"البحيرة
المُرّة" ومستنقع السياسة الغربية
أمير العمري
فيلم "البحيرة المُرّة"
Bitter Lake
هو أحدث الأفلام التي أنتجها تليفزيون بي بي سي، وهو من إخراج
المخرج المثير للجدل آدم كيرتس
Adam Curtis،
وفي تجربة جديدة تماما من نوعها قرر تليفزيون بي بي سي أخيرا، عرض
الفيلم عبر موقعه " أي بلاير"
IPlayer
وبالتالي إتاحة الفرصة للمشاهدين لإبداء آرائهم عليه مباشرة من
منازلهم.
ينتقل الفيلم (الذي يبلغ زمنه 137 دقيقة) بين الكثير من العناوين
والأفكار التي يجمعها خيط واحد ولكن من خلال سياق فني ذاتي، أي
ينطلق من فرضيات خاصة بمخرجه ومن رؤيته الجمالية الخاصة أيضا التي
ليس من الممكن اعتبارها رؤية موضوعية تماما.. إنه ينتقل من الحرب
في أفغانستان إلى حرب الأفيون، ومن صعود "الوهابية" في الجزيرة
العربية، إلى مكافحة الشيوعية في الشرق الأوسط، ومن الوهابية إلى
القاعدة وداعش، ومن ظهور البترول إلى الأطماع الغربية في المنطقة،
ومن الحرب ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان وتسليح المجاهدين، إلى
صعود أسامة بن لادن ووقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما
ترتب عليها من غزو غربي لأفغانستان، ومن تداعيات الحرب في العراق
وأفغانستان إلى انهيار السوق المالية في أمريكا والعالم في 2008.
لكن المحور الرئيسي للفيلم يدور حول نقد سياسة الغرب، استنادا إلى
فرضية أن ليس كل ما نسمعه في الإعلام الغربي نقلا مما يقوله
الساسة، حقيقي، بل ما هو سوى محض خداع وغش وتضليل، وأهم هذه
الأفكار المتداولة التي ثبت عدم جديتها حسبما يقول الفيلم، فكرة أن
الصراع في الشرق الأوسط، أو بالأحرى الصراع الدائر في العالم
اليوم، الذي يُطلَق عليه حينا مكافحة الإرهاب، وحينا آخر محاربة
التطرف الديني، ليس في الحقيقة صراعا بين الأشرار والأخيار، أو بين
الأسود والأبيض، بل إن الصورة الحقيقة صورة "رمادية"، إذا ما
اقتربنا منها، وهو ما يحاول أن يفعله آدم كيرتس مخرج الفيلم،
بأسلوبه الفني الخاص الذي قد يراه الكثيرون مخالفا لكل قواعد
الفيلم الوثائقي المألوفة.
وهو يتوقف طويلا على سبيل المثال أمام العلاقة بين الولايات
المتحدة والسعودية، ويعرض لقطات بالألوان لذلك اللقاء الشهير بين
الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت، والملك عبد العزيز آل
سعود، على متن مدمرة أمريكية في البحيرات المُرّة بقناة السويس عام
1846، أي بعد معاهدة يالطا مباشرة التي جرى بموجبها تقسيم مناطق
النفوذ في العالم بين القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.
هذا اللقاء الذي سيتمخض عنه اتفاق استراتيجي بين الدولتين، سيظل
ساريا حتى يومنا هذا، ويقضي بأن تدعم الولايات المتحدة بشتى الطرق،
السعودية، وتضمن حماية العائلة الحاكمة في كل الظروف، مقابل ضمان
تدفق البترول دون عوائق إلى أمريكا والغرب بوجه عام. لا يشوب سريان
هذا الاتفاق، حسب ما نراه في الفيلم سوى موقف أمريكا الداعم
لإسرائيل، وهو ما أصبح عُرفا مستقرا في السياسة الأمريكية منذ مجيء
الرئيس هاري ترومان إلى الحكم خلفا لروزفلت. هنا يتوقف الفيلم
طويلا أمام صعود الأمير فيصل ليصبح ملكا وكيف أصبح فيصل، أول مسؤول
سعودي كبير، يوجه انتقادات علنية غير مسبوقة للسياسة الأمريكية
تجاه إسرائيل. ونرى في لقطات نادرة من الأرشيف، الملك فيصل وهو
يلقي خطابه الشهير المدوي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة،
ويتحدث خلاله صراحة عن اغتصاب "اليهود" لأراضي فلسطين.
