عمر أميرلاي الفنان العنيد، توفي عن 65
عاماً، في دمشق في5/2/2011.
ربما لم ينم في أيامه الأخيرة مجدداً
شبابه بما يشاهده، ربما باغته التعب متابعاً الحدث الجلل الذي
يجري أخيراً فوق
الأرض العربية، في تونس ثم في مصر. ما كان ينتظره، ويحاول صنعه وبناءه،
لبنة لبنة،
فيلماً فيلماً، على مدى عشرات السنين مع حفنة من المغامرين، المؤمنين
بأضواء بداية
حياتهم، تلك الأضواء التي أخمدتها هزيمة ال67 وهزائم أخرى،
أصعبها وأشدها وطأة
هزيمة ذات المواطن في أرضه، وغبن الحسرة على أحلامٍ هشمت الوهمَ منها
مخارزُ واقع
لم تطفئ الضوء في العين.
عجيب كان إصرار عراب السينما التسجيلية السورية،
وإيمانه بمستقبل أفضل لا بد آتٍ رغم ما يبدو من تشاؤم في الظاهر يصبغ
أفلامه
التسجيلية الراصدة لتردي وتردي واقع ما فتئ يزداد انشراخاً،
منذ أول أفلامه: محاولة
عن سد الفرات 1972؛ الفيلم الذي "أعاد توثيقه" بفيلم الطوفان في بداية
الألفية
الثالثة، معيداً تقييم ذاته أولاً فكراً وممارسة، قبل أن يفند تاريخ وطن.
الرأي،
هي الكلمة الأبرز، المجاز الأبلغ الذي يلخص ويكثف أميرلاي فكراً وإنتاجاً
إبداعياً،
قولاً وفعلاً: في تصريحاته المباشرة وفي "نواديه" السينمائية التي ساهم في
تأسيسيها
وتفعيلها في بلده سورية ابتداءً من النادي السينمائي في دمشق أواسط سبعينات
القرن
الماضي حتى بداية الثمانينات، ومساهمته مجدداً في تأسيس اتحاد
نوادي السينما في
سورية 1982.
الرأي، وما يتبع تلك الكلمة العجيبة: الحرية،
الاستقلالية، الحوار، مناهضة القمع، قمع السلطة الرسمية، قمع
السلطة الاجتماعية،
قمعُ عنجهيةِ التخلف، وتجبر أحادية الرأي، صناعة أفلام كضربات حداثية
متعاقبة على
جدار سميك عالٍ مصمت بدا أنه لا ينهار، الضربة تلو الضربة والفيلم تلو
الفيلم، في
أشد الظروف صعوبة، فكرياً وأمنياً؛ لقد وثق أميرلاي الحرب
اللبنانية مواجهاً
بكاميرته الرشاشات والبنادق، لم تغيبه وطأة أحداثها ولم تغمره ولم تبعده عن
قول ما
يريده هو ذاته، لم تردعه البندقية كما لم يمنعه الرجل المتسلط بزيّ شرطي،
أو بلباسٍ
مدني يلاحقه، عن تصويب كاميرته كمشرط يزيل أورام مجتمعه مصوباً
في كل اتجاه، وراءً
أماماً، يميناً يساراً، إلى الأعلى وإلى الأسفل.
في فيلم "الدجاج" الذي أنجزه في
أواسط السبعينات خالف أميرلاي الآراء النضالية السائدة وخرج
إلى قرية سورية تعتاش
على تربية الدجاج شاهراً كاميرته في وجه الإنسان العادي، مطاولاً بالسخرية
المريرة
منه تخلفه وجهله، سكونه وتخاذله، انكساره وتكسيره لكل بارقة محتملة،
حيوانيته،
"دجاجيته" إذا حاولنا لغوياً مجاراة سخريته سينمائياً... واضعاً
"شخصيات أفلامه" في
خطة سينمائية محكمة. "متطرفاً" حرّك شخصياته، ثبّتها، أطرها في مدجنة،
محققاً ذروة
تصعيدٍ كثيرون اعتبروا أنه وصل به إلى مشارف سادية سينمائي -كما يأخذون
عليه أيضاً
في تجربته اللبنانية، وفيلمه مثير الجدل "الطوفان"- لكن جواب أميرلاي عن
كل ذلك،
وردّه، كان سينمائياً في فيلمه أيضاً "الدجاج"، عندما تدخل متعمّداً في
اللعبة
السينمائية بكل ذاته بأكثر الطرق فجاجة: فجّر دجاجة أمام كاميرته الراصدة،
تطايرت
أشلاء وريشاً، محولاً كل عدوانيته الشخصية إلى ما تعنيه
الدجاجة وما تشترك به مع
الشخصيات "الموثقة" مصدراً حكمه الحاسم عليها، معبراً عن غيظه العميق
وخذلانه من
قبل من يحاول إنهاضهم، وقاصداً ربما: "ما باليد حيلة" لو استطعت لفجرتهم
أيضاً.
