زائر المناطق المحرمة
خليل صويلح
على سفح جبل قاسيون، يرقد جثمّان عمر أميرالاي (1944-2011)، كأنه
اختار مكاناً يتيح له تثبيت العدسة على منظر بانورامي لدمشق كي لا
يفوته المشهد كاملاً. عدسة مفتوحة باتساع تلتقط طبقات الجحيم وهول
الفجيعة وصلوات موتى طارئين. لعله الآن يدير حواراً مع الشيخ محيي
الدين بن عربي الذي يرقد على بعد أمتار منه، حول معنى التصوّف
«معطّراً بروحانيته مباركاً باسمه وكنيته، وقد عاهدت نفسي مذ صرت
مخرجاً أن أنذر له ذبيحتين على روحه الطاهرة كلما رزقت فيلماً»،
وفي رؤية أخرى، ربما أنه يضع اللمسات الأخيرة على الجزء الثاني من
فيلمه «الطوفان»؟
ليلة رحيله في ظهيرة 5 شباط، كان مطر خفيف يبلل الشوارع، فيما كانت
الصورة مثبّتة على «ميدان التحرير» في القاهرة، وبدا أن زمناً
عربياً آخر يعلن مخاضاً مختلفاً. جلطة دماغية مباغتة، ألغت مشاريعه
المؤجلة في توقيت سيئ. غيابه الباهظ فاتورة لا تعوّض، في لحظة
غائمة، فنحن أحوج ما نكون إلى حكمته الجليلة لمعرفة جهة البوصلة
الصحيحة، وإدارة الخطة بدقة وبأخطاء أقل.
كارثة حقيقية أن يغيب سينمائي من مقام عمر أميرالاي، لحظة تراكم
مواد خام نادرة لصناعة شريط استثنائي لا يمكن أن يصنعه أحد سواه
بالخرائط نفسها ووضوح ودقة العدسة. وكي نقلل من حجم الخسائر سنقول
في عزاء أنفسنا: «ألم يطلق الشرارة الأولى للنفير؟»، ذلك أن
الأرشيف الذي يحمل توقيعه لا يضاهى، فهو واحد من قلائل ممن وضعوا
الفيلم التسجيلي السوري في مكانة رفيعة. أشرطة لا تساوم ولم تذهب
يوماً إلى النبرة الفلكلورية والسياحية التي نجدها في مقترحات
الآخرين.
غاب عمر أميرالاي في توقيت خاطئ، أو ما يمكن أن نسميه «التوقيت
القاتل»، ذلك أن قوة الزلزال تحتاج إلى خبير خرائط مثله كي يفحص
صلابة أو هشاشة التضاريس فوق أرضٍ مهتزّة، قبل أن يجرف «الطوفان»
ما تبقى من الطمأنينة الكاذبة. ظلّ عمر أميرالاي طوال حياته
المهنية مخلصاً للسينما التسجيلية، من دون أن يتخلى عن ظلال روائية
في أفلامه، في حكايات قاسية تشبه الصفعات المباغتة، خصوصاً في ما
يتعلّق بموضوعاته السورية. هنا عليك أن تبقى متيقظاً بكامل حواسك
لاكتشاف «القطبة» المخفية في الصورة التي تبدو بريئة، للوهلة
الأولى، لكنها في الواقع تنطوي على شحنة من الألم والبؤس والسخرية
المرّة من أحوال الكائن السوري المريض، إذ يضع نماذجه في ورطة
الكاميرا «المحايدة»، وإذا به يقتنص ما يريده في العمق، لجهة
التحريض والتشريح السوسيولوجي لمجتمع تائه بين البلاغة الجوفاء
للإيديولوجيا الرسمية، ومفرزاتها على الأرض، من طريق كاميرا تتوغل
في المناطق المحرّمة، وتشتبك مع الواقع مباشرة. سينماه مزيج من
الروائي والمسرحي. أبطاله يظهرون من دون أقنعة، في هذه الوليمة
العارية التي لم تكتمل فصولها. كان المخرج الراحل، قبل غيابه
بقليل، يتهيأ لإخراج أحد مشاريعه الكثيرة المؤجلة، أقصد «جدّي
العثماني»، فها هو يسعى متأخراً لاكتشاف هويته الحقيقية، بعيداً عن
الرطانة العمومية، وتفكيك هذا المزيج المتنافر لسلالته، فهل هو
شركسي أم عربي، أم عثماني، أم هو كل هذه السلالات مجتمعة في هوية
واحدة؟
بالطبع سوف نحسّ بالأسى لعدم تمكّنه من تحقيق مشاريع أخرى مهمة،
مثل فيلمه عن «أسمهان»، وفيلمه الآخر عن الممثلة السورية المحتجبة
«إغراء».
