برحيل المخرج السينمائي السوري عمر أميرالاي يوم السبت الماضي تطوى
صفحة نافرة
واستثنائية في السينما السورية، لم تضاهها صفحة أخرى من حيث الشكل
والمضمون. وربما
تطوى معه صفحة مثيرة للجدل يقف وراءها الجيل المؤسس للسينما السورية
الجديدة.
فأميرالاي الذي تندمج ذكراه في هذه السينما دون غيرها، خلق اتجاهاً خاصاً
به قائماً
على المعاينة العيانية بالاعتماد على الحدس الملهم دون غيره، وكأنه لم يكن
يكفيه
السيناريو المكتوب على الورق. وربما يكون لهذه الأسلوبية الأثر
الكبير في تكوين
رؤيته الفكرية وتأكيدها عن واقع ثابت لا يتخلخل، إلا بعد نقله إلى الشاشة
الوثائقية
وتفكيكه إلى جزئيات تكونت منها سينما هذا المخرج الجسور وامتدت على حوالى
عشرين
فيلماً.
ربما لم يكن يكفيه أيضاً هذا الكم من الأفلام على مدى حوالى أربعين
عاماً من
الشغل المتواصل، فثمة أشياء كثيرة كان يمكن أن يقولها أميرالاي، وهو لم
يتوان عن
ذلك، اذ ربما تصلح عناوين أفلامه من بعد ذلك مساعدة في تفكيك وتشكيل عوالمه
الشخصية
أيضاً ومواقفه وهو يعيد ضبط اللعبة الواقعية بلعبة أشد مضاء من الواقع
نفسه، وربما
أكثر مكراً ودهاء منه. وهنا بالضبط تكمن المسألة برمتها، فهذا
الاحساس اليقيني
بضرورة التغيير من خلال الصورة، هو ما دفع في جزء كبير منه عمر أميرالاي
إلى رسم
تصورات مسبقة عن كل عالم قرر ولوجه ونقله بسرعة فائقة بوصفه استعارة عن
واقع متردد
وخجول، ويخشى الكشف عنه أو تعريته.
أسلوب حياة
وما كان يفعله اميرالاي هو بالضبط ليس إلا الكشف متيقناً بسريرته و
«سوريته» من
لعبة الكشف ذاتها، وقد أوغل فيها بحيث إنها أصبحت تشكل أسلوب حياته وتزينه،
وليس
مجرد أسلوبه السينمائي الذي ستفتقده السينما السورية في واحدة من أدق مراحل
تطورها
وهي مصحوبة اليوم بتحولات عاصفة لا يمكن الجزم بما ستؤول إليه
أحوالها، وهي تدخل في
سرداب الكتابة الضيقة والمأزومة. من المؤكد أن هذه الصيغة من الكتابة
ستفتقد أداة
الجزم والقطع الرؤيوي التي تكون منها عالم عمر أميرالاي، حتى وإن لم تعامل
أفلامه
أبداً بالطريقة التي قوبلت بها أفلام القطاعين العام والخاص
السوريين على امتداد
سنوات حفلت بالكثير من المنحنيات والتعرجات والكبوات والتي بدا هو فيها
متحصلاً على
هوية سينمائية خاصة به، منذ أن كان طالباً دارساً للسينما في فرنسا على يد
جان بيير
ملفليل، حيث شهدت باريس عام 1968 على انقداح شرارة الوعي
اليساري في ذهن ووجدان
الطالب الشاب. وحتى عودته مطلع سبعينات القرن الماضي ليجرب أدواته الأولى
في مجرى
وسد نهر الفرات.
ربما هذا ما دفعه حينها لينزل الى الشارع مع الطلاب مدفوعاً بحماسة
السينمائي،
صاحب العين المتوقدة، بكاميرا يكتشف لاحقاً أنها كانت مفرغة من الشريط
السينمائي.