صعود التطرف
السعودية ضمنت تزويد الأمريكيين بالبترول وحصلت على مئات المليارات
من "البترودولار" مما كفل لها إعادة بناء المدن والبنية التحتية في
الداخل، لكنه أتاح لها أيضا تمويل بناء الآلاف من المدارس الدينية
في باكستان وأفغانستان وغيرهما، التي يعتبرها مخرج الفيلم بؤرة
لتفريخ غلاة المتطرفين، فقد أتاحت الصفقة كما يقول الفيلم بشكل
مباشر، ضمان حماية أمريكا للفكر الوهابي، والتغاضي عن طبيعة نظام
الحكم في السعودية القائم على المزاوجة بين السياسة المحافظة
والمذهب الديني المتشدد، ويقول آدم كيرتس إنه المسؤول عن ظهور
الكثير من الحركات الإسلامية التي تحلم باستعادة دولة الخلافة
الإسلامية باعتبارها الوسيلة الوحيدة القادرة على التصدِّي للمشروع
الغربي الاستعماري.
التناقض نفسه سنراه فيما يتعلق بزراعة آلاف الأفدنة بالأفيون في
أفغانستان، في تلك الأراضي التي تحصل على ما تحتاجه من المياه وهو
ما تحقَّق بفعل المشاريع التي أقامتها الولايات المتحدة هناك، أي
مشاريع بناء السدود والتنمية الزراعية والاستصلاح.
لا يتوقف الفيلم عند هذا الحد بل من خلال أسلوب مخرجه التعليمي
الذي يستخدم التعليق الصوتي والرسوم والشروح والبيانات المكتوبة
على الشاشة والتقابل بين الصور واللقطات على طريقة "المونتاج
الذهني" التي ابتكرها واستخدمها أيزنشتاين في أفلامه التي اعتُبرت
- على نحو ما - أفلاما دعائية، يبدأ المخرج الذي تمرَّس في مدرسة
بي بي سي الوثائقية، فيلمه ويتوقف خلاله ثم ينتهي به، عند الفكرة
الرئيسية التي تشغله والتي صنع من أجل تأكيدها، وهي أن كل ما فعله
الغرب منذ أن قدّمت أمريكا المساعدات الاقتصادية لحكومة الملك محمد
ظاهر شاه في أفغانستان (الذي حكم من 1933 إلى حين الإطاحة به عام
1973)، ثم الاستثمارات العسكرية الهائلة بالتعاون مع السعودية، في
محاربة الوجود السوفييتي في أفغانستان، ثم التدخل العسكري المباشر
بعد 11 سبتمبر 2001 للقضاء على طالبان، كل هذه ثبت أنها كانت تأتي
بعكس ما كانت تروِّج له سياسات أمريكا والغرب وخصوصا بريطانيا التي
يتوقف أمام دورها ويستعين بآراء بعض العسكريين البريطانيين الذين
خدموا في أفغانستان، لكي يدلل على الدور العكسي - السلبي للتدخل
العسكري هناك.