لدى عودته من باريس في السبعينيات، كانت الحماسة على أشدها في بناء
مجتمع اشتراكي. اختار أن يحمل كاميراه إلى ضفاف الفرات لإنجاز شريط
عن هذا الصرح العظيم الذي هو «سد الفرات»، هكذا أبصر شريطه الأول
النور بعنوان «محاولة عن سد الفرات» (1970)، شهادة عن مرحلة كانت
ملاذاً لتطلعاته الثورية. وبعد 33 عاماً، سيغلق القوس على رؤية
مضادة في شريطه الأخير «الطوفان» (2003)، محاولاً تصحيح الصورة في
محاكمة قاسية لا تخلو من نقد صارم لأوهام شباب. «الطوفان» الذي
مُنع عرضه في سوريا وجلب المتاعب لصاحبه، هو مكاشفة نقدية ساخنة،
لما آلت إليه أوضاع البلاد وصرخة تحذير لتصحيح وضع، أكثر منه تصفية
حساب. المخرج يحاكم نفسه علناً هنا، بوصفه شريكاً قبل أن يحاكم
السلطة.
هكذا وجد عمر أميرالاي نفسه صاحب أكبر سجل للأفلام الممنوعة: منذ
أن منع فيلمه «الحياة اليومية في قرية سورية» (1973) بمشاركة سعد
الله ونوس، و«الدجاج» (1974)، لم يتح لأحد مشاهدتهما إلا في عروض
خاصة. هذا الحصار لأفلامه قاده مرة أخرى إلى باريس في مطلع
الثمانينيات من القرن المنصرم، لينجز هناك أفلاماً تسجيلية لمصلحة
محطات تلفزيونية فرنسية: «مصائب قوم» و«الحب الموءود» و«إلى رئيسة
الوزراء بنظير بوتو» و«في يوم من أيام العنف العادي» (عن صديقه
الصحافي الفرنسي ميشيل ساورا الذي اغتيل في بيروت). ثم أنجز لاحقاً
في دمشق شريطاً عن «سعد الله ونوس». وجاء «الرجل ذو النعل الذهبي «
(2000) عن الرئيس الراحل رفيق الحريري، ليكون الأكثر إثارة للجدل
في مسيرة هذا المخرج.
ليس لدى عمر أميرالاي أجندة جاهزة، بل يعمل على الحدس في التقاط
موضوعات أفلامه. لكن ما أن تدور الكاميرا حتى يكتشف أنه يخوض في
حقل ألغام. لا يكتفِ هذا المخرج الإشكالي بملامسة الصورة، بل
يُخضعها لاختبارٍ قاسٍ ليبلغ جوهرها. وإذا بالمُشاهد متورط معه،
يعيد النظر في أمور خالها بديهية، فدائماً «هناك أشياء كثيرة كان
يمكن أن يقولها المرء» بحسب عنوان أحد أفلامه.
فيلمه الأخير «طوفان في بلاد البعث» نموذج فريد لأحوال الكائن-
الضحية، وسقوطه المريع في فخ العبودية المزيّنة بطلاء من قشور
الذهب، الكائن الببغائي وقد حفظ «المقرر» من دون أن يفهم المحتوى،
ولكنه في ببغائيته هذه، يؤمن طريق السلامة. صورة المعلم في
«الطوفان» نسخة يمكن تعميمها على آلية صنع الرجل المعلّب، أو
«الرجال الجوف» بقش قابل للاحتراق عند أول محاولة للمواجهة
المضادة، حين تبرز القيم العشائرية والقبلية كماكيت أولي لخريطة
الدولة نفسها.
شخصياً، سأعود على الدوام، إلى شريطه «الحياة اليومية في قرية
سورية»، وأنا أتتبع الوجوه البائسة والكالحة لبشر يعيشون في قرية
بعيدة، تحت وطأة الإهمال، والأمراض المستعصيّة، والعسف العشائري
والحكومي. قرية «مويلح» عند حدود دير الزور- الحسكة، لا تبعد عن
قريتي أكثر من كيلومترات، لكنها صورة طبق الأصل عن ذلك البؤس. إثر
مشاهدتي الأولى للشريط، قلتُ لنفسي «أنا واحد من هؤلاء التلاميذ
الحفاة الذين نشأوا في العراء»، لكن الخطأ الذي ارتكبته، هو أنني
غادرت إلى دمشق لأحقق مشروعي هناك، فيما صفعني عمر أميرالاي بصورة
صاعقة، ستكون درساً بليغاً لي، فقد قطعت مسافة ألف كيلو متر كي
أكتب نصي الخاص، وإذا بي أكتشف بأنني تركت نصي ورائي. هل كان عليّ
أن أوقّع هذا الشريط بنفسي؟ ولكن من يجاري عمر أميرالاي في فضح
الخزي، وطبقات العار، وأفعال البرابرة؟
(روائي
سوري) |