مجرد كاميرا تحمل الخدعة وتكشف لعبة
السينما نفسها بتصور ساخر ومؤلم عنها. ويقيناً
أن أميرالاي الشاب كان حينها يبحث عن المفكر في السينمائي، لا
العكس، فقد شكلت تلك
الأيام العاصفة الانعطافة الأكبر في مصير المخرج الذي لم يكف من حينها عن
طرح
الأسئلة عن واقع، متورم، وصدئ، كان يؤمن هو بسريرته الفاحصة والمتأنية،
بإمكان
تنقيته وملئه بالهواء النقي حتى من خلال عدسة كاميرا مفرغة من
الشريط الخام. هذا
الانقلاب في التفكير هو ما رسم فكر أميرالاي المستقبلي، ومن دونه لم يكن
ممكناً
التوغل بدراية منقطعة النظير في عوالم أفلامه كلها، اذ بدا أن كل فيلم من
أفلامه هو
تتابع في الكشف والنقد والتعرية لا حواجز أمامها، فكل فيلم على حدة هو بساط
بحث
وتدليل وتورية في عالم يتقلب بثبات أمام الكاميرا المتشيطنة
التي ميزت أميرالاي عن
سواه من المخرجين السوريين.
سيكتب الكثير عن أفلامه منذ أن أطلق فيلمه الأول «محاولة اولى عن سد
الفرات»
وصولاً إلى فيلمه الأخير «طوفان في بلاد البعث» إذا ما أخذنا في الاعتبار
أن فيلمه
عن نجمة السينما السورية في سبعينات القرن الماضي من دون منازع
«اغراء» لم يكتمل
بسبب رحيله المفجع، فإن سؤالاً واحداً متبصراً يطلق من حول هذا الفيلم
مروراً
بالطبع بـ «الحياة اليومية في قرية» و «الدجاج» و «طبق السردين» و «ورائحة
الجنة»
وأفلام المرحلة الفرنسية التي أنجزها عن
شخصيات مثل بنازير بوتو وميشال سورا ورفيق
الحريري، وهو ما كان يخفيه أميرالاي في فيلمه الجديد غير
البازغ عن امرأة شهد لها
بشجاعتها وتهورها وهي تمنح السينما السورية في عقدها الذهبي أفضالاً لم تكن
تحلم
بها حتى بعد مرور أكثر من عقدين على تخفيها، وليس اعتزالها. فواحد من أفضل
أفلام
المؤسسة العامة للسينما («الفهد» لنبيل المالح) قامت هي بمنحه
تأشيرة مرور، حين لم
تثر رواية حيدر حيدر الناس من حولها. ويقيناً أن أميرالاي بانكفائه على
معضلة إغراء
وتخفيها بقرار من الرقيب الاجتماعي المتنشط في بلاده هذه المرة، كان سيدفع
بأسئلته
المستغرقة في كنه وواقع السينما السورية نفسها إلى حدودها
القصوى، فإغراء لم تكن
مجرد جسد عابر في السينما السورية... كانت سياسة ومستقبلاً ورؤيا مختلفة،
بغض النظر
عن أهمية ومستوى كثير من الأفلام التي عملت فيها. هل يعني هذا أننا هنا كنا
ننتظر
من أميرالاي التدقيق بالمحتوى الحياتي لهذه النجمة الآفلة؟ لا
نعتقد، هذا لم يكن
همه، فالسينمائي الذي عرف ببصيرة نافذة كيف يصنع أفلامه كلها، كان يعرف
بسخريته
المرّة امكانية التجديد من قيمة الفيلم المثير للجدل الذي صنعه عن رئيس
الوزراء
اللبناني رفيق الحريري. كان يحلو له أحياناً أن يسمي فيلمه هذا
«الرجل ذو الحذاء
الحديدي» بدل «الذهبي» في محاولة منه لخلق توازن كاد يميل لمصلحة الرئيس
اللبناني
حينها، ولهذا ربما كانت ستبدو النجمة السورية في «اغراء تتكلم» امرأة
مختلفة عن كل
ما عرف عنها من قبل، وبخاصة انها لم تقرر البوح إلا أمام
كاميرا المخرج
الراحل...