شعرية قاسية حسمت إبداعية السينمائي التسجيلي عمر
أميرلاي ووضعته على مساريْ إنجازين كبيرين: فعمر اختار السينما الوثائقية
عازفاً عن
الروائية، واضعاً نصب عينيه ترسيخ هذا النوع كوسيلة آمن بها للحديث عن
مجتمعه كما
يراه، ولكنه أيضاً ومن جهة أخرى، ارتقى بعمله وأوصله كما كبار
التسجيليين إلى درجة
الإبداع الصرف، مرسخاً كل ذلك كمفاهيم لها ما يثبتها على الأرض عند أجيال
جديدة من
السينمائيين الشباب وغير الشباب، ممن وافقوه أو اختلفوا معه في "الرأي"
مصعداً على
الدوام ما تعنيه "الرأي" أيضاً: رصد الواقع من منظورات مختلفة... وجهات نظر
متناقضة ..تمرد.. وصولاً إلى الثورة.. مروراً بفيلمه
عن المسرحي سعد الله ونوس و فيلم عن
رفيق الحريري... وفي النهاية الفيلم الذي كان يستعد لإنجازه بعنوان "إغراء".
واليوم بعد أن رأى النار توقد من جديد؛ غاب عمر أميرلاي الذي طالما
استمات موقظاً بصيص الذاكرة في مشاهدي أفلامه، كي يحفاظ على أضوائه القديمة
التي
خذلها سد الفرات.
الجزيرة الوثائقية في
06/02/2011
عمر أميرلاي : رحيل العدسة الجارحة
فجر يعقوب - دمشق
رحل عمر أميرلاي فجأة دون مقدمات . رحل صاحب (
الحياة اليومية في قرية سورية ) باقتدار من دون أن يشعر للحظة بخيانة
الفيلم
الوثائقي له، فقد أخلص له ككائن حي، كما لم يخلص له أحد مثله ، وكأنه لم
يكن مدربا
على سواه . لم يكن يملك أميرلاي في ذلك سوى حجة الاخلاص لهذا النوع الذي ظل
حتى وقت
قريب عرضة للاهمال والتغييب. وإن كان أميرلاي قد أسس بحضوره لفيلم يقيم في
الذاكرة
التوثيقية العربية، فإنه يؤسس بغيابه لنقطة تحول ستعيشها السينما الوثائقية
السورية
التي لم تعرف مخرجا آمن بها كما هي حال أميرلاي صاحب الفطنة الخاصة ،
ومجموعة من
الأفلام المتفردة . عاش أميرلاي تحولات كبرى منذ أن كان طالبا في فرنسا ،
وقد شهد
بأم عينه ثورة الطلاب فيها ، وربما كما يشير هو في أمكنة أخرى ستكون هذه
الثورة من
شدت انتباهه نحو أهمية العين الوثائقية في اللحاق بالتطورات والسعي نحو
"خرزها"
واعادة توجيهها في الحياة الواقعية، وهو يسبغ عليها أفكارا خلاقة ومعينا
من
التركيب الحر كما شهدنا عليه منذ بداياته الأولى .
الحياة
اليومية في قرية سورية
وأميرلاي الذي بدأ مشواره مع ( محاولة عن سد الفرات )
لم يتوقف للحظة عن تأجيج مشروعه الوثائقي بما يكفي القول إنه واحد من صانعي
مجد
هذه السينما، حين لم تكن تغري كثرا من حولها، فضلوا العيش مع لعبة الممثل
والاضاءة
والديكورات، أما هو فقد اختار تجنب كل تلك المسميات لاعتقاد خاص أنها قد لا
تعرف
الإخلاص، وإنها في مرات كثيرة يمكن أن تجيء راوغة وخادعة ، ولهذا انصرف
بيقين لا
يعرف الفداحة والخسران نحو تنطيق المآلات الواقعية لكل الشخوص الذين مروا
على
أفلامه ، وأمام عدسته . في ( الحياة اليومية في قرية سورية ) ثمة حشود من
الصوفيين
والدراويش الذين لا يمكن مشاهدتهم سوى في فيلم جسور من هذا النوع ، ففي
المآل
البصري يمكن لهؤلاء الدراويش الاجتماع على الهامش درجة الإعجاب الهستيري
بالطرق
الخاصة بهم، ولولا هذا اليقين الذي ميّز سينما أميرلاي، لما أمكن البتة زرع
هذه
المحاولة في جسم فيلم ما يزال حيّا وطازجا، ويعي إمكانية أن يكون متنبئا
بما ستؤول
إليه الأحوال، وكأنه صوّر بالأمس، حتى من بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على
إطلاقه
في فضاء وثائقي لا يعرف الهدنة أو المهادنة، لجهة اختراع مضاء الوثيقة وحدة
تنقيط
علاماتها ، وهذا ما لم يتوفر إلا لمخرج من طراز عمر أميرلاي، صاحب العدسة
الجارحة،
التي لم تعرف أي نوع من فلترات الرتوش المزيفة . في فيلم ( الدجاج )، وكان
موضوع
حوار لي معه مرة، كان يعرف أميرلاي ويشترط منهجا للحوار يتطلب الدقة في نقل
التفاصيل إلى الشاشة. يومها تحدث لي عن سبب إخلاصه للفيلم الوثائقي الذي
تتوفر فيه
كل شروط مراقبة الواقع ، وإعادة تنقيطه بما يضمن التغلغل فيه، من السطح،
وحتى أعمق
مساحات الوجود التي يفرضها. قال إنه سيخلص للفيلم الوثائقي ، لأن هذا
الفيلم لا
يغدر بصاحبه، كما تفعل أحيانا الأفلام الروائية بأصحابها . أراد عمر
بأفلامه
المتتالية أن يحلق مثل صقر جارح ، لأن الخراب عميم ، كما قال من حول الجميع .