فعلى حين يقال لنا إن دعم القبائل الأفغانية سيساهم في تطويق
طالبان، أصبحت القبائل تستخدم البريطانيين في صراعاتها القبلية
الداخلية القديمة من أجل بسط نفوذها على حساب غيرها، ومن جهة أخرى،
فشلت الولايات المتحدة في تطبيق النموذج الديمقراطي هناك بسبب
الفساد الهائل الذي انتشر بين السياسيين الأفغان وعلى رأسهم الرئيس
حامد قرضاي كما يوضح الفيلم، مما أدى إلى زيادة سخط الأهالي ورجال
القبائل. ونرى في الفيلم كيف يطالب شيوخ القبائل العسكريين
البريطانيين بضرورة التصدي لفساد المسؤولين الأفغان باعتبار أن هذا
هو الكفيل بمقاومة نفوذ طالبان، لكن لا يبدو أن أحدا يستمع أو
يهتم، كما نرى في مقابلات مباشرة، كيف يعبر كثير من الأفغان
العاديين عن سخطهم على الحكومة والمسؤولين الإداريين، وكيف أنهم
أصبحوا لا يجدون قوت يومهم بينما يتم تهريب ملايين الدولارات - من
أموال الدعم الأمريكي - للخارج!
لقطات نادرة
يستخدم المخرج الكثير من اللقطات النادرة التي حصل عليها مما
صُوِّر ولم يُستخدَم وتُرك في مكاتب بي بي سي في كابول بعد إخلائها
في ظروف الحرب المستعرة هناك. من هذه اللقطات نرى لقطة طويلة لجندي
بريطاني يقوم بتصوير بصمات العيون لشيوخ القبائل الأفغان بشكل
مهين، كما نرى ممارسة التعذيب ضد المشتبه فيهم، وهو ما لا يحول دون
اختراق الكثير من المحتالين للقوات، وفي مشهد هائل مصور مباشرة نرى
محاولة اغتيال الرئيس قرضاي وإطلاق الرصاص على موكبه وسقوط عدد من
القتلى من الحراس والمحيطين بالموكب من خلال كاميرا مهتزة وتصوير
مباشر أقرب إلى أسلوب "سينما الحقيقة".
يستخدم المخرج آدم كيرتس أيضا التعليق المباشر بصوته على الفيلم،
ويستخدم الموسيقى بطريقة درامية، ويُدخل الكثير من اللقطات الفنية
المأخوذة من زوايا خاصة، منها لقطة قريبة لسائحة بريطانية تقف فوق
رأس أحد تمثالي بوذا المنحوت في الصخر في وادي باميان، قبل أن
تتسّع زاوية الكاميرا في حركة "زووم" مبتعدة إلى لقطة عامة من بعيد
جدا مع موسيقى درامية تصل إلى ذروتها، وبالطبع يعرف المشاهد كيف أن
هذا التمثال وغيره تم تفجيره من جانب قوات طالبان.
وفي لقطة أخرى، نرى كيف تشرح معلمة بريطانية لمجموعة من الأفغان
البسطاء معالم الفن الحديث ومغزاه وتستخدم نموذجا من تمثال مصنوع
من مادة معدنية صلبة، في حين أن المتحلقِّين حولها يحدقون دون أن
يفهموا مغزى ما تقوله، ويجعل الفيلم من هذه اللقطة التي تتكرر،
"موتيفة" تشير إلى عجز العقل الغربي عن فهم البيئة المختلفة التي
يتعامل معها، وكيف تختلف أولوياتها كثيرا عن الأولويات التي يتطلع
إليها الناس في الغرب.
ويستخدم المخرج الكثير من اللقطات "الفنية" لصفوف الجنود وهم
يسيرون في خطوة عسكرية كما تنعكس على عدسات نظارات يرتديها جندي
أمريكي، أو لطفلين يسيران نحو الأفق في الصحراء، يستخدم مثل هذه
اللقطات للربط بين أجزاء فيلمه، كما يجري حوار غريبا مصورا في
الظلام، بإضاءة خافتة تماما، مع جنود أمريكيين يتحدثون عن عدد من
قتلوهم في ذلك اليوم، وهم يضحكون ويسخرون ويُعبّرون عن استمتاعهم
بالعمل في صفوف المارينز.