مخرجون سوريون شباب: صمته يهددنا
هنا آراء لبعض السينمائيين السوريين الشباب، وبعضهم عمل معه وتتلمذ
على يديه أو
رافقه في سنتيه الأخيرتين متقرباً ومتعلماً وبخاصة أن أميرالاي كان يعد
بإطلاق معهد
لتعليم السينما، وقد آثرنا الانصراف إليهم دون غيرهم، فأصدقاؤه والمقربون
منه قالوا
ما يمكن قوله في وسائل الإعلام المختلفة:
محمد عبدالعزيز: صمته يهددنا
>
أعتقد أن عمر أميرالاي قال في الزمن الصعب ما لا يقال، وهو
ربما كان الأكثر
صدقاً بين الجيل المؤسس والجيل الحالي والجيل القادم، ولا أعتقد أن أحداً
في
المستقبل القريب سيكون بوسعه أن يملأ مكانه في السينما التسجيلية. وبفقدانه
نكون
نحن قد فقدنا صوتنا الذي لم نستطع أن ننطق به كسينمائيين، لأنه
كان الأقرب إلى ضمير
الفئات المسحوقة والحريات. ومن يقف عند تجربته يكتشف أنه عمل بصمت شديد،
وهذا الصمت
يهددنا لأنه أبلغ من كل نتاج سينمائي سنقوم به. عمر أميرالاي مرشد الصورة
وطوفان
حسن النية.
الناقدة رندة الرهونجي: عمر كان بطل أفلامه
>
لا أعلم لماذا كان وقع خبر رحيل عمر أميرالاي مؤلماً عليّ بهذا
الشكل؟ ربما
لأن أميرالاي يشكل مثالاً فريداً ونادراً للتطابق التام بين الإنسان
وقناعاته
الفكرية والأخلاقية، فأتت الخسارة مضاعفة. برحيل عمر أميرالاي غادر سورية
والسينما
العربية فارس سينمائي عرف دائماً كيف يكون مخلصاً لمعركته، ونبيلاً في
اختيار
أسلحته، ومبدعاً في رمي سهامه. قبض منذ عام 1970 على كاميرا
حاذقة، ذكية، وثّابة،
وعميقة معلناً بداية مشروع سينمائي حرّ يقدّم المعنى الحقيقي المرتجى
للسينما
التسجيلية. حين تجلس مع عمر أميرالاي تكتشف أن قراءته العميقة للواقع
الاجتماعي
وتأمله الهادئ للبيئة السياسية التي أفرزته ليسا إلاّ القليل
القليل من كامل فكره
ورؤيته لحقيقة الواقع ولمهمة التوثيق. فعمر أميرالاي على خلاف مبدعين كثر -
تشعر
بعد لقائهم ببعض الخيبة - يجعلك تتلمس حقيقته الناصعة كصاحب مشروع ابداعي
متكامل
يقدمه على دفعات في تأملات تفصيلية دؤوبة وليس من خلال عمل
واحد يقول فيه بضربة حظ
ابداعية كل ما في جعبته. رحل عمر اميرالاي تاركاً وراءه عشرين فيلماً
تسجيلياً
وشخصيات حقيقية غير ملفقة وقفت أمام كاميرته الصارمة والمحبّة لتوثق تفاصيل
عيشها
وحياتها ولترسم مشهداً قاسياً ببؤسه أقرب الى الخيال منه إلى الواقع. فقد
برع هذا
السينمائي من خلال الصورة في تفكيك مفردات البيئة والمكان
والتقاط تفاصيل حياة
الأشخاص ليعيد صياغتها من جديد داخل بناء درامي خاص ينسجه ببطء وهدوء
راسماً لوحة
سينمائية ليست سوى شاهد صادق على عصر وزمن. وربما في هذا الأسلوب الخاص
تتكثف هوية
سينما عمر أميرالاي التي أخلصت دائماً للشرط التسجيلي لكن من
دون أن تبتعد عن
التركيب والبناء الروائي. عمر أميرالاي كان بطل أفلامه، كان غائباً بصورته
وحاضراً
