجال في الفيلم مُغيّبون، وحتى إن تواجدوا فإنهم
لا يبدون كائنات
بشرية بل أدوات مُقادة من قبل قوى غير مرئية. تسعى النساء في الفيلم للوصول
إلى
الوجهة التي يرحلن صوبها: السجن الكبير الذي انغلقت أسواره العالية على
رجالهن وعلى
قصص حياتهن.
شريط ديما الحر الجديد يسجّل لميلاد طاقة سينمائية عربية شابة، وبدت ملامح
نجاج
الفيلم واضحة منذ اللحظات الأولى لميلاد مشروعه
وحقق الفيلم حضوراً جيّداً في عدد من المهرجانات وبرامج صناديق الدعم
الدولية، وفاز
في العام الماضي بجائزة «أعمال قيد الإنجاز» ضمن الدورة الرابعة لمهرجان
دبي
السينمائي الدولي. إلى جانب شريط اللبنانية ديما الحر وشريطي
البوسني دانيس
تانوفيتش والتشيلي (الفلسطيني الأصول) ميغيل ليتين، ضمّ برنامج المسابقة
الرسمية
للمهرجان أعمالاً لمخرجين كبار مثل الألمانيين مارغريت فون تروتّا ومايكل
هوفمان
والفرنسي سيدريك كان، إلى جانب مخرجين شباب مثل الإيطاليين آليسّاندرو
آنجيليني
وجورجو دريتّي والأرجنتيني ماركو بيرغير.
العرب والثقافة العربية كانوا حاضرين في هذه الدورة من مهرجان روما من خلال
عضوية الكاتبة والمخرجة الجزائرية آسيا جبّار في لجنة التحكيم
الدولية التي ترأَسها
هذه السنة المخرج الكبير ميلوش فورمان. واحتفى المهرجان بالموسيقى الشعبية
المغربية
من خلال الوثائقي «أنغام من المغرب» الذي أنجزته المخرجة جوليانا غامبا.
الحياة اللندنية في
23/10/2009 |