كان مفاجئاً الى حد معيّن عودة ميل جيبسون الى الشاشة الكبيرة بفيلمه
الجديد “حافة الظلام” بقدر ما كان أمراً عادياً من نواح أخرى .الممثل
والمنتج والمخرج الذي غاب أربع سنوات بعد فيلمه الأخير “أبوكاليبتو” كان
عانى من هجوم إعلامي حاد عليه بعد أن ألقي القبض عليه يقود سيارته تحت
تأثير الخمر ولم يكتف بذلك، بل شتم اليهود واعتبر الكيان الصهيوني مسؤولاً
عن كل حروب الدنيا . هذا ما استدعى ذلك الهجوم من قِبل هؤلاء الذين يقفون
بالمرصاد حيال أي محاولة لنقد ذلك الكيان البغيض على اعتبار أنه نوع من
المقدّسات، كما لو كانوا حرّاس معبد لا يجب التعرّض إليه (ولو أن هذا
المعبد كثيراً ما يتعرّض للمعابد الأخرى) .
حسناً فعل ميل جيبسون في البقاء بعيداً عن الواجهة الإعلامية طيلة تلك
الفترة متوخياً عدم التذكير بتلك الحادثة . خلال تلك السنوات، اختار فيلماً
بوليسيا- تشويقياً يقوم به يبدو كما لو كان امتداداً معيّناً لسلسلة أفلام
“سلاح قاض”، تلك السلسلة التي ظهر فيها الى جانب الممثل داني جلوفر لاعباً
شخصية التحرّي المتوتّر والمجنون الذي لا يتوانى عن المراهنة بحياته
تطوّعاً . في “حافة الظلام” يبدو قد كَبُر قليلاً وهدأ أكثر، لكنه مع أوّل
أزمة تعترضه (مقتل ابنته في الفيلم) يعود الى سابق عهده من دون أن يكون
الفيلم تكملة للرباعية السابقة التي كانت أخف وأكثر استجابة لمتطلّبات
الجمهور الشبابي حينها .
ما يقف وراء العودة، حسب ما صرّح به الممثل نفسه، هو إدراكه بأن
الأمور تتغيّر في “هوليوود” باستمرار . يقول: “الثابت في “هوليوود” هو
التغيّر الدائم . كل شيء يتغيّر، لكن مع هذا التغيّر تتم ولادة الفرص
المختلفة، والواحد عليه أن يبقى قادراً على متابعة هذه المتغيّرات إذا ما
أراد استحواذ المزيد من الفرص للعمل” . وما فعله جيبسون في الواقع ليس مجرد
البقاء في منزله بعيداً عن العيون ثم تصوير فيلم في السر، بل انطلق للعمل
بعد عام واحد من ابتعاده للراحة، حسب قوله، تخلّى خلاله عن هواجسه التي
جعلته ينقلب الى وليمة جاهزة للإعلام الأمريكي واختار المشاريع التي يود
إنجازها .
في البداية، بحث عن الفيلم المناسب لعودته . الدور الذي يستطيع أن
يطرحه نجماً مستمراً لم تتعثّر خطواته . ما وفّره له “حافة الظلام” هو
شخصية رجل يحب أسرته المكوّنة من ابنته الوحيدة التي تغتال بعد عشر دقائق
من بداية الفيلم فينطلق للانتقام من الفاعلين . ذات السيناريو وفّر له
ملكية التعليق عن الوضع الحالي من خلال رسم ملامح مؤامرة يقوم بها بعض
الكتل السياسية المتعاملة مع تجارة الأسلحة النووية . بذلك دشّن اسهامه
فيما يعرف بأفلام “نظرية المؤامرة” وهي موجة عاشت فترتها الذهبية في
السبعينات من القرن الماضي . وهذا هو ثاني إسهام له في هذه الموجة التي لا
تزال تستطيع أن تعكس ملامح الواقع السياسي والرأي العام من حوله . المرّة
الأولى وردت قبل اثنتي عشرة سنة حين مثّل أمام جوليا روبرتس فيلماً في ذات
النطاق عنوانه “نظرية مؤامرة” وحقق به نجاحاً كبيراً .