في كل عناصر عمله، يقبض على فيلمه بإحكام ويسيطر على عناصره الفنية بقوة
تجعلك لا
تفلت للحظة من قبضته الإبداعية. حاضر هو في زاوية رؤيته
للأشياء، وخياراته،
وانحيازه، وإيقاعه، وصوته الذي يسأل الشخصيات ويحاورها ويلاحقها ليترك كل
الإجابات
في النهاية مفتوحة أمام صورة تقول هي الكلمة الأخيرة. حين سألته مرة في
مقهى بيروتي
يشرف على البحر عمّا إذا كان يعتبر نفسه نزيهاً مع شخصياته
البريئة التي لا تعرف
بالضرورة كيف سيتم ترتيب وتجميع وثائق حياتها وبوحها التي خزنتها كاميرته
وما
المؤدى منها، أجابني وعينه على البحر «ومن قال إن شخصياتي بريئة؟». حقاً
كيف لي أن
أستغرب جواباً كهذا من مخرج كان يملك إيماناً مطلقاً بأن السينما التسجيلية
داخل
لعبة الحقيقة والواقع قادرة أن تجعل أولئك الأشخاص، الذين
حوّلهم بحب كبير إلى
شخصيات لا تنسى، تتواطأ لكشف المستور والانتقام لنفسها من واقع هو الذي لم
يكن
نزيها معها؟
رامي فرح: تيتمت مرتين
>
تجربتي مع عمر خاصة، لأنني درست على يديه في المعهد العربي
للفيلم في عمان.
لقد بدأت علاقتنا في عام 2003 حين قدمت له فيلمين قصيرين لي ليعطيني رأيه
فيهما.
وقد وجدت فيه ذلك الشخص الذي يرى بالمعنيين السياسي والاجتماعي وليس الفني
وحسب.
وعمر يعرف كيف يقرأ في الحاضر والتاريخ
وكيف يعمل للمستقبل، وأعتقد جازماً أنه
المعلم الوحيد لي الذي دفعني للبحث عن الحقيقة. وهو بالنسبة
إلي أب، كان يناديني (بابا)،
وللأسف فأنا من بعد رحيله تيتمت مرتين.
طلال ديركي: فكر بضميرك أولاً
>
تعرفت إليه في شكل شخصي منذ عامين، وأعتقد أنه يختلف عن أفراد
جيله بأنه
يشارك الجيل الجديد الاستماع والإنصات من دون أن يحاول أبداً فرض سيرته
وتجاربه
الشخصية على أحد. هذه الصفات لها علاقة بالتواضع ومحبة الآخر ونابعة من
ايمانه بأن
الجيل الجديد لديه القدرة على الغوص في تفاصيل الواقع والبوح
بمكنوناته. وهو من كان
يردد دائماً على أسماع الجيل الجديد: لا تفكر بأمور الرقابة، فكر بضميرك
أولاً،
لأنه هو من سيبقى معك وليس الرقيب.
الحياة اللندنية في
11/02/2011
الأسوأ مجتمع يسيطر عليه أفراد لا
يحلمون
دمشق – رنا زيد
«الإنسان فانٍ لحسن الحظّ، وأثره باقٍ لسوء الحظّ». هكذا، باستيعاب
مرحٍ للفناء،
دخل المخرج السينمائي عمر أميرالاي (1944- 2011)، بعد رحيله المفاجئ، رحلة
شائقةً
جديدة من الوجود بقوله، وبما تركه سينمائياً. وعلى رغم رؤيته أن أفلامَه
الوثائقية
ليست تأريخية، فإنه يتابع في حوار كنت أجريته معه قبل سنوات أن
تلك الأفلام لا تعدو
كونها «مجرّد شهادات عن زمن نكد، من وجهة نظر سينمائيّ نكد، ستتيح حتماً
لمن يقرؤها
مستقبلاً أن يتحسّر على أمثالنا، لكآبة العالم والعمر»، هذا الفيلسوف
القابع بين
الكلمات حرص على (الألم – المرح) كثيمة لمشهده، فحلّل أدقّ
التفاصيل في الواقع.