أذكر يومها أن فيلم ( الدجاج ) عرض في ظهيرة
يوم قائظ في معهد الدراسات الشرقية ، وكان لعمر أسبابه التي لم يفصح عنها
لاختياره
مثل هذا التوقيت . ربما كان يوجّه المشاهدين بغريزته نحو المصير نفسه الذي
لف أصحاب
المداجن ، بعد أن انتقلوا من زراعة القطن إلى تربية الدواجن . هكذا من دون
رؤيا
مسبقة ولا دربة تسمح بإعلاء شأن هؤلاء المربين وهم يخوضون غمار معارك
دونكيشوتية
تنتهي بأحاديث مطولة ومملة سرعان ما تتحول في خضم الاحباطات المتتالية إلى
فشل ذريع
ونقيق بشري لا ينتهي . هذه القدرة على إضفاء التهكم على موضوعاته رافقته في
أفلامه
كلها تقريبا ، لا بل أنه هو نفسه، لم يتوقف عن فرض جرعات تهكمية اشتهر بها
في
حواراته، بوصفه متخصص في صنع أفلام عن شخصيات سياسية غادرت عالمنا اغتيالا،
كما هو
حال بنازير بوتو ورفيق الحريري ، درجة إطلاق لقب ( عزرائيل ) على نفسه في
ممازحات
طويلة لم تنته إلا برحيله هو هذه المرة.
فيلم طبق السردين
في ( طبق السردين )، ثمة شيء شخصي يفرض حلا مأساويا .
مضمون من دون مسلمات. حواره مع خالته عن السمك الذي منعوا من أكله في يافا
مع
قيام دولة
إسرائيل، واكتفاء العائلة بطبق من السردين، اختصارا منها، لما
كان قائما
من قبل، هو نوع من الاستعارة للنكران .حينها كان عمر صغيرا ،
وقد علقت بذاكرته
رائحة السردين، التي كانت تفوح منتنة في
أيام الصيف بقوة ، درجة تذكره إسرائيل
دائما. وهذا ما تفعله الذاكرة المتيقظة
التي تقوم على الروائح والألوان الأولى،
فحين تفتح علبة السردين، وتفوح تلك الرائحة التي أشار إليها تضرب إسرائيل
بقوة على
الذاكرة والأعصاب، درجة الترنح والارتخاء باعتبارها المسؤولة عن تصنيف
الحلول
المأساوية ورسم مصائر الجميع، وليس لعائلة واحدة فقط، فقدت القدرة على
تناول السمك
الطازج، بل لعموم كل تلك العائلات التي وفدت من المأساة، وتركت وراءها
الروائح
والألوان التي اتفق على أنها هي من تشكل الذريعة المتفردة لإمضاء هذا
الفيلم بهذه
الطريقة المتهكمة والحرّة. ويقينا أن معالجة أخرى، لم يكن ممكنا لها أن
تفرض مثل
هذه الحلول المأساوية التي يفرضها المخرج، حين يصبح مآل ومصير العائلة
معلقا في
فضاء السردين المعلب، وهو ذات المصير الذي فرضته إسرائيل على الواقع العربي
المعلب
أيضا لحظة قيامها على أنقاض شعب، فرض أمثولته في الحياة وفي العيش، حين لم
يكن
ممكنا إلا استشعار ذلك عن بعد.