وهو يستخدم بين الحين والآخر، لقطات من فيلم بريطاني كوميدي
للسخرية من النظرة الغربية السطحية للغرب إلى الشرق، أما "الموتيفة"
الأخرى التي تتكرر كثيرا ويستند عليها الفيلم، فتتمثل في استخدام
لقطات من الفيلم الروسي (السوفيتي) الشهير "سولاريس" للمخرج أندريه
تاركوفسكي، مع تلقي بصوت المخرج كيرتس يشرح لنا كيف يفشل بطل
الفيلم الذي أرسلته السلطات إلى كوكب آخر للسيطرة عليه، في فهم
طبيعة ذلك الكوكب أو التحكم فيه، ويعود من رحلته وقد انعكست عليه
آثار التجربة بشكل قاس، وارتدت إليه وجعلته أكثر تشوشا وانعداما
لليقين إزاء ما يحدث في كوكب الأرض.
إننا نرى كيف تتحدث امرأة في زمن الوجود السوفيتي في أفغانستان، عن
تمتُّع المرأة بالمساواة مع الرجل، وما تُحقّقه المرأة من تقدم في
كل المجالات هناك، ثم نرى امرأة قريبة الشبه منها كثيرا ولكن بعد
مرور أكثر من عشرين عاما، وهي تتحدث حديثا يكاد يكون متطابقا،
مشيدة بالدور الأمريكي في البلاد. والفيلم يخلص إلى أن كلا من
التجربة السوفيتية والأمريكية قد فشلتا في تحقيق أي تقدم في
أفغانستان، وأن التجربة قد ارتدت ضد الجميع اليوم بعد أن أصبحت
المنطقة بأسرها بؤرة تُهدد بانهيار المنظومة الغربية نفسها!
الرقابة على السينما .. القيود والحدود (2-2)
عدنان حسين أحمد
يضمّ باب حوارات ثلاثة لقاءات أو مجابهات على الأصحّ مع ثلاثة
رؤساء للرقابة على المصنفات الفنية وهم علي أبو شادي والدكتور
مدكور ثابت وعليّة ربيع وإن جاء الحوار الثالث ضمن باب "تجارب".
استهلّ الكاتبان محمود الكردوسي ومجدي الطيب حوارهما مع علي أبو
شادي بأنه كان يُحرّض على رفض الرقابة ثم قبِل برئاستها وبدأ
يطبِّع بين المبدعين والرقابة لمصلحة الإبداع.
وكانت حجة أبو شادي مفادها "إذا رفض الجميع منصباً ما فمن
سيقبله؟". أوضح أبو شادي بأنه لم يتلقَ أية توجيهات من الوزير وكل
ما يتوجب عليه كرئيس للرقابة هو "احترام العقائد" أما البند الثاني
فيتمثل بـ "خدش الحياء العام" التي يرى فيها عبارة مطاطة جداً.
يعتزّ أبو شادي بعدد غير قليل من المواقف الشجاعة التي تبنّاها
خلال مدة رئاسته للرقابة فهو الذي صرّح بعرض فيلم "حليف الشيطان"
لتايلور هاكفورد وأسفر عرض هذا الفيلم عن رفع قضية حسبة ضدّه لكنها
لم تعق مسيرته أو إيمانه بحرية الإبداع. وحينما سأله أحد
المحاورَين عن سبب رفضه لعرض أربعة أفلام أجاب بأن هذه الأفلام
فيها أبعاد إلحادية تمسّ بالذات الإلهية وتتعرض للملائكة وهذه
الأفلام هي "مدينة الملائكة" و "ماتريكس" و "المومياء" و
Meet Joe Black
وقد أجرى للفيلم الأخير ثلاث محاولات مونتاج مع السيدة عبلة عبد
المنعم دون جدوى لأن تلك المحاولات كانت ستفضي إلى تشويه الفيلم
وتحطيم بنيته الإيقاعية.
يريد أبو شادي من الرقابة أن تحمي المبدع كما تحمي المجتمع في
الوقت ذاته. ويتمنّى على الرقيب العام أن يمتلك وعياً سياسياً
قوياً إضافة إلى وعيه بالحركة الثقافية. ويضيف إلى تمنياته السابقة
في أن تكون الرقابة عنصر أمان لا عنصر ترهيب.