الخطوة التالية عن كثب كانت تبنّي مشروع فيلم كانت الممثلة- المخرجة
جودي فوستر تسعى لإنجازه منذ بضع سنوات وعنوانه “السُمّر” أو “The
Beaver” يدور عن رجل يعيش مصاعب حياته ويصل الى دركها لا يؤانسه في ذلك سوى
دمية على شكل حيوان السمّر يتحدّث إليها في تجواله في شوارع الحياة عاكساً
إحباطه . الفيلم هو دراما إنسانية وميل جيبسون يقول في مقابلة تلفزيونية:
“أحببت السيناريو لكني انتجت الفيلم، لأني اعجبت بشخصية جودي فوستر . خلال
التصوير هي امرأة واضحة تعرف ما تريد وتصر عليه في سرعة وتحديد” .
بعد ذلك، سيظهر الممثل في فيلم عنوانه “كيف أمضيت العطلة الصيفية في
سجن مكسيكي؟” . من كتابته وإنتاجه وأسند مهمّة إخراجه الى أدريان جرونبيرج
الذي عمل مساعداً لجيبسون في آخر فيلم أخرجه وهو “أبوكاليبو” .
كل من هذين الفيلمين في مرحلة الإنتاج الفعلية . أوّلهما “السمّور”
سيكون جاهزاً للعرض خلال النصف الثاني من هذا العام، بينما سيدخل الفيلم
الثاني التصوير قبل بدء الصيف ويكون جاهزاً للعرض في النصف الأول من العام
المقبل .
وهذا ليس كل شيء . هناك بضعة أفلام تحتويها مفكّرة ميل جيبسون الجديدة
. أحدها كمخرج ومنتج يجمعه والممثل ليوناردو دي كابريو . فيلم لا يزال بلا
عنوان، لكن المعروف عنه أن تاريخ أحداثه يعود الى القرن التاسع ميلادياً
ومأخوذ عن سيناريو كتبه وليام موناهان الذي وضع سيناريو فيلم “المغادر”،
ذاك الذي قام ديكابريو ببطولته تحت إدارة مارتن سكورسيزي .
عبر كل ذلك، انعكاس لحالة جديدة يجد فيها السينمائي جيبسون الحل
لمشاكله مع نفسه والعالم الذي، من دون غرابة، لا يرضيه . لعله يستطيع
التعبير عن آرائه داخل الأفلام وليس خارجها .
الجمهور النسائي في المقدمة
الفيلم الذي قُدر له احتلال المركز الأول بدلاً من “أفاتار” هو دراما
تختلف 180 درجة عنه، إنه “العزيز جون” والعنوان هو العبارة التي يفتتح بها
معظم الناس رسائلهم “العزيز جون” أو “عزيزي مصطفى” أو “الأستاذ العزيز جاك
شاهين” الخ . .، وهذا لأن رواية نيكولاس سباركس تقوم على سجال من الرسائل
المتبادلة بين بطلي الفيلم جون تايري (يقوم به شانينج تاتوم) وصديقته التي
يحب سافانا كيرتس (أماندا سيفرايد) . ومع أن رسائله إليها لا تقل عدداً عن
رسائلها إليه، الا أن العنوان مشتق من خطاباته التي كتبها وهو مجنّد في
أفغانستان ثم استمر بها بعد انتقاله إلى العراق . في البداية كانت الرسائل
متبادلة، ثم أصبحت من طرفه وحده، بعدما وجدت صديقته أن لديها مسؤوليات أخرى
تمنعها من انتظار عودته .
قبل أن يغادر “أفاتار” موقعه، كان سجل في الحياة الاقتصادية
ل”هوليوود” أكثر من 600 مليون دولار داخل أمريكا الشمالية (كندا محسوبة)
وهو رقم لن يستطيع فيلم لاس هولستروم “العزيز جون” إنجاز أي شيء قريب منه،
أكثر من ذلك، استولى هذا الفيلم الرومانسي المنفّذ بحياكة عاطفية نمطية لا
تخلو من السذاجة، على اهتمام المشاهدين (سبعون في المائة منهم نساء) في
نهاية الأسبوع الماضي، لكن “أفاتار” عاد فاعتلى القمّة باقي أيام الأسبوع،
ولو أن هذا لا يعني أنه سيبقى عليها، إذ بدأت ساقاه تخذلانه مع وجود أفلام
قوية تنتظر فرصة الانقضاض في نهاية الأسبوع الحالي ومنها، بل أكثرها قوّة
فيلم “الرجل الذئب” لجو جونستون مع بينيسيو دل تورو في الدور المذكور .