ربما أراد أميرلاي استكمال ما بدأه رفيق دربه
الراحل المسرحي سعد الله ونوس حين انحنيا معا على وضع تصورات (الحياة
اليومية في
قرية سورية)، وقررا الاحتفاء بهذا الواقع على طريقتهما، من خلال فرض أمثولة
سينمائية صادمة ، لم يكن ممكنا وقفها أو تسييجها، فالبؤرة الواحدة من
حولهما
متسيّدة وتقول شيئا واحدا كان بمثابة فرض رؤية واقعية على سينما لا يمكنها
أن تحيد
أصلا عن وجهتها المقررة لها. إذ لن يخذل أميرلاي صاحبه، فيصور عنه فيلما
وثائقيا
متمهلا بعنوان ( ثمة أشياء كثيرة كان يمكن للمرء أن يقولها ). كان بوسع
أميرلاي
ألا يتمهل في صنع هذا الفيلم ، فثمة أشياء كثيرة فيه لم يقلها كاملة على
جري عادة
أفلامه، فالقدر حينها لم يرحم سعد الله ونوس، وربما تتكرر
الآن الصورة معكوسة،
فعمر أميرلاي الذي غدر به قلبه فجأة ومن
دون مقدمات كلينكية ، كان يصور فيلما عن
نجمة سورية عرفت أمجادا سينمائية حين كانت سينما القطاع الخاص السوري
متوهجة في
سبعينات القرن الماضي ، وقبل أن يأفل نجمها وتعتزل ، كانت "إغراء" نوعا من
النساء
اللاتي عشقن السينما بطريقتها وقدمتها بطريقتها ، ولم تطلب
شيئا حيال شجاعتها
وتهورها أحيانا. وهنا ربما سيكمن معنى فيلم
أميرلاي الذي لم يكتمل تماما ( إغراء
تتكلم ) . فمن المؤكد أن أميرلاي كان يعرف طريقه جيدا إلى هذه الممثلة التي
أغلقت
على نفسها ، وعلى مكنونها الشخصي الذي كاد يوما من بعد معالجة مأساوية صرفة
أن يحول
الجميع للعب في ساحة عمومية ، كانت فضاءها ورمزها ، فقد كانت ترفع بطريقتها
من شأن
الفيلم ليس في القطاع الخاص وحسب ، فسينما القطاع العام أيضا كانت ممتنة
لها في بعض
انعطافاتها الكبرى . لا أحد ينسى مشاركتها في فيلم ( الفهد ) للمخرج السوري
نبيل
المالح . هذا موضوع آخر ، كان بإمكان عمر أميرلاي أن يقوله لنا بطريقته ،
فهو شيخ
طريقة سينمائية ، وصاحب عدسة جارحة ، لا يمكن لها أن تتكرر دائما .
هامش
:
*في العدد الأخير من المجلة الوثائقية قراءة مطولة
في
فيلم ( الحياة اليومية في قرية سورية ) لكاتب المقال
الجزيرة الوثائقية في
06/02/2011
منذ الأمتار الأولى
بدايات الفيلم الوثائقي السوري
فجر يعقوب
منذ الأمتار الأولى تبدو ( الحياة اليومية في قرية
سورية ) 1974 للمخرج السينمائي السوري عمرأميرالاي ، وكأن ثمة مايشي بالفعل
أن البداية تكمن هنا ، وبخاصة في تلك الكادرات في " ذهب " الصحراء الذي
لايهدي سوى الرمال فقط . ثمة أيدي " بريئة " مخشوشنة هنا تقوم بالفعل
الشائن نيابة عن هذه الصحراء المتوحشة ، حين تنحّل ذرات الرمال وتتذوب أمام
عدسة الكاميرا في أسلوبية قلقة يعلن عنها الفيلم السوري بصراحة ، ولايخفي
تردداتها ، وكأن كل التصورات البصرية التي وضعها المخرج برفقة المسرحي
الراحل سعد الله ونوس عن أهل قرية مويلح ، الواقعة شمال شرق سورية ، ستشكل
بداية السينما الوثائقية الحقيقية ، أقله هنا في سورية ، وكأن حكاية هذه
السينما تبدأ هنا ، ويراد لها أن تنتهي هنا ، اذ يبدو أن " الأشباح "
المستغرقين في كادرات الأسود والأبيض ليسوا على عجلة من أمرهم ، وانما من
يبدو مستعجلا في واقع الأمر ليس إلا الشريط المصور ، ذلك أن شبحية الصورة
تظل هي لغة الوصل بين الفلاحين الذين يتنقلون بين بيوتهم الطينية الموجودة
في خلاء عازل ، كما لو أنهم يقومون بعمليات توليف الفيلم من داخل الفيلم
نفسه .
لاشك أن ( استخدام ) هذا الفليم كذريعة للحديث عن
بدايات السينما الوثائقية السورية ، وإن سبقتها ( محاولة عن سد الفرات )
1972 للمخرج نفسه ، يشكل سانحة ذهبية للقول إن هذه السينما بدأت مع (
الحياة اليومية ) ، وأن هذا الفيلم سوف يستمر من بعد ذلك بفتح الرموز
المغلقة التي تتشكل منها حيوات أهل قرية مويلح على افتراض ، وهذا سوف يقال
حرفيا ، إنه نوع قائم بذاته ، ذلك أن الأيدي التي تقوم بين الفينة والأخرى
بتخيل الرمل لا يبدو أنها ستدخل في عراك مع ذرّاته حتى لو أنها كانت تذروها
على مهل على عظام جيفة متموتة ، أو في لقيا حذاء مقطّع .
