«القطط الفارسيّة» فيلم يستشرف حركة الاحتجاج التي شهدتها شوارع طهران في
الأسابيع القليلة الماضية. الشريط الذي استقبل بحفاوة في مهرجان «كان»
الأخير، أنجزه المخرج بهمان غوبادي من دون تمويل، سراً، لأنّه ممنوع من
التصوير منذ ٢٠٠٧. وكان عتاده الوحيد: دراجة نارية وكاميرا رقمية صغيرة
خلال
«مهرجان كان» الأخير، ورغم الحفاوة
التي حظي بها فيلمه «لا أحد يعرف شيئاً عن القطط الفارسية»، بدا السينمائي
الإيراني بهمان غوبادي يائساً. حتّى خبر إطلاق سراح رفيقة دربه الصحافية
الإيرانية ــــ الأميركية روكسانا صابري (بعدما حكم عليها بالسجن سبع
سنوات، بتهمة التجسّس)، لم يخفّف من حزنه. وتساءل كثيرون: هل السينمائي
الذي أمامنا، هو نفسه الشاب البشوش الذي أبهر الأوساط السينمائية العالمية
بباكورته «وقت لانتشاء الخيول» (الكاميرا الذهبية في «كان» ــــ 2000)،
فصُنّف ضمن أبرز أقطاب السينما الإيرانية الجديدة؟ سينما جيل لم يشهد ميلاد
الثورة الإسلامية، ولم يعش، كالجيل الذي سبقه، جذوتها وأحلامها، بل نشأ في
ظل القبضة الحديدية لنظام الملالي المتشدد. ما جعل هذا الجيل يطرح جانباً
اللغة الشاعرية (عباس كياروستامي ــــ راجع المقال صفحة 17) وأسلوب التورية
(محسن مخملباف)، لحساب خطاب ناري ومشاكس يرصد غضب الشباب الإيراني وتوقه
إلى الحرية.
لم تقارب السينما الإيرانية العالم السفلي، ولم تغص في عوالمه السرية
التي خرجت من قمقمها انتفاضة الشباب في شوارع طهران أخيراً، كما فعل غوبادي
في «القطط الفارسية». وهو هنا يسير على خطى سينمائي آخر هو جعفر بناهي الذي
سلك الدروب الوعرة ذاتها في «الذهب والدم» (2003). إذ صوّر الحياة السرية
للشباب الإيراني التي تمنحه هامشاً، محدوداً ومحفوفاً بالمخاطر، من الحرية.
في ذلك الشريط، تنبأ بناهي بأنّ «ثورة داخل الثورة» آتية لا محالة، بعدما
طرح جانباً اللغة الشاعرية التي طبعت أفلام بداياته: «البالون الأبيض»
(الكاميرا الذهبية في «كان» ــــ 1995)، و«الدائرة» («الأسد الذهبي» في
«البندقية» ــــ 2000)، لحساب لغة فجة سلّطت نظرة قاسية على ازدواجية
الشباب الإيراني الممزق بين عالمين أو نمطي حياة: حياة علنية متقشفة
مجاراةً لحكم رجال الدين، وحياة سرية تمنحه هامشاً من الحرية والانعتاق.
رغم أنّ سبع سنوات تفصل بين «الذهب والدم» و«القطط الفارسية»، إلا أنّ
بهمان غوبادي يعترف بأن نقاطاً عدّة تجمع بين التجربتين: «أنا وبناهي سليلي
الغضب والقلق الوجودي نفسه. كلانا يغرف من عوالم شبابية إيرانية، والمشاغل
والقضايا المسكوت عنها. هذه العوالم يمكن وصفها بأنها أشبه بمولود هجين،
يحمل شيئاً من تشيخوف (روح التراجيديا) وشيئاً من ألبير كامو (التمرد
الوجودي)...».
في «الذهب والدم»، سلّط بناهي نظرته إلى العالم السفلي في إيران، عبر
جولة ليلية لبائع بيتزا يجوب طهران على متن دراجته النارية. أما غوبادي،
فرافق بكاميراه في «القطط الفارسية» رحلة تيه شاب وشابّة إيرانيّين خرجا
للتو من السجن، ويسعيان لتأسيس فرقة روك اند رول! أمام جمهور الكروازيت
الذي أبهره الفيلم، في أيّار/ مايو الماضي، روى عشقان خوشانجاد أحد بطلي
الفيلم أنّه تعرّض فعلاً للسجن بتهمة ممارسة موسيقى الروك من دون ترخيص...
للغوص في العوالم السرية للشباب الإيراني، انطلق غوبادي وفريقه فيلمه،
على غرار بطل «الذهب والدم»، على متن دراجة نارية كانت كل عتادهم الفني،
إلى جانب كاميرا رقمية سلطا عبرها نظرة غير مسبوقة في جرأتها وقدرتها على
التجديد، للتحايل على الرقابة الرسمية التي رفضت منح تصريح بالتصوير
لغوبادي، مذ أثار فيلمه «انتصاف القمر» حفيظة المؤسسة الدينية (راجع الكادر
أدناه). ورغم أنّ الفيلم صُوّر سراً وصادفته عقبات، إلا أنه أبهر النقاد
بخطابه البصري الذي أضاء على كل ما هو مسكوت عنه في إيران، دينياً وسياسياً
واجتماعياً.