يفتخر أبو شادي بأنه خلال مدة عمله التي استمرت 39 شهراً في
الرقابة قد تغيّر شكلها جوهرياً ويتحدى كل من يقول إن هناك شخصاً
واحداً قد شكا من تعامله معه على المستويين الشخصي والموضوعي. وقد
أشعرَ الموظفين في الرقابة بأنه كرئيس لهم مسؤول عن أي خطأ سواء
أكان من طرفه أم من طرفهم. وقد دخل في حوارات غير مسبوقة مع وزارة
الحربية والأمن القومي وأمن الدولة وخرج منها بنتائج طيبة تخدم
المجتمع المصري بأسره. لابد من الإشارة إلى بعض المواقف
الاستثنائية لأبي شادي ففي قضية فيلم "أبو الدهب" للمخرج كريم ضياء
الدين أدلى بشهادة ضد جهاز الرقابة الذي يرأسه وهذا شيئ غير مسبوق
في العمل الرقابي. ويختم أبو شادي حواره بالقول: "لا يجب التعامل
مع أي مصنّف فني بالحذف أو الإضافة لأنه سيخلّ بالمعنى الذي وافقت
عليه الرقابة".
لا تختلف رؤية الدكتور مدكور ثابت للرقابة عن رؤية أبو شادي، فهو
يرى أن الرقابة يجب أن تحمي المبدع وتعتبره جزءاً لا يتجزأ من
المجتمع. وفي ردّه على سؤال إن كانت الرقابة تختلف من بلدٍ إلى آخر
أجاب بأنه من الطبيعي أن تختلف الرقابة من بلدٍ إلى آخر، فتقبيل
فتىً لفتاة في باريس يعتبر مشهداً عادياً ومألوفاً لكنه غير مألوف
في ميدان التحرير في مصر.
طالبَ مدكور أن تتحول الرقابة من إدارة إلى مركز قومي مثل المركز
القومي للسينما أو المسرح على أن تُحذف كلمة الرقابة ويصبح الاسم
الجديد هو "المركز القومي للتراخيص وحق المؤلف" وهنا سوف تتحول
الرقابة من رقابة على الإبداع إلى رقابة على شؤون الإبداع وهي حقوق
المِلْكية الفكرية، والحماية من السرقة والقرصنة. ويرى مدكور أن
فكرة الرقابة التقليدية سوف تختفي تلقائياً. كما أثنى مدكور على
دور الأستاذ علي أبو شادي في تحسين العلاقة وتعميقها بين المثقفين
والرقابة حيث أقامَ جسراً لمن يأتي بعده كمسؤول عن الرقابة شرط أن
يكون من الخندق نفسه.
تجارب
في باب "تجارب" كتبَ حسن محمود إبراهيم مقالاً عنوانه "جمعية
الفيلم تُحاور مديرة رقابة" جاء فيه بأن عينيه قد وقعتا في أثناء
زيارته لدائرة الرقابة على المصنفات الفنية على أفلام كثيرة ممنوعة
لأنها مليئة بالعري والعنف والمشاهِد اللامألوفة، لكن لفت نظره
فيلم أميركي يحمل عنوان "المراهقات" وهو فيلم من وجهة نظره في
منتهى الخطورة والأهمية حيث يتمحور الفيلم على موضوع ابتزاز فتاة
يتم تصويرها سراً وهي تمارس الحُب مع شاب وسيم يستدرج الفتيات
المبتدئات ثم يبيعون هذا الفيلم إلى محلات البورنو. وحينما تمت
دعوة السيدة علية ربيع بوصفها مديراً عاماً للرقابة على المصنفات
الفنية تدخّل الحاضرون الذين شاهدوا الفيلم وقالوا إن العُري فيه
لا يهدف إلى الإثارة الجنسية وإنما هو في صلب الموضوع ويخدم الحدث
الدرامي.