الريح التي تهب على أهل مويلح من جهة الشرق
ولاتحمل لهم سوى وعودا بالغبار ، تجعل منهم بشكل أو بآخر ممثلين يقفون أمام
كاميرا أميرلاي ليعيد تنقيط تلك العلامات بصمت ، كما في صور العائلة
المجتمعة على " وليمة " الخبز والشاي ، ليخبرنا الفيلم أن زاد يومهم يبدأ
في الواقع هنا ، وأن على المشاهدين ، أن يتوقعوا أن انصراف أفراد هذه
الأسرة إلى العمل في الأرض والحقول القحطة على وقع الأهازيج الخاصة بتلك
المنطقة ، انما للتأكيد على أن مصائرهم لن تكون بعد اليوم إلا معلقة في ذلك
" الخواء " المستقطع كلية من صمت مستحدث وبائن ، ولايقوم سوى على هداية
الصحراء ، فالفيلم عموما يمكن له أن يظهر من قبل وجودهم كممثلين أو من بعد
هذا الوجود ، وهذا قد لايشكل فارقا جوهريا ، طالما أن أهل مويلح يمكنهم
حجز أمكنة اضافية فيه للتثبت من يقين الرمال ومصير الزراعة الآيلة إلى تفكك
التربة وعدم صلاحها ، فهنا المعلم الذي سيقوم من بعد كل ذلك على رطانة
اللغة المدرسية في الصفوف الابتدائية ، ويقوم بتلقينها للطلاب الصغار في
هذا المقلب الآدمي ، وهي ذاتها الكلمات التي لن تجدي ، ذلك أن مراد الجميع
يتعدى هذه الرطانة اليومية إلى ماهو أبعد من شبحية اللغة التي يبصر بها
المعلم طريقه إلى غرفة الصف الطيني .
كل هذه الموجودات والتفاصيل الصغيرة التي ينشأ
عنها الفيلم ، تخبر من زاوية أخرى أن اللقاء مع المختار الأمي جاسم الذي
ورث " المخترة " عن أبيه عام 1952 لايملك راديو ، وسيلة الاتصال المباركة
في تلك الأيام مع العالم المحيط ، ليعرف متى حلت هزيمة حزيران ، إنما تشكل
أسلوبية تجمع هنا بين المزاج التوثيقي وايقاع القصة الروائية التي جعلت من
أهل مويلح مادة لها ، وهذا المفتاح الأسلوبي – إن جاز التعبير – الذي
اعتمده المخرج ، وربما المونتيير قيس الزبيدي لاحقا أعطى المشاهد وقتا
للتأمل في مجرى العملية ، كما لو أن الجميع هنا يتعاطون مع الواقع المرّ في
لعبة تمثيلية ، وأنهم ليسوا مجرد فلاحين بسطاء يقومون بلعب أدوارهم الصغيرة
الثانوية أمام الكاميرا ، وأنه يتوجب على الشريط الوثائقي أن يسجل بحرفية
مايدور أمامه من أحداث وأفعال دون الحاجة الفعلية إلى تصورات أميرالاي –
ونوس – الزبيدي ، وهذا في الواقع ينجزه القطع بين الرموز الكثيرة التي
تتجمع على أرض بائرة تتشكل بهدوء على مرأى من أهل مويلح ، وبين المستقدمين
إليها من معلمين وأطباء وبيروقراطيين . هذا القطع يشكل أيضا في وجه منه "
فلترا " يقوم على تنقية الدور الواقعي الذي ينشده هؤلاء الفلاحين في مواجهة
لعبة السينما الوثائقية المصورة ، ويقدمهم بوصفهم أولئك الممثلين الذين
يمتلكون عوالم داخلية حارة تزيد من حضورالصورة وتكويناتها الشفافة الأنيقة
، ذلك أن عنوان الفيلم لايشي من الآن فصاعدا عن حدث يدور في قرية بعينها .
إنه ينكر الاسم ، لابل وينقحه على نسج الحياة اليومية من خلال نول بصري ،
كما لو أن هذا يتكرر من قبل ، وسيتكرر من بعد من دون حصول كل تلك الأخطاء
الفادحة لدى الآخرين الذين ينتظرون مثل هذه الأخطاء ليقدموها بوصفها دروعا
في الاملاء البصري الذي يقوم عليه التصور الدرامي للفيلم ، لأن بناؤه
المشروط يبدو كما لوأنه يقوم على تصورات وتخيلات مسبقة ، ولكن هذا نتاج
وثائقي يقيض له أن يشكل تلك العلامة الفارقة في السينما الوثائقية السورية
خاصة ، والعربية عموما التي أطلقها اميرلاي في ( الحياة اليومية ) ولتكر من
بعده كل تلك الأفلام التي انشدّت إلى الريف السوري بغية محاكاته ، ومحاكاة
الجدات والأمهات الريفيات فيه علّ وعسى يمكن اقتناص موجودات جديدة سوف
تتشكل منها بعض الأفلام اللاحقة في سجل هذه السينما الوثائقية التي لم تفقد
نضارتها ، ولكنها لم تتجاوز هذه الحياة اليومية في محاولة تخفيف وطأة القطع
والتركيب والمراقبة والتسجيل ، وإن قدم بعضها رؤى جديدة في بعض الأحيان ،
ولكن من دون شرط اعادة تركيب الواقع بالطريقة ذاتها ، اذ لم تنص الحياة
الطبيعية في أي شرط من شروطها على تجاوز التركيب الذكي الذي اعتمده أميرلاي
وقدّم له امكانية أن يصبح علامة فارقة في مجاله ، لأن السقالة الدرامية في
هذا الفيلم ستتشكل على مدى ثمانين دقيقة من يوميات هؤلاء الفلاحين البسطاء
، ومن نفسيات الطاعنين في السن منهم ، وقد خبروا الحياة بطرائق مختلفة ،
لهذا سوف يلجأ المخرج أميرالاي إلى ذلك العجوز الذي ينزع ثوبه عن صدره أكثر
من مرة ، وليجمده في كادر منتقى بعناية في نهاية الأمر ليبوح بما يثقل صدره
بالذات ، ذلك أن بعض هؤلاء الشيوخ انما يشكلون فاكهة لمراقبة دقيقة ،
وماعلينا كمشاهدين سوى التحقق من هوياتهم ، لأنهم هم من سوف يستثيرون فينا
الرغبة في التأمل .
