يهدينا الشريط بعض المشاهد المتألقة، والكثير منها يحتاج إلى التحرير
المتماسك لكاتب مخطوطة السيناريو الأميركي من أصول أفريقية جيمس مك برايد،
مستندا الى الرواية نفسها التي كتبها ولاقت رواجا بعد نشرها عام 2002،
وبالمناسبة، فانه كان أحد الجنود الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية.
حكايته تتضمن أربعة جنود مشاة أميركيين من أصول أفريقية، مهمتهم العمل
خلف خطوط العدو خلال الحرب العالمية الثانية، ولكي يدعم مك برايد قصته
جيدا، استعان بما تيسر لديه من خبرة وأرشيف واحدة من مجازر المحنة الكونية،
ودارت حول «معجزة» إنقاذ طفل إيطالي في غضون مجزرة سانت آنا التي ارتكبتها
القوات الخاصة النازية «أس أس» وراح ضحيتها 560 مدنيا بينهم 106 أطفال
والباقي أغلبهم نساء. وأطرها من خلال عجوز من أصول أفريقية يشاهد فيلما
لجون وين يعرضه التلفزيون، ولكي يضعنا في قلب الموضوع يزج تمتمة على لسانه:
«قاتلنا في تلك الحرب أيضا». وسنأتي لتفسير هذه الجملة التي ينحصر فيها هدف
الفيلم.
المشاهد الغريبة متألقة
سنتعرف عليه جيدا بعد أن نراه في اليوم التالي من شتاء 1983 متوجها
إلى مكتب البريد في نيويورك حيث يعمل، ولكن المباغتة الحقيقية، أن الشريط
سيخبرنا في النهاية فحسب، من هو، ولماذا يعمل هناك. وفي الحقيقة لا نعلم
حقا إن كنا بحاجة إلى مشهد الافتتاح هذا.
وكم كان الأمر يبدو أكثر عمقا لو اكتفينا بمشهد الإغلاق: أترك الرجل
يسير ببطء، أو أدعه يتسلق إلى الأعلى، ليتسنى لي فتح النهاية على أفقها،
وسيكون ذلك أعمق من جرجرته للركون إلى الشاطئ، وهذا ما كنا نقصده في الفارق
بين «المشاهد المتالقة» وتلك التي تعاني من نقائص.
لا اختلاف إن كانت «المشاهد غريبة»، لأن الفن يتعطش للغرائب دائما،
ولكن هل من الضروري جدا جلوس الجنود الأربعة في مطعم محلي، بينما يرتاح
أربعة أسرى ألمان في كشك قريب؟
العنصرية المزدوجة
مثل هذه المعالجات وزج قضية عنصرية البيض في منتصف القرن الفائت لا
ينبغي أن تضيف الكراهية إلى النازيين الذين لم يخفوا عنصريتهم، ولم يتركوا
سوأة إلا وعملوها، وكذلك لا نعتقد أن ثمة مشاهد يتحسر عليها لو حذفت، كتلك
المجادلة واهانات الضباط البيض لمن يقاتل - وكما تذكر المخطوطة بطريقة
مباشرة وخطابية لا تجارى : للذي يقاتل من أجل أطفاله وأحفاده وبسبب ايمانه
بمستقبله وولائه لرفاقه في السلاح!
ما هذا؟ هل نحن نتابع خطابا حماسيا دسّ فجأة أو انزلق سهوا في الشريط؟
وللآن لم نسجل أي اعتراض على جوهر سينما الحرب الأميركية في أن جنودهم لابد
وأن ينقذوا أطفال الآخرين أو نساءهم ، مخاطرين بحياتهم بالطبع. وكم يكون
الأمر رائعا لو كان الجنود من أصول أفريقية وبورتريكي لكي تعد طبخة مناهضة
العنصرية جاهزة.
تأثير أفلام الحرب
والمخرج سبيك لي لم يفلح في الإفلات من الشريط الأقوى بكثير «إنقاذ
الجندي رايان» الذي وقره النقاد والعامة على السواء، وحمل بصمته الخاصة في
أفلام الحرب والسينما بشكل عام ، لكونه أحكم صنعته، ولم يعتمد على
الاستعراض الضخم للمعارك والمساومات العرقية في الحوار وتأثيراته العميقة
التي رزق بها من حادث بسيط.
ومن المحتم أن نسأل فيما إذا قدم الشريط شيئا جديدا مقارنة بملاحم
الحرب مثل «اليوم الأطول» 1962 و«الأحمر» 1980 وغيرها.