وفي غمرة هذه التطوّرات، فإن العامل النسائي يبدو مهماً . في الأساس،
إذ أخذ هذا العامل في لعب دور أكبر من ذي قبل في كل مرّة ظهرت فيها الممثلة
ساندرا بولوك على الشاشة . والجمهور النسائي كان غالباً في أفلامها الثلاثة
الأخيرة وهي “العرض” و”كل شيء عن ستيف” و”الجانب الأعمى” وهو الذي أمّن لها
النجاح في الوقت الذي فشلت فيه أفلام ظهرت فيها ممثلات منافسات مثل جوليا
روبرتس الذي لم يحقق فيلمها الجاسوسي “ازدواجية” نجاحاً يذكر ومثل نيكول
كيدمان التي تحطّم فيلمها العاطفي/الميلودرامي السابق “إستراليا” ولم ينجز
فيلمها الموسيقي الأخير “تسعة” أي نجاح أيضاً .
هذه العودة النسائية للعب دور أساسي في عملية الإقبال على الأفلام
التي تحقق تطلعاتها الأنثوية وجد في فيلم ساندرا بولوك الأخير “الجانب
الأعمى” يبدو الكثير مما يُثير اهتمامه . هي ممثلة جيّدة وتلعب أدوارها
بتفاهم تلقائي مع الكاميرا من دون أن تتجاوزها، وتختار مواضيعها، كما الحال
هنا، على نحو يؤازر ما تبحث عنه المرأة في الأفلام من عناصر درامية . وفي
“الجانب الأعمى” ذلك الجانب مجسّداً في حكاية ربّة بيت تأخذ على عاتقها
مساعدة شاب أسود ونقله من قاع الحياة إلى قمّتها محققة له ما يصبو إليه من
بطولة في مجال الكرة .
في الوقت ذاته، فإن “العزيز جون” هو تجسيد آخر من حيث إنه حكاية حب من
النظرة الأولى ففراق فلقاء من جديد مع منوال من الأحداث العاطفية، أكثر من
مشكلة فيه، بينها مثلاً عدد الشخصيات التي تموت أو تصاب بأمراض مستعصية،
لكن ليس من بينها مشكلة الكيمياء بين البطلين، قسم كبير من المشاهدات كن
دون العشرين وذلك حبّاً ببطله الممشوق شانينج تاتوم ليس إلا، رغم ذلك
وجودهن تعبير عن هذا العنصر النسائي المهم .
الغريب إلى حد بعيد، أن هناك أصواتاً تنادت في الأسابيع التي تلت
افتتاح فيلم “أفاتار” منددة بالشخصية التي لعبتها الممثلة سيجورني ويفر في
الفيلم، فهي تمثّل وفي يدها سيجارة في العديد من المشاهد. سبب الشكوى “كيف
تمثّل ويفر وهي تدخّن؟ أليست هذه رسالة خطأ موجّهة للفتيات؟”
ما هو غريب ليس في الشكوى، بل في حقيقة أن أحداً لا يسمع صوت احتجاج
حين ينسف دماغ ممثل بفعل قذيفة، ولا صرخة تنديد ضد المشاهد التي يعتدى فيها
على المرأة جنسياً أو بالقتل أو بكليهما، ولا شيء يُقال حيال المشاهد التي
تعرض الصغار للمخاطر (ولو افتراضاً)، لكن حين تدخّن ممثلة في الفيلم، فإن
ذلك يستحوذ على التنديد انعكاس لحالة معايير مزدوجة واضحة .