هل يمكن القول بعد كل ذلك أن ( الحياة اليومية )
هو نوع سينمائي قائم بذاته ؟
قبل الاجابة عن هذا السؤال ربما يجب تغطية ذلك
بالقول إنه في الفيلم الروائي يتجلى الفعل قبل كل شيء في الممثل ،وأن
العلاقات المتبادلة مع المحيط تلعب هنا دورا دراميا نشطا في تقديم هذا
الممثل للناس ، وبالتالي فإن مأزق البطل الدرامي في السينما يقبع في الوسط
بين النظرية والتطبيق في فن الممثل . والبناء الناظم للفيلم السينمائي يطل
هنا بوصفه علامة غير قابلة للقسمة مع ابطال غير قابلين للقسمة أيضا . هنا
البطل يجد نفسه في أوضاع قائمة ومكتملة وعليه أن يتحرك ضمنها . أما
الأبطال في الفيلم الوثائقي ، فهم يجدون أنفسهم في أوضاع أكثر تأزمية من
أبطال رواية ما ، وكأنه لاحلول أمامهم ، وليس لديهم امكانية إلا في تجاوز
مايمكنهم قوله عن أحوالهم ، وماآلت إليه اوضاعهم المكربة في قرية يمكنها أن
تصبح افتراضية أيضا وتقع في أكثر من منطقة جغرافية ، فليس هناك تعداد فعلي
للرمل الذي يتشكل منه عالم هؤلاء البسطاء ، وهذا فيه استحالة بالطبع ،
ولايبدو أن هذه القسمة ستكون مجدية في الواقع ، لأنها قابلة للانشطار أو
التعدد ، وعليه يمكن القول إن أميرلاي أسس هنا بشكل مبكر أسلوبا يغطي هذه
الفكرة ، لأن هذا الفعل الذي يخلقه هذا الفيلم عبر اعادة رسم الواقع بغية
توثيقه واعادة تركيبه بأدوات الواقع نفسه ، اذ يمكّن حبّات الرمل التي
تنخّل بالايدي ذاتها أن تملأ حذاء فارغا ، وأن تغمر علبة سردين فارغة ، وأن
تظلل حيوات ماتبقى من اشباح آدميين ليس بوسعهم سوى الانتقال إلى امكانية
التأكيد أن كل قراءة متشكلة في الوضعيات التي وجدوا فيها ليست إلا ملجأ آخر
، يقومون بالاحتماء واللوذ به ، حين يعاد رسم الظلال البشرية في كادرات
متقنة ومونتاج داخلي ذكي ، يؤكد أن فكرة الانشطار والتعدد التي تميز هذا
النوع لم تجيء من فراغ ، وهذا مايفعله أميرالاي ، على امتداد الفيلم ،
وهو ماشكل في الحقيقة بدايات الجدل حول السينما التي سيصنع منها أفلامه
اللاحقة ، وملاحقة واحدة لأبطال الفيلم تؤكد هذه النظرة ، ويصبح اللجوء إلى
هذا الانشطار الذي ينتج عن احوال صادمة يعيشها هؤلاء الفلاحون ، وبعضهم
غارق عن عمد في أمية متحققة ، حتى حين يلجأون إلى الخبز المصنوع من القمح
والشاي الأود الثقيل اللذين يشكلان تسعين في المئة من طعامهم اليومي ، وإلى
أفعال الشعوذة المتعلقة بأوضاعهم الصحية ، فإن أميرلاي يستبق هذه الطروحات
بصور لاتتعدى مضغ اللقيمات ، ذلك ان الايقاع الداخلي للفيلم ينشا في مثل
هذه الحالة عن التصادمات الدينامية التي يلجأ إليها الشريط ، كما هو حال
المرضى في الأوتوبيس المتوجه إلى مدينة دير الزور لمراجعات مستشفياتها بعد
أن أكدوا عجزهم عن تأمين الطبابة الصحية في أماكنهم ، حين تحل الشعوذة محل
كل شيء ، حتى في أبسط العلامات الطبية . هذه التصادمات الدرامية تؤكد
بالفعل أن السؤال عن دينامية السلوك الانساني المتجذر في هؤلاء " الأبطال "
يكمن في الواقع في مادة هذا الفيلم دون سواه ، وهو مايقود إلى دينامية
نفسية ليست أقل انعكاسا من كل تلك الوسائط الداخلية المتصلة بالعالم
الخارجي المحيط بهم ، وهم يعيشون ويدورون فيه . والمثال العاكس الذي ينشأ
عنها يكشفه احساس مبكر بواقع مترد ليس ثمة امكانية لاعادة تركيبه إلا من
خلال هذه الفرضية حول الانشطار والتعدد الذي ينطلق منه الفيلم .
