لم يكن ممكناً تجاهل
الرحيل المفاجئ للسينمائي السوري عمر أميرالاي، في هذا المهرجان أو تلك
التظاهرة.
في الخامس من شباط الفائت، توفي الرجل في
منزله الدمشقي. ذهب إلى المكان الآخر،
مخلّفاً وراءه حسرة وألماً في نفوس أصدقائه المنتشرين في سوريا
ولبنان، وأصقاع
عربية وغربية متفرّقة. مخلّفاً وراءه أحلاماً موؤودة، ومشاريع معلّقة،
ونظرات طالعة
من عينيه الغريبتين إلى أقصى السخرية والجمال والمناكفة. مخلّفاً وراءه بعض
أجمل
الأفلام الوثائقية العربية في التاريخ المعاصر لسوريا ولبنان
والعالم العربي. في
الدورة السابعة لـ«شاشات الواقع»، المُقامة حالياً في صالة «سينما
متروبوليس» في
الأشرفية، بدا عمر أميرالاي أنيقاً كعادته: في حضوره الطاغي. في أفلامه
الصادمة. في
سجاله الذي لا ينضب. في هدوئه الخارجي المتين. في غليان الأفكار والرؤى في
داخله.
في ابتسامته الملتبسة والواضحة في آن واحد.
أراد منظّمو التظاهرة احتفاءً
بسينماه، فاختاروا اثنين من أفلامه، في محاولة للتعبير عن شوق إليه، أو عن
رغبة في
نقاش دائم معه. لا أعرف سبب اختيار «الطوفان» (أو «طوفان في بلاد البعث»
بحسب
العنوان الفرنسي لفيلمه الأخير هذا) و«هناك أشياء كثيرة يُمكن
للمرء أن يقولها».
الأول شكّل المحطة السينمائية الأخيرة، التي أنجزها عمر أميرالاي بعشق لا
مثيل له
للصورة الوثائقية، وبإمعان دائم في إثارة النقاش المفتوح حول القضايا
كلّها. الثاني
شكّل لحظة تجلّ ذاتي، أرادها استعادة حيوية لتجربة شخصية وعامّة، بالتعاون
مع صديقه
الراحل سعد الله ونّوس. الأول بدا لي أقوى وأجمل من الثاني، بعيداً عن أي
تعليق
نقدي. «الطوفان» (2003) شهادة صادمة عن الخيبة والوجع والقلق
الدائم على بلد وأناس
ومجتمع: بلد معقود على التقوقع والاختناق، وأناس معزولين داخل جدران الصمت
والخوف،
ومجتمع مفتّت ومسحوق. الثاني (1997) مختلف. إنه شهادة أيضاً، لكنها موجّهة
إلى
الماضي، ومنشغلة في إعادة رسم المسار التاريخي للتجربة
الشخصية، التي عاشها عمر
أميرالاي وجيله، في حوار مع ونّوس. الأول، بالنسبة إليّ، أقسى. إنه مدخل
إلى إعادة
قراءة التاريخ، من منظار سينمائيٍّ وَجَد في تجربة البعث السوري، في بداية
السبعينيات الفائتة («تجربة فيلمية عن سدّ الفرات»، 1970)،
محاولة لإشاعة مناخ
حضاري ومتطوّر، قبل أن يجد نفسه في مواجهة هذين التقوقع والاختناق. في
مواجهة
الطوفان الذي يُمكن أن يذهب بالبلد والناس والمجتمع إلى الأمكنة الأخطر
والأقسى.
الثاني، بالنسبة إليّ، أقلّ إبداعاً. التأثير طالع من كون الفيلم الصورة
الأخيرة
لسعد الله ونوس، الجالس على فراش الموت أمام كاميرا عمر أميرالاي، ومعهما
سنون
طويلة من التحوّلات والانكسارات والخيبات والآلام والأوهام.
لكن، هناك أيضاً متعة
المواجهة والتورّط في الأحلام الجميلة، وإن أخذتهما الأحلام تلك إلى أقسى
الخيبات. «الطوفان» مفتاح لفهم الآنيّ، والعودة إلى
الماضي إضاءة على التبدّلات الحاصلة.
«هناك
أشياء كثيرة يُمكن للمرء أن يقولها» مدخل إلى فهم ثقافة جيل متكامل، نهشه
الخراب العظيم الذي ضربه بسبب الصراع العربي الإسرائيلي أولاً، والهزائم
المدوّية
ثانياً، وحالات القمع والعنف المسيطرة على البلد والناس
والمجتمع ثالثاً.
عُرض «الطوفان» الثامنة مساء أمس الأول الثلاثاء.
