"لا
يغتفر" فيلم يفضح إشكالية الذات الإنسانية داخل مجتمع مفكك.
يبحث السينمائي عما يجذب إليه مشاهديه نحو القصة السينمائية
بكل ما فيها من تفاصيل، مع الحرص الشديد على دقة التوقيت في إعطاء
المعلومات للمشاهد. هذه الموازنة الدقيقة ترتبط كثيرا بأفلام الغموض
والجريمة والرعب حيث يتلقى المشاهد التفاصيل قطرة بعد قطرة مع تتابع
المشاهد وتدفق الأحداث، كما هو الحال في فيلم “لا يغتفر”.
تبدو المهارة، سواء في كتابة السيناريو أو في الإخراج، أكثر
تجليّا عندما يتم اختيار الأوقات الأكثر حرجا وحبساً للأنفاس في تقديم ما
ينعش رغبة المشاهد في الاكتشاف.
ينطبق هذا على فيلم “لا يغتفر” للمخرجة الألمانية نورا
فينغشدت، في هذا الإنتاج الأميركي الذي تبرز فيه الممثلة اللامعة ساندرا
بولوك منتجة أيضا، إلى جانب المنتج الإنجليزي غراهام كينغ والممثلة
والمنتجة الألمانية فيرونيكا فيريس.
المخرجة نورا فينغشدت
◄
مخرجة ألمانية من مواليد 1983.
◄
درست السينما في الأرجنتين وألمانيا وبدأت أفلامها بالظهور ابتداء من عام
2008.
◄
نالت ورشحت إلى العديد من الجوائز ومنها الترشيح لنيل الأوسكار. من أبرز
أفلامها: العثور على الشيء (2005)، أوزيت (2007)، دورفماتريس (2007)، إغماء
(2010)، بين السطور (2011)، ليتل براذرز (2013)، الرخصة
(2016).
أزمات طاحنة
يُفتتح الفيلم بلقطات تنبئ بغموض وتفاصيل مشوشة ما نلبث أن
ننتقل إثرها إلى ما بعد تلك الافتتاحية بعشرين عاما، حيث تستعد راث (ساندرا
بوبلوك) للإفراج الشرطي على خلفية حُسن السلوك، وحيث يكون هناك ضابط شرطة
يتولى مراقبتها خلال نيل حريتها المقيدة، لنكتشف أنه حكم عليها بالسجن
عقدين من الزمن بسبب قتلها شرطيا أثناء أدائه الواجب.
على الجانب الآخر هنالك الحياة المزرية التي تنتظر راث
وفيها تتجسم صورة نساء في مثل حالتها يعشن في مسكن جماعي، وعليها خلال ذلك
أن تجد عملا يوفر لها مدخولا تجابه به المصاريف اليومية.
وكأنك لا تشاهد فيلما أميركيا، بل ربما هي الصورة الواقعية
التقليدية للسينما في أوروبا الشرقية إذ لا شيء من البذخ الرأسمالي
الأميركي، ما عدا الإنسان المنسي المسحوق الذي يركض ليل نهار من أجل لقمة
العيش المرة، وها هي راث تعمل عملين ما بين مصنع للأسماك وجمعية لإيواء
المشردين بسبب إتقانها أعمال النجارة.
تحفر القصة السينمائية عميقا في مشاعر الاضطهاد والريبة
التي تلاحق امرأة لها ماض إجرامي، حيث ستخلص راث منهارة إلى أن لا مكان لها
في حياة المجتمع الذي تعيش فيه، معلنة أن لا فرق بين طباع الناس الخشنة
داخل السجن وما هو خارجه.
ثم ننتقل بعد ذلك إلى حقيقة تتسرب بنعومة في السياق الفيلمي
وسوف تتكرر من خلال مشاهد الاستذكار والكوابيس التي ترافق راث وهي تعود إلى
الماضي مع الطفلة كاثرين الصغيرة التي فارقتها منذ دخولها السجن ولا تعرف
مصيرها.
يتحول المكان إلى سجن كبير وتبدو فيه الشخصية مثل فأر
التجارب محاطة بقدرها؛ اللهاث من أجل اللحاق بموعد اللقاء الأسبوعي مع ضابط
الإفراج الشرطي وتذكيرها المستمر بأن لا حق لها في التقصي عن شقيقتها
بوصفها عنصرا خطرا في المجتمع ولا يسمح لها بالاقتراب من تلك الفتاة.