وفي نهاية المناقشة اقتنعت المديرة العامة وقررت إجازة عرض الفيلم
الممنوع مُقدمةً بذلك صياغة لافتة لشكلٍ رقابيٍ جديد. إن سماع رأي
النخبة المثقفة مهم جداً، كما أنّ تراجع السيدة عليّة ربيع عن
قرارها السابق يدلّ على شجاعتها وسعة أفقها لأن الأعمال الفنية لا
يمكن أن تخضع لمنظورٍ فردي، ومقياس واحد، وقوالب جامدة كما يذهب
حسن محمود إبراهيم كاتب المقال المذكور سلفاً.
تؤكد السيدة علية ربيع بأن كل الأفلام التي تمرّ على الرقابة تخضع
لضوابط ومعايير القانون رقم 430 لسنة 1955 الذي يحافظ على النظام
العام، والآداب العامة، ومصالح الدولة العليا والأمن العام. وهي
ترى في خاتمة المطاف بأن "الرقابة تُهذِّب ولا تشوّه".
نظرة تاريخية
كتبَ محمود علي مقالاً تحت عنوان "نظرة تاريخية" متقصّياً فيه
الجذور التاريخية للرقابة ومصادرها، وذكرَ بأن أول تاريخ موثّق
لدخول السينما إلى مصر هو 5 نوفمبر 1896. وأشارَ بأن لائحة
السينماتوغراف قد أُضيفت سنة 1909 "إلى المحلات الخطرة والمُقلقة
للراحة" علماً بأن العروض الأولى للسينماتوغراف لم تكن لها صالات
عرض ثابتة وكانت تندرج ضمن محلات التفرّج العمومية. ينوّه الكاتب
محمود علي بأن هناك خبرين نُشرا في صحف 1906 يشيران إلى إعلان
لعروض سينما "باتيه" حيث رأى "السيدات المصونات يتهافتنَ على
الحضور لخلوه مما يشين". فيما يتناول الخبر الثاني حدث اعتداء رعاع
إسرائيليين على أولاد يوزعون تلك الإعلانات في أثناء عرض فيلم
"آلام السيد المسيح". ونستطيع أن نستشف من هذين الخبرين أن هناك
عروضاً لأفلام مثيرة سياسياً ودينياً بل فيها خروج عن الآداب ولم
تمتدّ إليها يد الرقابة لأن أصحابها كانوا يتمتعون بالامتيازات
الأجنبية. يختم الكاتب مقاله بمقارنة بين قانون الإنتاج الأميركي
وقانون الإنتاج المصري الذي يرد فيه العديد من النواهي والمحظورات.
الرقابة في عالَم جديد
يقترح العمري الذي أدار هذه الندوة وشارك في بعض الإجابات ألا
نعترف بكلمة "الرقابة" وطالبَ بإزالتها وتبني نظام تصنيف الأفلام
بدلاً عنها. وبعد تقديمه المقتضب منح فرصة الكلام لمصطفى درويش
الذي كان مديراً للرقابة على المصنفات الفنية. يرى درويش بأنه
شخصياً كان متقدماً بعض الشيئ على الرأي العام وكان السينمائيون
منزعجين من تحطيمه لقواعد الرقابة. وقد سمحَ بعرض أفلام مثيرة مثل
"هيروشيما حبيبتي" لألن رينيه، و
Blow-up
لمايكل أنجلو أنطونيوني، بل إن أحد المشاهدين قد خرج في أثناء عرض
فيلم "الجمال الأميركي" للمخرج سام منديز بحجة أن أولاده في خطر،
علماً بأن الفيلم كان مُصنّفاً للكبار فقط بينما جلبَ هذا الرجل
أولاده الصغار إلى فيلم مخصص للكبار. ذكر درويش بأنه لا يوجد جهاز
رقابة في أوروبا وإنما يوجد نظام لعرض الأفلام يراعى فيه الصغار،
أي حماية الأطفال من الراشدين.