هل كان يحدث كل ذلك صدفة ؟
لايمكن الاجابة بنعم عن مثل هذا التساؤل ، ذلك أن
الاشكاليات التي يطرحها فيلم ( الحياة اليومية ) كما سبق وأسلفنا، قائمة
بالفعل على فرضية من هذا النوع تتجلى أكثر فأكثر على متعة الكشف من خلال
كادرات متقنة تشكل بنية درامية متصاعدة مستقلة يمكنها خطف المشاهد من
مقعده الوثير ليفكر، علما انه ليس من الأكيد أن جميع " المختطفين " هنا سوف
يقبلون بمثل هذه الاضافة من حول هذا الفيلم – العلامة ، وربما يقبلها البعض
بتشكك ، باعتبارها موضوعا اجتماعيا قابلا للحل والمعاينة والمساومة إن أمكن
على أوضاع حيّة . وحتى يصبح الموضوع الذي نقاربه أكثر جلاء في مثل هذه
الحالة ، يمكن القول إن التعبير الوصفي ينتج هنا عن مشاعر الأبطال
الواقعيين ، وهم ينكبون على لعب أدوارهم كي يعاد تشكيل هذا الواقع من خلال
حيواتهم ، اذ تبدو أن ثمة ازدواجية في المعنى يمكن المراهنة عليها بوصفها
علامة جديدة في التأليف الوثائقي ، وهي في نفس الوقت معطى عن العلاقة مع
العالم المحيط . سيتحصن المؤلف خلف هذه الازدواجية ، لأن السؤال سيتأكد خلف
شحوب الصورة نفسها التي يلجأ إليها وهو يعاين الواقع في مويلح عبر قوانين
داخلية ، هي كل مايبقى له في هذه اللعبة الواقعية المثيرة .
من فيلم ( الحياة اليومية في قرية سورية ) بدأت
مرحلة نوعية في ابداعات السينما الوثائقية العربية دون شك ، وبالتأكيد ليس
الكمّ ، بل النوع الذي يتحقق فيه ، وهو بالتأكيد ماحدث ، ويحدث في سينما
أميرالاي اللاحقة التي تشكلت منها بعض أفلامه الأخرى مثل الدجاج وطبق
السردين على سبيل المثال ، ذلك أن المؤلف الوثائقي هنا لايحصر خياراته
وموضوعاته في قالب واحد ، بل يدعو أبطاله الواقعيين بجرأة إلى فكرة
الانشطار والتعدد بغية الانكشاف أمام الكاميرا ، وليظهروا عراة من كل ستر ،
ولهذا سيظل يحمل مغزى أكبر أن تقوم افلامه اللاحقة بعكس المصائر المختلفة
لأبطاله المنتقين بذكاء مدروس ، بوصفهم النموذج المحتذى من خلال تأكيدهم
بعفوية على مرونة المحتوى ، ذلك أن الشكل يظل في المقام الأول ملقى على
عاتق التوصيل بين فكرة الانشطار والتعدد التي يخبئها أميرالاي في معظم
أفلامه تقريبا ، ذلك أن حيوات هؤلاء " الأبطال " تحمل معنى الازدواجية وهي
تظل محك الوصف والسرد الوثائقيين اللذين يبعثان على تحييد المنطق النقدي في
محاولة تتبع هذه السينما الشديدة الخصوصية القائمة على العلاقة بين السلوك
الداخلي والخارجي لهؤلاء الأبطال ، لأنها لاتجيء مباشرة ، فهم ينهون شيئا
أمام الكاميرا ويخفون شيئا آخر ، وهذا ينتج عن تلك الرطانة التعليمية
المدرسية التي يعيشون على وقعها ، ويؤكدون من خلالها على واقع أشد رطانة ،
يتفكك ويتحلل بدهاء ذرات الرمل وهبوبه المنقطع النظير . والسؤال الأول
الذي يمكن له أن ينتج بالعلاقة مع كل ماتقدم يكمن فيما اذا كانت الواقعة
الدرامية في هذا الفيلم ايجابية لجهة العلاقة مع التيمة المطروحة سينمائيا
بوسائط اللغة الوثائقية ذاتها . يمكن القول هنا إنه من المهم في الاجابة
ليس الكم ، بل الجانب النوعي في السؤال ذاته ، ذلك أن الواقفين بدراية أمام
الكاميرا يقبعون خلف الاشارات بوصفهم رموزا واقعية ، وليس مجرد أعداد مؤلفة