هذا المكان – السجن ينقسم بين السجن الحقيقي الذي خرجت منه
راث والمكان الآخر الذي لا يقلّ عدوانية عن المكان الأول، حيث يتوجب على
راث أن تتقبل الإهانة والاحتقار صامتة، وتلك هي صورة الاضطهاد والمرارة
التي تتذبذب فيها الشخصية باحثة عن خلاصها.
غير أن ضغط المكانين ما يلبث أن يذهب براث بعيدا إلى ذلك
المكان النائي، لكي تسترجع فيه شيئا من ذكرياتها، وخاصة ذكرياتها مع
شقيقتها الصغيرة.
مثل هذه الحبكات الفرعية يتم بثها بعناية في هذا الفيلم
بغرض تعميق الجرح الإنساني الذي يتم استشعاره من خلال شخصية راث، ولاحظ أن
ممثلة كبيرة من وزن بولوك قد ظهرت على مدار الزمن الفيلمي وهي بذلك الوجه
الذي يطفح بالحزن فكيف وهي تتلقى الركلات والإهانات من إحدى زميلاتها في
العمل وأمام جميع العاملين ووصمها بأنها قاتلة الشرطي البريء والمتسببة في
يتم أطفاله.
عند البيت القديم الذي غادرته قبل عشرين عاما إلى السجن
مباشرة تنثال ذكرياتها، لكن لاحظ التحول الدرامي والحبكة الجديدة التي
اشتغلت عليها المخرجة وفريق السيناريو، إذ تشاء الصدف أن يكون مالك المنزل
محاميا ويرحب بها بحسن الظن، ويسمح لها بدخول المنزل متعاطفا معها لأنها
تريد استرجاع ذكرياتها الماضية، لكن ذلك لن يسكت ما بداخله من شك في أن تلك
المرأة تحمل وراءها سرا، وهو ما سوف تعلن هي عن جزء منه فيما سوف يكتشف
المحامي الجزء الآخر، وبدافع إنساني يتبنى قضيتها في البحث عن شقيقتها
والعائلة التي تبنتها بعد دخول راث السجن.
وسنتوقف هنا عند محطتين مرت بهما راث خلال تلك المحاولة
اليائسة لأن تكون إنسانة طبيعية وترمّم خراب الماضي في داخلها، الأولى
ستؤدي بها إلى افتضاح أنها قاتلة مفرج عنها شرطيا وذلك من خلال العلاقة
الودية التي بدأت تتشكل مع زميل لها في العمل، لكنه ما يلبث أن يشي بها إلى
العاملين وتكون نتيجة ذلك ما سوف تتلقاه من سوء معاملة.
أما المحطة الثانية فتتمثل في عملها في النجارة لإنشاء مأوى
للمشردين، وهو الذي سوف يقودها إلى لقاء شاب مجهول، وما هو إلا أحد ابني
الشرطي الذي يفترض أن راث هي التي قتلته.
الممثلة ساندرا بولوك
◄
ممثلة أميركية من مواليد 1964
◄
حائزة على جائزة الأوسكار وغولدن غلوب وغيرهما من الجوائز.
◄رشحتها
مجلة تايمز عام 2010 واحدةً من 100 شخصية نسائية مؤثرة في العالم.
◄
في أواخر الثمانينات دخلت مسارح برودواي وعرفت منذ ذلك الوقت بقدراتها
التمثيلية المميزة.
◄
ظهرت بولوك في أكثر من 50 فيلما، فضلا عن المسلسلات التلفزيونية والأفلام
القصيرة، إلا أن أهم عشرة أفلام في مسيرتها هي: سرعة (1994)، وقت للقتل
(1996)، أمير مصر (1998)، سيدة الانسجام (2000)، مينيون – 2025، غرافيتي
(2013)، الجانب الأعمى (2009)، المشروع (2009)، الحرارة (2013)، أوشن – 8
(2018).
يقودنا ذلك إلى خط سردي آخر يرتبط براث متمثلا في ابني
الشرطي القتيل، حيث يحضّ أحدهما الآخر على الاقتصاص من راث على أساس أن
العدالة لم تأخذ نصيبها كاملا، وأنها لا تستحق ذلك الإفراج الشرطي بل
المكوث في السجن.
غير أن إشكالية الذات الإنسانية في أزماتها الطاحنة ما تلبث
أن تتشعب من منظور مجتمعي شامل؛ فالشخصيات الرئيسية كلها تقريبا ضحية
المجتمع والعائلة المفككة المضطربة التي أدت إلى إلحاق الضرر بأبنائها،
وبذلك يصبح الجميع ضحايا أو فلنقل إن الشخصيات المتضررة اجتماعيّا في هذه
الدراما هي الضحايا الأساسيون الذين دفعوا ثمنا باهظا.