أما هنا فنحن نحمي أنفسنا، كما كانت السيدة اعتدال ممتاز تقول
"بأنها تحمينا من أنفسنا! ". أشارَ درويش إلى وجود تعليمات رقابية
يزيد عددها على الستين ولكنها كانت تعليمات رقابية خفيّة، أي أن
الرأي العام لا يعرف كل شيئ.
ومع ذلك فإن درويش قد صرّح بعرض العديد من الأفلام الممنوعة حتى
اتُهم بأنه "ليبرالي" وكما يذهب فإن هذه التُهمة كانت خطيرة جداً
في حينها ويمكن أن تُفضي به إلى الإعدام، لكنه ليس نادماً على أي
شيئ قام به خلال فترة رئاسته لدائرة الرقابة.
تدخّل العمري سائلاً إياه عن إمكانية أن تكون فكرة تصنيف الأفلام
فكرة واقعية فأجاب درويش إن تحديد عرض الأفلام للصغار أو للكبار هو
الحل الأمثل كما هو الحال في أوروبا وأميركا.
تحدث الناقد والمخرج صبحي شفيق عن "دور التكنولوجيا على المفهوم
الرقابي" حيث أوجزها بثلاث مصافٍ وهي مصفاة القراءة والرقابة
والمُشاهدة. أما الكاتبة سلوى بكر فهي ترى أن الرقباء غير مؤهلين
للحكم على الأعمال الإبداعية الأمر الذي أدى إلى غياب الإبداع وهو
ناتج طبيعي لشيوع آليتي القمع والفساد.
أجاب العمري على سؤال محمود أنور إن كانت السينما صناعة أم فناً؟
فقال: "إن السينما هي فن وصناعة وتجارة وثقافة". أما المخرجة
والكاتبة عطيات الأبنودي التي تحدثت عن تجربتها الشخصية في إخراج
الأفلام الوثائقية قد نوهت في طرحها بأن السينما التسجيلية في مصر
تأتي في آخر القائمة وكأنه لا يوجد شيئ يحمل اسم السينما التسجيلية
وركزت على رقابة النقاد السينمائيين، ورقابة التلفزيون، ومعهد
السينما، وبعض الصحفيين الذين تعتبرهم السبب في حجب أفلامها ومنعها
من العرض في المنابر السينمائية والتلفزيونية في مصر ولأسباب
سياسية.
أدلى الناقد سمير فريد بدلوه عن الرقابة وقال بأن كِتاب أحمد
بدرخان الصادر عام 1936 يحوي عشر صفحات يتحدث فيها عن ضرورة
الرقابة وأهميتها.
والسينمائيون في مصر هم الذين طالبوا بالرقابة. واعتبر مفهوم
الحرية ليس من خبراتنا ولهذا تسلل سمّ العبودية أو افتقاد الحرية
إلى صنّاع الأفلام وإلى الصحفيين بحيث أن الرقابة لم تمنع أي فيلم
منذ عام 1984 لكن من طالبَ بالمنع هم الصحفيون وليس نقاد السينما.
يعتقد فريد بأن الأزمات بدأت مع فيلم "الغول" 1981، و "درب الهوى"
1985، و "المذنبون" 1976، و "ناجي العلي" 1992 الذي كان آخر معركة
وكل المعارك بدأها صحفيون و "نقّاد سينمائيون" لا يمتّون إلى النقد
السينمائي الحقيقي بصلة!
نوّه فريد في خاتمة حديثه إلى أنّ الخطاب الرسمي للدولة يقول بأن
"الحرية لها أنياب" و "لها سقف محدد" وإلا سادت الفوضى، ولكنه شدّد
على القول "بأنا يجب أن نؤمن بالحرية، وندافع عنها، وألا نغرق في
التفاصيل".
مع الرقابة
تحدث المخرج مجدي أحمد علي عن تجربته الشخصية وعن ردود أفعال
المشاهدين لفيلمه "يا دنيا يا غرامي" الذي عُرض في أسبوع ثقافي
خارج مصر وقد حضره كورت فالدهايم والسفير المصري مصطفى الفقي.