علامات
مهرجانات نصف قرن
ما معنى أن يدخل مهرجان ما عامه الستّين؟ أو أن يطوي نصف قرن من
الزمن؟مهرجان برلين السينمائي الدولي انطلق الخميس الماضي معلناً افتتاح
دورته الستّين والمهرجانات التي تجاوزت الخمسين سنة تزداد عدداً عاماً بعد
عام: “كان” الفرنسي يدخل عامه الثالث والستين، و”فينيسيا” الإيطالي ينجز في
سبتمبر/أيلول المقبل دورته ال،67 و”لندن” 52 و”لوكارنو” 63 و”سان
فرانسيسكو” آخر المنتسبين الى نادي الخمسين سنة وما فوق، إذ سيحتفي بدورته
الخمسين هذا العام .
هناك معان كبيرة في هذا الشأن تتبلور في أربعة رئيسية: أولاً: أن
الخطة للانطلاق دعمتها خطّة للبقاء، لا يستطيع أحد الانطلاق بمهرجان جديد
من دون أن يفكّر في كيف يحافظ عليه ويطوّره وبالتالي يبقيه حاضراً . ولكي
يبقى حاضراً كل عام يجب أن يكون محاطاً بأهداف ورسائل محددة اجتماعية
وثقافية وفنية عليه تحقيقها، وهي لا تتحقق بمجرّد الاستمرار، بل وجودها هو
الذي يحقق الاستمرار والأهم منه الارتقاء .
ثانياً: إن البلد الذي يقام المهرجان فيه احتضن هذه الظاهرة وأيّدها،
لا يغيب هنا عامل أن العدد الأكبر من جمهور المهرجان، ليس الضيوف من
سينمائيين ونقاد، بل من الجمهور المحب للسينما البديلة الذي يقبل على ما هو
معروض لأنه الوسيلة الوحيدة لمشاهدة ما لا تعرضه دور السينما من أفلام
واحتفاء بجو ثقافي شامل لا غنى عنه في الخلطة الأوكسيجينية التي تتألّف
منها الحياة .
ثالثاً: يعني الاستمرار أن مديرين جيّدين تواكبوا على إدارة كل مهرجان
وكل منهم عمل لأجله ونموّه، وليس لمنفعته الشخصية كما يحدث في مهرجانات
أخرى حولنا، المدير الذي يرأس المهرجان في هذه المهرجانات يعرف أنه مرحلة
وليس إقامة، لم يشتر المكتب الذي يشغله، بل المكتب هو الذي اشتراه لتأدية
خدمة مهنية محددة: الحفاظ على ما فات والارتقاء بما هو قائم، مديرو
المهرجانات خبرات فوق العادة لها علاقة بالعمل الثقافي والفني والاجتماعي
وكل ما ينبثق من مهام وهو لا يعمل منفصلاً عن غاية المهرجان بل ضمن هذه
الغاية ولو كان يحب، كأي إنسان آخر في الحياة، أن تضمّه الهالة وتسعده
الأضواء الإعلامية بلا ريب .
رابعاً: حتى عاشت هذه المهرجانات المذكورة وسواها وأطبقت على نصف قرن
من الحياة وتنطلق الآن لنصف قرن آخر، فإنها فعلت كل ما في وسعها لكي تدافع
عن مكتسباتها: نافست، وتدافعت وحشدت، وحين استعانت بشخصيات تديرها أو تساعد
في لجانها اختارت الأفضل، لن تجد في أي من هذه المهرجانات من عيّن صديقاً
لأنه صديقه، ولا قريباً ولا شخصاً سيؤمّن مصلحة، لن تجد من لا يفهم في شغل
المهرجانات واستمر .
كل هذه العوامل، وربما كان هناك سواها، هي التي تصنع المهرجان الجيد
الذي يستطيع، كما قلت دائماً، لا تأمين الاستمرار أفقياً فقط، بل التصاعد
عمودياً أيضاً في تطور وثبات وفي إيمان شديد بالفعل الثقافي الذي يقوم به،
هذا الإيمان هو العنصر الخامس والمفتاح الأهم بين ما تم ذكره .
م .ر
merci4404@earthlink.net
http://shadowsandphantoms.blogspot.com
الخليج الإماراتية في
14/02/2010 |