شخصيات مأزومة
هناك شخصيتا راث وشقيقتها كاثرين (الممثلة السينغ
فرنسوازي)، ليستا إلا ضحيتي الأب الفاشل المدمن على المخدرات الذي ترك
العبء على عاتق راث بعد وفاة والدتها لتتكفل بتربية كاثرين، ولهذا فإن
مشاعر الأمومة فضلا عن مشاعر الأخوة هي الطاغية بينهما، والحاصل أن المشهد
الأكثر تكرارا والذي يحفر في عمق ذاكرة راث هو مشهد الهجوم على المنزل بقصد
إخراجها وشقيقتها منه تحت إشراف الشرطة.
أما تلك الذاكرة المرة فسوف تتردد مثل ظلال قاتمة في وعي
ولاوعي كاثرين الفتاة المتبناة التي تعيش في كنف أسرة أخرى وهي أيضا تبحث
لنفسها عن مخرج من المأزق النفسي الذي وقعت فيه.
في
موازاة هاتين الشخصيتين المأزومتين هنالك شخصيتان مقابلتان هما ابنا
الشرطي، حيث يحض الابن الكبير أخاه الصغير على الاقتصاص من قاتلة والدهما،
ولهذا نجده منذ بداية الفيلم منشغلا بمراقبة راث وصولا إلى التخطيط لقتلها.
أما بالنسبة إلى الأخ الأصغر فإنه أكثر عقلانية لكن كثرة الإلحاح عليه سوف
تدفعه إلى مراقبة راث، لكنه سوف يُصدم بأن شقيقه كان يدفعه إلى الانتقام
ليس حبا في والدهما كما يزعم بل لتوريطه في قتل راث ومن ثم دخول السجن فيما
يخون الشقيق مع زوجته.
الصدمة التي تحطم الشقيقان وتنهي علاقتهما إلى الأبد وتنتهي
بتشريد الزوجة وطفلها لا علاقة لها ظاهريا بحالة راث، لكن كتاب السيناريو
سوف يطورون المشاعر السلبية التي نشأت لدى الأخ الأصغر وهو الأكثر شعورا
بمرارة فقدان الأب بما يدفعه إلى الانتقام من راث من خلال اختطاف شقيقتها،
لكن يلتبس عليه الأمر فيختطف ابنة العائلة التي تؤوي كاثرين شقيقة راث ظنا
منه أنها راث نفسها.
ونلاحظ هنا أن مسارات الأحداث في هذه الدراما تداخلت فيها
مجموعة من الخطوط السردية لاسيما مع تطوع المحامي جون (الممثل فينسنت
دونفريو) للدفاع عن راث، أو على الأقل منحها فرصة البحث عن شقيقتها في إطار
مسعى إنساني لا أكثر.
في إطار مجريات الأحداث كنا قد ذكرنا أن المخرج وكاتب
السيناريو البارع هو الذي يتمكن من السيطرة على مجريات الأحداث والزمن الذي
يضخ فيه تلك المعلومات التي يكشف من خلالها عن اتجاهات شخصياته.
هنا تم صهر وتصعيد نزعة الانتقام بشكل بطيء بالنسبة إلى
الأخ الأصغر الذي كان قد عد موت والده موضوعا انطوى، بل إنه يكنّ له شعورا
بالغضب لأنه ربما يكون السبب في الحالة التي وصلت إليها والدته من خلال
إدمانها على المخدرات وكونها تعيش راهنا ما بين الموت والحياة.
هذه الدراما مثلت دائرة متكاملة مغلقة على الشخصيات وكان لا
بد من لحظة انفجار ولا نقول مرحلة تطهير نهائية تعيد الأمور إلى نصابها
وتكشف عن الحقائق المريرة.
من جهة أخرى هنالك والدا كاثرين بالتبني، وهما وحدهما
يحتلان مساحة من الأحداث لاسيما أنهما يعيشان قلقا متواصلا خوفا من ظهور
شقيقة كاثرين ومطالبتها بها، وهو ما يقع فعلا فالمواجهة الدرامية الحاسمة
سوف تظهر من خلال مشاعر مريرة، فالأم التي احتضنت تلك الطفلة صغيرة ورعتها
حتى صارت موسيقية بارعة تقابلها الأم والأخت التي ربتها صغيرة واحتضنها حتى
كبرت، وبذلك تجد كاثرين نفسها أسيرة القوتين اللتين تجذبانها كل في اتجاه،
فهنالك الشقيقة الكبرى التي ترتبط معها بذكريات طفولة متشابكة لم تعد حاضرة
في ذكرياتها، وهنا في المقابل الوالدان اللذان أنشآها وكبرت في حضنيهما
وتحت رعايتهما.