من أجل المذبحة
وكان على سبيك لي أن يحرك جنوده الأربعة في خريف 1944: ديريك لوك
ومايكل إيلي وألونسو لاز وبنسن ميللر في قرية كلونورا، ويعبر بهم نهر
تسكانيا، متقدمين أو منسحبين، وفي تلك الأثناء لم نكن على دراية بشأن تمثال
فلورنسا ومغزى حمله، ولا الدور الحقيقي للطفل أنجيلو (ماتيو سكيبوردي)
والظهور السريع لريناتا كامرأة قروية جريئة وجذابة تنتمي إلى مكان يعادي
النازيين، لتساعد في اشتراك كل القرويين في المعركة، تعاطف يصل إلى الموت،
بلا أي تمهيد، غير استنادها إلى أحداث وقعت فعلا.
تماما، كالرابط المفقود بين أنجيلو والقطار الذي لم يبد واقعيا، على
عكس الكاميرا التي كانت تحب أداءه، وكذلك الرقص في الكنيسة المحلية
والموسيقى الصادحة والتطورات الرومانسية التي جعلتنا نتابع مشاهد من مسرحية
موسيقية وليست عملية خلف خطوط مكان يغص بالنازيين.
من المحتمل أن ما أوردناه لم يكن مشكلة السيناريو ولا الإخراج،
فالكثير من المنتجين يتمسكون بمفاهيمهم الخاصة التي يرون أنها تصب لمصلحة
الفيلم لكي يجعلوه أقصر وأسرع وأكثر إثارة وتنوعا وخيالا وعنفا، لكن هذه
العناصر كلما زادت أو أقحمت تجعله ضئيلا فنيا، ولعل مسعى المنتجين خاب
حينما سجل نسبة حضور متدنية في افتتاحه، ولم يتجاوز ايراده 3 ملايين دولار
في غضون عرضه في الأسبوع الأول.
أول بطولة
وبالمناسبة، هذا الشريط، من القلائل جدا من الأفلام التي سلطت إنارتها
على الجنود من أصول أفريقية الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية، فأغلب
سينما الحرب الأميركية كانت تظهرهم في حروب أخرى في مقدمتها فيتنام، ولكن
ذاكرتنا لا تقودنا إلى فيلم أميركي عن الحرب العالمية بطلها من ذوي الأصول
الأفريقية، فكل الأميركيين الشجعان الذين ضحوا بحياتهم من أجل حرية أوروبا
كانوا بيضا، بداية من جون وين وباقي نجوم هوليوود. لذلك جاءت عبارة المفتتح
التي ذكرناها في المقدمة.
وهو أكبر تناقض عاشته سينما الحرب الأميركية حيث كانت في أفضل الأحوال
تظهر الجنود من أصول أفريقية يطبخون، ينظفون، يقودون الشاحنات، لكنها لم
تفسح لهم المجال لكي يحاربوا في أفلامها.
غير أن شريطنا المختار أراد القول إن الرجال الأميركيين الأفريقيين
حاربوا الفاشية باسم الديموقراطية وهم ما زالوا مواطنين من الدرجة الثانية.
إعادة تفسير التاريخ
وهي إشكالية ومسؤولية كبرى، كما يقال «إعادة كتابة التاريخ» عبر الفن،
لاسيما أن ضحايا سانت آنا - دي ستازيما لا يزال البعض منهم أحياء، لذلك لا
ينبغي أن تكون إعادة البناء خاطئة، وهذا ما حصل فعلا عندما استفز عرضه في
إيطاليا جيوفاني كيبللوني الذي عاصر تلك الأحداث ويحترف السياسة حاليا،
والذي لم يتردد بوصف الشريط بأنه «تحريف للتاريخ»، وأيده في ذلك عمدة
القرية المنكوبة.
من جانب آخر، يملك مك برايد الحق في تفسير التاريخ، حتى لو لم يكن
تاريخه، فإذا كنت لم تعالج تاريخك بعد، دعني أعمل قصة عنه (هذا ما دعا إليه
بالفعل المخرج سبيك لي)، وأخلاقيا، لا يحق لأحد الاعتراض على نظرة الروائي،
أيا كانت مقاصده، فإن كان يحرّف التاريخ، فالتاريخ سيحرّفه أيضا.
القبس الكويتية في
29/07/2009 |