تظل ظاهرة العشوائيات، التى غمرت وجه السينما المصرية على امتداد موسمين
متعاقبين.. أمراً يستحق التأمل والدراما والتحليل.. فرغم تفاوت المدارس
الفنية، والاتجاهات الفكرية.. ابتداء من سينما «يوسف شاهين» فى «هى فوضى؟!»
آخر أفلامه.. وحتى المخرج سامح عبدالعزيز فى فيلمه الأخير «الفرح» عبوراً
بفيلمى «إبراهيم الأبيض» و«دكان شحاتة».. فإن العشوائيات تقدمت وصارت
بمثابة «شجيع السيما» يخرج لسانه فى وجوه الجميع ويطلق حنجرته كالزئير وهو
يحذر الناس والمشاهدين بالويل والثبور وعظائم الأمور!! ولهذا ذهبت بعض
الآراء النقدية إلى اعتبار اللجوء إلى العشوائيات دون أسباب درامية واضحة
أو مبررة.. تحول مؤخراً وفى بعض الأفلام إلى ما يشبه الموضة.. أو بالأحرى
الاستثمار فى منطقة رابحة، مضمونة النجاح، والإقبال الجماهيرى، وشباك
التذاكر.. حيث تتوفر فيها جميع عناصر التشويق.. من الإثارة والعنف المبالغ
فيه، وحتى صراع الرغبات وانفلات السلوكيات وتحطيم كل الأعراف والتقاليد..
فضلاً عن أن البعض يرى فيها وثيقة احتجاج وتنفيس أكثر من كونها فيلماً
فنياً ينبغى أن يتوافر فيه شرطا «الإمتاع والتعلم» كما قال معلم الدراما
الأول أرسطو.
إن مقارنة هذه الموجة بالسينما الواقعية التى قدمها جيل الثمانينيات
وفرسانه من المخرج «محمد خان» إلى «داود عبدالسيد» إلى «خيرى بشارة» و«عاطف
الطيب- رحمه الله- و«على بدرخان» يجعلنا ننتبه إلى الفروق النوعية بين
الواقعية الشعرية كما تبددت فى أفلامهم الواثقة، الناعمة العميقة.. و بين
ما يقدم الآن من واقعية أقرب إلى الصهللة والزعيق والصخب والنفخ فى
النفير!! لعل الصوت العالى هو الذى يقود هذه الموجة بمصاحبة العنف المبالغ
فيه.. والذى يتمثل أحياناً باللعب بأنواع الأسلحة البيضاء مجتمعة من سنج
ومطاوى وسواطير.. بل وفوقها البنادق الآلية مثلما رأيناها فى «إبراهيم
الأبيض» على سبيل المثال.. وكأننا بتنا فى ساحة حرب كبرى، ونزال.. لا ساحة
مجتمع.. وبعض أزقة فيه والتى لا تتسع سوى لمرور فرد أو اثنين على الأكثر!!
ورغم الملاحظات العديدة لهذه النوعية من السينما التى تعتمد على نقل
العشوائيات ولو بطريقة فوتوغرافية مما يتنافى مع السينما التى تحمل وجهة
نظر وتجسد موقفاً.. على أى حال.. وعلى جانب آخر من المشهد السينمائى الراهن
ساهمت هذه السينما وربما دون أن تقصد فى إعادة مجموعة من كبار فنانينا ذوى
الوزن الثقيل والباع الطويل فى السينما المصرية.. وهذا يحسب لها لا عليها
بكل الموازين.. لأن تواجد هؤلاء الفنانين الكبار جاء بمثابة فتح فنى كبير..
وتغيير دفة المشاهدة والاستمتاع.. وكأنه توسيع لشرايين الأداء والتعبير..
هكذا رأينا عودة الفنان الكبير «محمود ياسين» فى فيلم «الوعد» وهو من تأليف
«وحيد حامد» وإخراج «محمد ياسين» رأينا فى هذه العودة.. شيئاً أشبه
بالاستعانة بالجياد الذهبية فى الفنون والثقافة كى تزداد القيمة ويكبر
العطاء.. وهى نفى لما يتردد على لسان العامة من أن الخيل إذا كبرت لابد من
رصاصة الرحمة!!
ولأن جيادنا الفنية الكبيرة.. ليسوا فى صراع مع الزمن، أو لمن له الغلبة فى
العدو والنزال.. وإنما هم معنيون بالأساس بصقل المعانى، وتجسيدها باللمسة
واللفتة، بالإيماءة قبل الكلمة.. وربما بالصمت الذى يضحى أقوى أثرا من
شلالات الكلام. وأنهار الحوارات.. هكذا جاء دور «محمود ياسين» فى «الوعد»..