من الفيلم
استعار الشريط عنوانه «لا أحد يعرف شيئاً عن القطط الفارسية»، من
أغنية لفرقة راب محلية تسخر من قرار المؤسسة الدينية بمنع القطط والكلاب من
التجوّل في إيران، بحجة أنها «حيوانات غير طاهرة». لكن الجميع ــــ تضيف
الأغنية ــــ يملك قططاً فارسية في بيته، لأنها جزء من تراث فارسي عمره 3
آلاف سنة. وتلك القطط، وإن كانت ممنوعة من الخروج، إلا أنها تظل متوثبة،
بانتظار اللحظة المواتية للخروج إلى دائرة النور.
بذلك، حمل الفيلم ما يشبه النبوءة التي بشرت باندلاع ثورة «القطط
الفارسية» الشابة. لكن غوبادي الذي تملّكه التشاؤم، لم يكن يتوقع أن
النبوءة ستتحقق بهذه السرعة. حين شرع في تصوير العمل، كانت رفيقة دربه
روكسانا صابري التي اشتركت معه في كتابة قصة الفيلم، تقبع في السجن. وكان
غوبادي ممنوعاً من التصوير، منذ 2007. وهو كان يدرك حين صوّر هذا العمل أن
طريق العودة إلى طهران أصبح محفوفاً بالمخاطر. لذا أعلن خلال «كان»: «أنا
يائس ومحبط، ولن أعود إلى إيران، لأن ذلك معناه أنني لن أستطيع تقديم أي
عمل سينمائي بعد اليوم». هكذا قرّر صاحب «أغنيات من بلد أمي» المضي إلى
المنفى الألماني، حيث حصل على التمويل لتحقيق فيلم بعنوان «خمسون ثانية في
حياتي» عن اللحظات الأخيرة في حياة محكوم بالإعدام يُقاد إلى حبل المشنقة
في إحدى ساحات طهران.
حركة الاحتجاج العارمة التي شهدتها طهران بعد الانتخابات الرئاسيّة
الأخيرة، جعلت غوبادي يؤجل الانطلاق في مشروعه الجديد، مؤثراً العودة إلى
بلاده. لكنّ السينمائي اعتُقل بعد وصوله إلى مسقط رأسه في عبدان، في
كردستان الإيرانية، وأُبعد إلى... المنفى الذي أصبح قسريّاً هذه المرة.
سينما الاحتجاج والخيال والغضب الكامن
عوّدتنا السينما الإيرانية على محو المسافات بين الواقع والخيال. منذ
الأعمال الرائدة لعباس كياروستامي («أين بيت صديقي؟»، «طعم الكرز»...)
ومحسن مخملباف(«الدرّاجة»، «قندهار»...)، تأسّس ضمن السينما الإيرانية تيار
فني سعى للتقريب بين السينما التوثيقية والروائية، وأصبحت له تأثيرات فنية
تجاوزت حدود إيران. لكن الأمر بالنسبة إلى بهمان غوبادي، لم يعد مجرد ترف
أسلوبي. بموازاة النجاح العالمي، واجه المخرج المشاكس (41 سنة) تضييقاً من
الرقابة في إيران، حتى صدر قرار رسمي بمنعه من التصوير، سنة 2007.
قبل ذلك، بدأ غوبادي مساعد مخرج مع المعلم عباس كياروستامي في «لتعصف
بنا الرياح» (1999)، ثم قفز اسمه مخرجاً إلى مصاف العالمية، منذ النجاح
الذي حقّقته باكورته «وقت لانتشاء الخيول». ورغم أنه سينمائي مقلّ، لم
يقدّم سوى خمسة أفلام روائية طويلة، إلا أنّ كل عمل جديد له يثير ردة الفعل
المزدوجة نفسها: نجاح عالمي في الخارج مقابل استياء رسمي وتضييقات رقابية
داخل إيران.
وقد وصلت معركة لي الأذرع بينه وبين المؤسسة السينمائية الرسمية في
بلاده إلى نقطة اللارجوع، إثر فيلمه الثالث «السلاحف تطير أيضاً» (2005)،
الذي أثار حفيظة الرقابة فمنعت عرضه في إيران، لأنه تناول الانعكاسات
الاجتماعية الوخيمة للحرب الإيرانية ــــ العراقية على سكان المناطق
الريفية الفقيرة المتاخمة للحدود. تناول غوبادي ذلك من خلال قصة واقعية
لمجموعة أطفال صاروا يتامى بسبب الحرب، يعيلون أسرهم عبر جمع العبوات
الناسفة من الحقول الملغومة التي خلّفتها الحرب، لإعادة بيعها في السوق
السوداء.