الدراما الفيلمية
لا يكتفي فريق كتاب السيناريو في هذا الفيلم بحدود تلك
الدوائر التي تدور فيها الشخصيات وفي كل مرة تكتشف حقيقة جديدة، بل إنه
يذهب إلى بث حبكة فرعية أخيرة تتمثل في الفضول الذي يدفع إيميلي (الممثلة
ايما نيلسون) -وهي شقيقة كاثرين في إطار التبني- إلى البحث عن السر الذي
يتهامس به والداها، والمرتبط بحقيقة شخصية كاثرين، وهو ما سوف تكتشفه تباعا
ومن ذلك تعمد والديها إخفاء كافة الرسائل التي كانت تصل إلى كاثرين من
شقيقتها وهي في السجن، وكل همها وقلقها من تلك المراسلات الاطمئنان على
كاثرين لا غير وهو المطلب الرئيسي بالنسبة إلى راث خلال لقائها الأول مع
الأب والأم اللذين تبنيا كاثرين.
كثافة الأحداث وتنوعها في هذه الدراما الفيلمية ربما تصدق
عليهما مقولة الناقد أودي هندرسون في موقع رجر إيبيرت الشهير لنقد الأفلام،
فهو يرى هذا الفيلم كأنه ثلاثة أفلام تم حشرها في فيلم واحد، وذلك بسبب
وجود مرويات داخل القصة السينمائية كل منها تحيل إلى شبكة سردية ونوع من
الصراع بين الشخصيات، ومن وجهة نظر هذا الناقد أن القصة السينمائية بدت
متشظية ومتعبة في هذه الدراما المتصاعدة.
القصة ما تلبث أن تتشعب من منظور مجتمعي شامل، فالشخصيات
الرئيسية كلها تقريبا ضحية المجتمع والعائلة المفككة
أما إذا ذهبنا إلى الأسلوب الذي اشتقته المخرجة لتتويج تلك
الدراما بحسب النهاية التي تريد أن تتوج بها كل تلك الخطوط الدرامية
المتقاطعة، فيمكننا التوقف عند عملية الاختطاف التي تعرضت لها إيميلي ظنا
من الخاطف أنها أخت راث، وبهذا تتعقد القصة الدرامية لاسيما وأن التحول قد
وقع عندما قررت راث أن تعرض نفسها إلى الخطر في مواجهة شخص مسلح، في وقت
كان والداها يحضّران أمسية موسيقية لكاثرين.
أجواء التقلب في هذا التتابع الأخير للمشاهد واللقطات كانت
علامة فارقة في هذه الدراما الفيلمية.
من جانب آخر لا بد من التوقف عند العناصر الفنية والجمالية
التي قوّت هذه الدراما وجعلتها بهذا الشكل الذي شاهدناه، ومن ذلك سنتوقف
عند مدير التصوير الذي سبق أن نال جائزة الأوسكار، وهو غوليرمو نافارو
(مواليد 1955) الذي عزز كافة العناصر القوية لجماليات الصورة، ومن ذلك
مشاهد الحركة والتنوع الكبير في المكان وأعمال تفصيلية ظهرت فيها بصمته في
مجال إدارة التصوير، حيث سبق له أن أدار تصوير العشرات من الأفلام الطويلة
والقصيرة والمسلسلات.
فيما أكمل عناصر الصورة المؤلف الموسيقي الألماني المرموق
هانس زيمر الذي سبق أن نال جائزة الأوسكار عن موسيقى فيلم “الأسد الملك”،
وهو مؤلف موسيقي يتميز بحسه المرهف ومعرفته دواخل الشخصية والتعبير عنها
فضلا عن أنه أسقط الكثير من الجوانب الحسية وهو يتأمل في مصير الشخصيات وهي
تواجه أقدارها. وفضلا عن جائزة الأوسكار سبق لزيمر أن نال ترشيحات مهمة في
مسابقة غولدن غلوب ومسابقة غرامي وغيرها.
كاتب عراقي مقيم في لندن |