وصادف في اليوم الثاني عرض فيلم "ناصر 56" لمحمد فاضل الذي حضره
الفقي أيضاً وامتدحه بينما كان يتحدث عن فيلم "يا دنيا يا غرامي"
بطريقة سيئة جداً، ومع ذلك فرح مجدي لأنه فيلمه قد ساهم في تعرية
نفوس هذا النمط من المثقفين.
أما الحكاية الثانية التي سردها مجدي فتتعلق بفيلمه المعنون
"البطل" حيث صرخ أحد المشاهدين: أين الرقابة؟ فطلب مجدي من علي أبو
شادي أن يحذف اللقطة لكنه اعترض منتصراً للإبداع. أكد مجدي في
نهاية تعليقه بأنه مع الرقابة وضد إلغائها لأنها أرحم بكثير من
استقبال بعض الناس!
أما الأستاذ أحمد الحضري فقد وضع نفسه في الجانب المقابل وقال لو
ألغينا الرقابة فسوف تعمّ حالة من الفوضى الخرافية وأكد على ضرورة
وجود الرقابة مُستشهداً بمثال الطفل الذي يلقي العروسة الكبيرة من
فوق الجسر لتربك السير وتصدم عدة سيارات بعضها ببعض لأن هذا الفيلم
لم يمر على رقيب أو يبدو أن الرقيب لم يشاهد هذا الجزء الغريب من
الفيلم.
وفي ختام الندوة قال العمري بأنه راجع 18 دولة من دول العالم بما
فيها أميركا اللاتينية فوجد أنها تمتلك لجان تصنيف لكنها لا تمتلك
رقابة بالمعنى الموجود في مصر. ثم طلب العمري من الحاضرين نقل هذا
الحوار إلى المنابر الصحفية كي تُدرس القضية بشكل عميق وتعم
الفائدة على الجميع.
ضم باب وثائق وهو المحور الأخير في هذا الكتاب ثلاثة قوانين
وقرارات رئيسة معززة بمذكراتها الإيضاحية وهي قانون رقم 430 لسنة
1955 الذي يتعلق بتنظيم الرقابة على الأشرطة السينمائية ولوحات
الفانوس السحري والأغاني والمسرحيات والمونولوجات والأسطوانات
وأشرطة التسجيل الصوتي. والقرار رقم 220 لسنة 1976 الذي يتمحور على
القواعد الأساسية للرقابة على المصنفات الفنية. أما القانون الثالث
فهو قانون رقم 427 لسنة 1954 الذي يتعلق بمنع الأحداث من دخول دور
السينما وما يماثلها لمشاهدة ما يُعرض فيها من الأشرطة السينمائية
وغيرها.
لعل أخطر هذه القوانين والقرارات هي المادة الثانية من القرار 220
لسنة 1976 التي لا تجيز الترخيص بعرض أو إنتاج أو الإعلان عن أي من
المصنّفات الفنية التي تنطوي على الإلحاد أو المسّ بالذات الإلهية
والتعريض بالأديان والعقائد السماوية، ونظام الحكم، ومراسم الجنازة
والموت، أو عرض العُري والجنس، والجريمة، والانتحار وما إلى ذلك
بحيث لم يترك هذا القرار شيئاً إلاّ ووضعه في باب المحظورات.
وفي الختام لا بد لنا أن نحيّي الناقد حسين بيومي على هذا الجهد
القيّم الذي بذله في إعداد هذا الكتاب وتقديمه إلى القرّاء الكرام
من مختلف الاختصاصات آخذين بنظر الاعتبار أن السينمائيين سوف يجدون
فيه ضالتهم المنشودة فيما يتعلق بأسرار الرقابة على المصنفات
الفنية والكم الكبير من المحاذير والنواهي والمحظورات التي تتربص
بالفن السابع الذي يكتظ على الدوام بالدهشة والمتعة والفائدة. |