ولعل دراسته للمسرح قبل السينما في معهد
«IDHEC»
في باريس، قد أسبغتْ على شخصياته
التسجيلية طبيعة إيمائية لقول الأشياء في قُرابة العشرين
فيلماً، أنجزها بِحُرّية
وغواية.
لِمَ كل تلك السخرية؟ نسأل صاحب فيلم «الدجاج 1977»، فيجيب: «لأنها
مرض مُعدٍ
وضروريّ لإشاعة جوّ من الحرارة والألفة، اللتين غالباً ما تُذيبان جليد
التحفّظ
والتهيّب المعتاد في علاقة المخرج التسجيليّ بأشخاص أفلامه الواقعيين».
مفتاح
الدخول إلى أعتى الشخصيات، أمسكه أميرالاي لمواجهة المفاجآت
خلال التصوير، فيحدث أن
تَحرُن شخصيةُ فيلم ما، أو تقاوم إغراء الدخول في لعبة المرح والسخرية مع
المخرج،
من هنا نجده يعتبر «التساخر» كما يقول حرفياً: «مدخلاً مُهمّاً لتوليد تلك
الطّاقة
الإيجابية من التواطؤ والتناغم الحرّ المُتفلّت من عوارض الكلفة والمخاتلة
عند
الطرفين»، هذه السخرية وشَت بمرارة وخيبة نزيه الشهبندر، بطلَ
فيلم «نور وظلال» كما
يرى مخرج الفيلم (بالشراكة مع محمد ملص، أسامة محمد/ إنتاج عام 1994)، فقد
قضى
الشهبندر العمر كلّه محاولاً تحقيق حلم شخصيّ بصناعة سينمائية وطنية، عجزت
عن
القيام بها ادّعاءات دولة.
الأكثر صدقاً
من أين يأتي كل هذا الضوء الكاشف للواقع؟ ليس هناك في الفيلم الوثائقي
ما هو
اعتباطيّ عند مُنجِز «الحياة اليومية في قرية سورية» (1974) مع الكاتب
السوري
الراحل سعد الله ونوس، فهو ضد ترك الكاميرا تهيم على وجهها في فضاء الواقع
الفسيح:
«هي
دعوة منكرة وجاهلة، مآلها إنتاج صور غبيّة، لا بل إنّ صور هذه الكاميرات
أحياناً تبدو أكثر فصاحةً وتعبيراً ممّا تُتحِفنا به أفلام بعض الشباب
الأغرار
الذين يستخدمون كاميراتهم كمن ينزّه كلباً في العراء لقضاء
حاجة»، ليست الكاميرا
مجرد أداة أو لعبة مراهق عند أميرالاي بل: «امتداد طبيعيّ لعين السينمائي
المجرّدة،
وعينه الرّقمية، فيها يلتقي البصر بالبصيرة لمن لا يعلم»، وما يتأتّى من
مصادفة
لبعض السينمائيين التسجيليين أثناء التصوير كلحظات خاطفة
استثنائية، ليس هو الغاية
في مفهوم فنّ أميرالاي، فهذا لا يعدو كونه «لحظات عابرة لا يُعوّل عليها في
تركيب
عمل فنّي إبداعيّ مُعقّد». كل هذا يجري حول «الكائن البشري» باعتباره محورَ
الحياة،
يقول: «مسعاي الأوّل في أفلامي هو محاولة اكتشاف سرّ ذلك الكائن الرائع
والمريع،
بالوقوف إلى جانبه مقهوراً مغلوباً على أمره من ظلم «أخيه»
الإنسان، ومنتقداً إيّاه
جاهلاً متخلّفاً مستسلماً لقدره». وفي المقابل، ليس أساسياً أن تُقاس
شخصياته
الفيلمية على أحداث المجتمع العامّة، ومن هنا يقتصّ أميرالاي لذاته ركناً
سينمائياً
خاصاً: «الفرد لا يُمثّل جماعة بشريّة ما إلاّ في حالتين: الأولى
ديمقراطية،
والثانية شمولية. في الأولى، تنتخب الجماعة الفرد، وفي
الثانية، ينتخب الفرد
جماعته».