مجسدا لهذه المعانى مجتمعة.. وهو يقدم لنا دور مجرم محترف غربت شمسه وخارت
قواه بعد أن أصابه مرض السرطان المدمر.. ولهذا يسعى إلى الشاب الذى حل
محله.. ليجبره على تنفيذ وصيته وشروطها الصعبة.. وببراعة ومهارة إنسانية
يستطيع «محمود ياسين» إقناع «آسر ياسين» تنفيذ كل شروطه وتعاليمه.. ولم تكن
المفاجأة الوحيدة التى قابلت الشاب أن «محمود ياسين» قبطى وله طقوس خاصة
ينبغى الحفاظ عليها ومراعاتها.. وإنما كانت هناك سلسلة من المفاجآت على
رأسها أن يدفنه بالتابوت على ربوة عالية كأنه ينظر إلى العالم من علٍ!! إن
«محمود ياسين» الذى قدم للسينما المصرية ما يقرب من 170 فيلما مثل فيها دور
الفتى الأول الوسيم والمحبوب.. إلا أن هذا الدور فى فيلم «الوعد» يُعد قمة
لاتنافسها قمة.. حققها ياسين وهو يقول بالفصيح وبنبرة صوته النحاسى
المنحوتة من صخر هذا البلد.. إن الجياد الذهبية تزداد قيمة ووزنا وعمقا مع
الزمن. على ما يبدو.. أن هناك ثلاثة محمودات دفعونا دفعا.. لكى نردد فى
إثرهم مستحسنين قائلين: الله.. الله.. على ما منحونا من فاكهة الدهشة فى
الأداء والتعبير.. كان الأول وهو من فتح الباب «محمود ياسين» فى «الوعد»
الذى عرض فى الموسم الماضى.. أما الثانى فهو الفنان المبدع «محمود
عبدالعزيز» فى فيلم «إبراهيم الأبيض».. والثالث الفنان المتجدد دوماً
«محمود حميدة» فى فيلمى «دكان شحاتة» و«إحكى ياشهر زاد».
إن «محمود عبدالعزيز» فى دور «عبدالملك زرزور» تاجر المخدرات فى الأباجية
هذا الوحش الكاسر كيف يتحول إلى فأر مذعور أمام فتاته اللعوب «هند صبرى»
لكن غريزة الانتقام التى لا تدانيها غريزة.. تدفعه فى النهاية إلى قتلها مع
عشيقها.. نعم شخصية مركبة وثرية لو اعتنى ببعض تفاصيلها كاتب السيناريو
الذى ركز على مشاهد الإثارة والمعارك والفواجع.. على أى حال تظل ملامح
المعلم «عبدالملك زرزور» علامة مميزة لتاجر المخدرات فى حى «الأباجية» تلك
المنطقة العشوائية التى تم تصويرها بمهارة فبدت وكأنها وطن آخر.. لا وطننا
الذى نسكنه.. وربما من هنا تداعت إلى الذاكرة ملامح الفنان الأمريكى الرائع
«مارلون براندو» فى فيلم «الأب الروحى» وهو يقود جيوشاً من المافيا.. وقد
وقف أمامه «محمود عبدالعزيز» فى هذا الدور وكأنه يحاوره ويسجل أهدافاً
متساوية معه فى خانة الأداء والتميز والإبداع التمثيلى ما بين التقمص
والإيحاء. ولهذا يعد هذا الدور إضافة إلى ثنائى عبدالعزيز.. «الهجان»
والشيخ «حسن» الكفيف، أما «زرزور» فقد فتح أعيننا على روعة الإتقان. أما
«محمود حميدة» فى دور البواب الصعيدى وتاجر الفاكهة فى «دكان شحاتة» فقد
قدمه كما لو أننا نرى صعيديا جديداً اكتشفناه من جديد.. وهو يتميز بضمير حى
لا يقبل القسمة على اثنين.. ويحمل ملامح من سيدنا يعقوب وحبه ليوسف الابن،
وبالتالى تماس الاجتماعى مع الدينى المقدس فمنحه هالة استطاع أن يجسدها
حميدة فى بساطة نادرة وحرفية عالية، ولعل مشهد وفاته من المشاهد التى ستدرس
مستقبلاً لطلبة الفنون لاستيعاب عمق البعد مقرونا بالبساطة.. ولم تختلف تلك
المهارة لدى حميدة فى لعب دور النصاب فى «إحكى ياشهر زاد».. حتى وإن ارتدى
البدلة وتقدم كبار القوم!!
فى هذا السياق الذى أعاد لنا مجموعة من الفنانين الكبار.. برهنوا على أن
«الدهن فى العتاقى» كما يقول المثل المصرى القديم.. ولا يفوتنا دور الفنانة
الرائعة «كريمة مختار» فى فيلم «الفرح» وهى تقدم لنا دور الأم والجدة
المصرية فى حى شعبى.. وتظل تلك الأم بلمساتها الحانية وملاحظاتها الحادة
تمثل رمانة الميزان.. أو الضمير الأعلى لأبنائها بل لأبناء من فى الحى..
وقد أدته «ماما نونة» عفواً الفنانة الكبيرة «كريمة مختار» بعذوبة، تغزو
بها القلوب وتشعل بها العقول.. وهى تتساءل: من الذى قلب الميزان وعكس
الحقائق وحول الفرح إلى معزى؟ وفى كلمة أخيرة موجزة.. إن فرسان السينما
الكبار انتشلوا أفلامهم.. وهم يضيئون فى عيوننا قيمة الفن والحياة.. بين
المتعة والعذاب
روز اليوسف المصرية في
06/07/2009 |