صمّاء ، وهم أقلية في النوعية ، ولكنهم يشكلون مايمكن تسميته بايديولوجية
التمدد في الفراغ ، لأن نظرية الانشطار والتعدد التي نحيل إليها الفيلم
لاتقدم سوى وعيا ذاتيا يكاد يغطي الأبطال أنفسهم ببديهيات تنشأ عن السينما
الوثائقية نفسها . وفي النهاية ، فإن مؤلفا من عيار أميرلاي يتوجه نحو
اشكاليات قريبة من جوهر تفكيره تقوم على بناء متعدد أيضا في الشكل والمضمون
، وهذا يشكل عن سابق تصور وتصميم علاقة ايجابية بين هذه الفروقات ، فثمة
سؤال كان ينشأ هنا على الدوام بشكل واضح وصريح عن العودة دائما إلى المدرسة
لتقديم أفضل مافيها من رطانة يومية . وإذا كان عمر أميرلاي ينجذب نحو هذه
العلامات التي يرسمها في الفليم بوصفها حلولا مسبقة ، فإنه من غير المشكوك
به أبدا أن تكون أشكال هذه العلامات تنص على اعادة ملء الفراغ برمل
التفاصيل اليومية لحياة هؤلاء غير القادرين على الانعتاق إلا من خلال
التدرج في الرطانة غير المؤجلة ، ولكن إذا كانت علاقة المؤلف تتشكل من خلال
عوالم أهل مويلح ، فإن ذلك يجب أن يتبعه اعتراف أن الشكل في الفيلم محلق
فنيا ، والفضل في ذلك يعود إلى الأسلوبية وآلية العمل عليها ، وهو ما اعطى
نتاجا متعطشا لفرضية الانشطار والتعدد في حيوات أبطاله المتجددين ، القائمة
على خضّ الوعي دون تردد ورجّه في أماكنه المرئية وغير المرئية اذ يبدو أنه
من خلال هذه الوجهة الدرامية المعقدة يمكن استمالة كثر منهم نحو جراحة أشد
صرامة بغية توصيف أمراض مزمنة يعيشها الريف السوري .
هنا في ( الحياة اليومية ) تظهر الوجوه دائما في
مقاطع منفصلة ، كما لوأنها تخضع بالفعل إلى جراحات غير تجميلية في كادرات
متتالية ، وهي جراحات من غير مخدر ، اذ لم يكن متوفرا لحظة الانحناء عليها
بمشرط البحث والكشف ، كما لوأن المخرج لايستعيض عنه إلا بنصل مشرط حاد
لايمكن القبول به ، كما لايمكن الاستغناء عنه . وهذا لايحدث إلا في السينما
الوثائقية ، اذ لايمكن اعادة ترتيب الواقع – فنيا – إلا باللجوء إليه ،
وأميرلاي لايفوت فرصة من دون الاستقواء بهذه الجراحة الضرورية ( الحديث عن
حلول عشائرية في علاقات الناس ببعضهم البعض – رطانة الدروس اليومية – اتقان
الجهل في معارك الحياة اليومية ) للخروج بتفاصيل مؤرقة ليس لأصحابها فحسب ،
بل ولجملة مشاهدين يقعون في مستقبل الصورة ، لأن الاطلالة من خلال وجوههم
على خيبات الرمل بعد ذره في الفراغ ، وهي ذرات لايعاد صوغها ابداعيا إلا من
خلال مأثرة الانشطار والتعدد التي تقوم عليها حيوات أهل مويلح ، والتي تسمح
بنشوء ازدواجية في المعنى والمبنى في حياة من سبق له وشارك في فيلم وثائقي
يعتبر بحق بداية السينما الوثائقية في سورية ، بالشكل الذي يجب أن تكون
عليه ، كتحقق في الشكل والمضمون الذي يقوم على دعائم فلسفية وتعبيرية
وبصرية لاتهادن ، فالأفلام الوثائقية لاتخون صاحبها إن أدمنها ، وهذا نزوع
خاص بهذا المخرج الذي لم يخن ولعه بهذه السينما يوما ، الولع القائم على
الانشطار والتعدد ، اذ لولاهما لبدت سينما أميرلاي ضالعة في فراغ لايستهان
به ، ولما تمكن فيلم ( الحياة اليومية ) من الصمود في هذا الفراغ
والاستقواء عليه بما يضمن له البقاء الدائم والمتجدد في أي مستقبل يعرض
فيه.
مجلة الجزيرة
الوثائقية في
06/01/2011 |