من هم محدودو القدرة على خوض مغامرة الإبداع، لا ينتمون إلى صِنْف
«الفنّان شجاع
حكماً» والملتصق عند أميرالاي بـ «المغامرة القلقة والمخيفة أحياناً أيّاً
كانت
نتائجها». وهنا تخضع ذاكرة المبدع لما يُهدّدها في الدول النامية أمنياً:
«يخشى
المرء على ذاكرته من أن تنقلب ضدّه في لحظة من اللحظات فتصبح
مصدر إدانة له من
الآخرين، أو لسبب آخر ذاتيّ يجعله يطمس ذاكرته اللعينة هذه، أو يمحوها من
الوجود
اتّقاءً لشرّها».
عنف يومي
استقرى المخرج السوري الراحل في لحظة انفجار مُعلَن، قبل أشهر من
اجتياح إسرائيل
للبنان عام 1982، الحالةَ اللبنانية العامّة المتجسدة على شكل «عنف يوميّ
في
البداية، ما لبث أن تحوّل مع الوقت إلى عنف عاديّ واعتياديّ» كما يقول،
فكان على
شخصيات فيلم له حققه آنذاك، متابعة حياتهم اليومية بالعيش على
خطّ التّماس الوهمي
والفعلي الممتدّ بين الحياة والموت، وهي بالتحديد مساحة شخصية (الحاج علي)
المركزية: «ذات الفلسفة الخاصة بالبقاء،
على خلفية آخر عصب في لبنان (التجارة)،
التي لا مكان فيها للخلافات العصبيّة، إيديولوجية كانت أم
طائفية أم مذهبية»،
الفيلم استشعر آنذاك الحدث الآتي قبل حدوثه.
نافذة منزل أميرالاي المتواضعة في دمشق، خلال نشأته في حي الشعلان،
ربّته على
الفضول، فحمل النافذة معه طوال سِني حياته، وأصبحت لاحقاً كاميرا. فما سمة
أيام
جيله؟: «كان جيلاً مؤدلجاً، يحمل أحلاماً وتطلعات، تبيّن له في ما بعد
أنّها كانت
جملة توهّمات، جيل افتخر طبعاً بالانتماء إليه لأنّه كان جيلاً طوباويّاً
هماماً»؛
آمن أميرالاي بأن التاريخ لا يصنعه في النهاية إلاّ القوم
الحالمون، محقّين كانوا
أم مخطئين، من إسكندر ذي القرنين إلى ماركس إلى بيل غيتس، وهذا ما حرّكه
قُبيل
وفاته بأيام ليكون أول المُوقّعين على بيان التضامن مع «ثورة الشباب» في
تونس ومصر،
باقياً على ظنه أن: «توقّف الحلم يوقف عجلة التغيير الأهمّ
والأخطر في الحياة ألا
وهي الأفكار»، فالأسوأ في المجتمع أن يسيطر عليه أفراد لا يحلمون، سواء في
السياسة،
أو العلم، أو الاقتصاد، أو الثقافة. وهو لذلك لا يستطيع رؤية: «إلاّ
حالمِينَ ثلاثة
بتغيير العالم (المثقف والعالم والسياسي)، تلك البنية التحتية
الحلمية، جعلته في
أيامه الأخيرة، كما يقول المُقرّبون منه، طائراً من الفرح بشعبَيْ تونس
ومصر.
الحياة اللندنية في
11/02/2011 |