بعد ذلك بعامين، رفضت السلطات منح التأشيرة الرسمية لفيلم غوبادي
الرابع «انتصاف القمر»
Half Moon
للمشاركة في المهرجانات الأجنبية. لكنه لم يأبه بذلك القرار، وسافر بالفيلم
لعرضه من دون إذن رسمي في «مهرجان سان سيباستيان» حيث نال الجائزة الذهبية.
ما أعطى حجةً للمؤسسة الثقافية الرسميّة، بمنعه من تصوير أي عمل جديد.
لكن كل تلك التضييقات لم تلجم الروح المشاكسة التي يشتهر بها صاحب
«أغنيات من بلد أمي». إذ قرّر أن يصوّر «القطط الفارسية» سراً ومن دون
تمويل، وكان عتاده الوحيد دراجة نارية وكاميرا رقمية صغيرة. هكذا، رافق
غوبادي موسيقيين شابين، يؤديان في الفيلم دورهما الحقيقي في الحياة، وصوّر
العقبات التي تعترض مساعيهما لتأسيس فرقة روك. وإذا بتلك الرحلة الشيقة
والمحفوفة بالمخاطر، تتحوّل إلى لقطة مقربة أبرزت بوادر «الثورة الصامتة»
التي كانت نيران نقمتها تتنامى سراً في العالم السفلي، قبل أن تخرج إلى
العلن إثر الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
عباس كياروستامي «شيرين» بينوش!
على الشاشة، نشاهد عشرات النساء يبكين تباعاً أمام سرد ملحمة عشق خسرو
لشيرين، تلك الأسطورة الفارسية التي تعود إلى 800 سنة. نشاهدهن كما لو أنّ
ملحمة عشق الأمير الفارسي للأميرة الأرمنية يعاد تجسيدها أمامهن من جديد.
لا نرى إلا وجوههن وانفعالاتهن، أمام ما يشاهدن من الملحمة التي يرافقها
صوت شاعر فارسي يروي حكاية شيرين، كما لو أنهن في صالة سينما. وجوه صامتة،
متأثرة، غارقة بالدموع على وقع تصاعد الأحداث... كل ذلك مبني وفق
الانفعالات في رصد المرأة الإيرانية وتوثيق عواطفها. هذا ما حمله الفيلم
الجديد لعباس كياروستامي «شيرين» (الصورة) الذي عُرض أخيراً في «مهرجان
البندقية السينمائي». وفي الفيلم، نرى بين الممثلات الإيرانيات، الفرنسية
جولييت بينوش مرتديةً الحجاب ترتسم
على وجهها انفعالات تصل بها إلى حدّ البكاء، بل الإجهاش في نوبة بكاء عارمة
تجتاحها. مساحة تجريبية أخرى يجترحها صاحب «طعم الكرز» الذي عوّد متابعي
السينما العالمية على جرعة مغايرة، منفتحة دائماً على الجديد بهدف الوصول
إلى مساحات عذراء في الفن السابع. من هنا، نعود إلى بينوش التي قررت خوض
تجربة فريدة مع كياروستامي. ولعل زيارتها المتكررة لإيران كانت في هذا
السياق، ما كسر الحصار الذي أربك القيادات الإيرانية المحافظة، لكون
الممثلة الفرنسية كانت مصدر ترحيب كبير من وسائل الإعلام الايرانية،
وحضورها في الشارع الإيراني كان طاغياً ودائماً برفقة كياروستامي الشغوفة
بأفلامه وتجربته. زيارات بينوش لإيران بدأت منذ سنتين، وتعاونها مع صاحب
«عشرة» طبيعي، ما دامت مسيرتها السينمائية حافلة بأفلام جمعتها مع كبار
السينمائيين العالميين مثل الفرنسي جاك لوك غودار والألماني مايكل هانيكي...
كذلك فإن طموحها حاضر بقوة وبما يكفي لتقول: «لا أملك أشجاري، لكنني أحب
حديقتي». ظهور بينوش في «شيرين» قادها إلى القراءة عن إيران والإسلام،
لتكون النتيجة فيلماً يمثّل نقطة تحول في السينما الإيرانية. الشريط هو أول
تعاون إيراني أوروبي مشترك منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979، وتحديداً
على صعيد التمثيل، على اعتبار أنّ فرنسيين وإيطاليين غير بينوش يشاركون في
الشريط مثلما فعل أنطوني كوين قبل الثورة بسنة في فيلم
Caravans
إلى جانب ممثلين إيرانيين، وفي إنتاج هوليوودي إيراني مشترك.
توقع ما سيحمله هذا الفيلم ضرب من ضروب المستحيل، ومن الأفضل تشريع الأبواب
أمام كل الاحتمالات، ما دام كياروستامي مصراً دائماً على البحث عن جديد.
الأخبار اللبنانية في
13/07/2009 |