يُعرض «هناك أشياء كثيرة يُمكن للمرء
أن يقولها» التاسعة مساء الأحد المقبل. في ذاك اليوم الأخير من
تظاهرة «شاشات
الواقع»، يحتفل أصدقاء عمر أميرالاي به وبأفلامه. عند السادسة مساء،
يتحلّقون حول
بعضهم البعض. يفتحون الماضي لينظروا إليه بعينيّ السينمائيّ. ليُشاهدوا معه
ذاك
العمر الطويل من التناقضات القاتلة. ليستمعوا إليه صوتاً
مقبلاً من أعماق ذاته إلى
انفلاش الحبّ الكبير له في الصالة والمدينة والقلوب، هنا في لبنان، وهناك
في سوريا،
وهنالك في الجغرافيا التي لن تستطيع أن تضمّه أبداً. السادسة مساء الأحد
المقبل،
سينتبه أحبّة وأصدقاء ومعارف ومحبّو اشتغالاته الوثائقية إلى
قوّة حضوره فيهم. إلى
جمال ما تركه لهم. إلى تلك الحسرة القاسية الناتجة من غيابه عنهم. سيقول
البعض: «لو
طال عمره قليلاً، لشاهد بعينيه الجميلتين بعض أحلامه متحقِّقاً». سيقول
البعض
الآخر: «أجمل ما فيه، إيمانه العميق بقدرة الشعوب على الانتصار
لنفسها».
لا
أعرف أيهما أفضل: بقاء السينمائي حيّاً ليعيش أجمل العمر،
ولينجز أفلاماً ويُحقّق
مشاريع ويثير مزيداً من القلق في نفوس حاقدين عليه، لأنه فضح بعض جنونهم
وهلوساتهم
وعنفهم؟ أم استمرار السينمائي حيّاً في أفلامه السابقة؟ أميل إلى الجانب
الأول.
الموت لعنة. إنه نهاية متوقّعة، تفتح باب المجهول على مصراعيه. الأفلام
ذكرى.
شهادات حيّة عن واقع وتحوّل وسياق. عن
صانعيها وانفعالاتهم وأشيائهم الخاصّة.
الاحتفاء بها وبمخرجها محاولة جديدة لفهم أشياء كثيرة قد تكون مخفية هنا أو
هناك.
خطوة إضافية باتجاه هذا العالم الجميل الذي
صنعه عمر أميرالاي بعين ثاقبة، وروح
متوقّدة، ونَفس ساخر، وعشق كبير للصورة والناس والحياة.
السفير اللبنانية في
24/03/2011
«عمر
أميرالاي.. عاش محباً ورحل محبوباً» كتاب متسرع
يستحق المخرج تكريماً أكثر جدية
نديم جرجورة
لا يُمكن التغاضي عن
الفضيحة المتمثّلة بالكتاب التكريمي الخاصّ بالسينمائي السوري الراحل عمر
أميرالاي،
الذي أعدّه وحرّره فؤاد مطر، وأصدرته «الدار العربية للعلوم،
ناشرون» مؤخّراً،
بعنوان «عمر أميرالاي: عاش مُحبّاً... ورحل محبوباً». والفضيحة هذه، إذا
تبدّت
أولاً بالتسرّع في إصدار كتاب لا يليق بالراحل وبنتاجه الإبداعي وسجاليته
الصادمة،
لا تقف عند حدّ الاستسهال في جمع ما تيسّر من مقالات نُشرت إثر
شيوع نبأ رحيل
المخرج، وحوارات أُعيد نشر بعضها في الصحف إثر غيابه. هذا، بحدّ ذاته، لا
يليق
بسينمائي صداميّ وإشكاليّ كعمر أميرالاي. والمقالات المختارة نُشرت وقُرئت
في ظلّ
اللحظة الأليمة، ولا يُمكن لإعادة نشرها في كتاب أن تُفيد أحداً، لأنها
ابنة
الانفعال الذاتيّ لكتّابها، أثناء تلقّيهم نبأ الوفاة المفاجئة.
بالإضافة إلى
هذا، فإن خطأ فظيعاً ارتُكِب أثناء الإعداد للكتاب بسرعة فائقة، لتوزيعه في
اللقاء
التكريمي الذي أُقيم في صالة سينما «متروبوليس» في «أمبير صوفيل» (الأشرفية)،
في
ختام الدورة السابعة للتظاهرة السينمائية الوثائقية «شاشات
الواقع»، مساء السابع
والعشرين من آذار الفائت. والأخطاء واضحة لمن اطّلع سريعاً على متن الكتاب:
مقالات
منشورة في الكتاب بأسماء كتّاب لم يكتبوها. وضع عنوان لمقالة، هو في الواقع
عنوان
عام جمع مضامين مقالات عدّة منشورة في صفحة واحدة. التغاضي
المطلق عن اسم المطبوعة
التي نُشرت فيها هذه المقالة أو تلك، وغياب شبه كامل لتواريخ نشر المقالات،
وهذا
يتنافى مع أبسط أصول المهنة الصحافية، التي يُفترض بها أن توثّق المعلومة
والمادة
المنشورة. ناهيك عن غياب مقالات منشورة في الصحف لكتّاب ونقّاد
أساسيين، وورود
أسماء كتّاب لم تُنشر مقالاتهم في الكتاب. مثلٌ أول: مقالة بعنوان «عمر
أميرالاي
فارس السينما التسجيلية.. فنّه الرفيع روى حكاية شعب» (هذا عنوان عام
لمقالات
منشورة في الصحيفة اللبنانية اليومية «السفير» في السابع من شباط الفائت،
أي بعد
يومين اثنين على وفاة أميرالاي)، موقّعة في الكتاب باسمي أنا، علماً أنها
لحنان
قصاب حسن (ص. 32). مثلٌ ثان: مقالة بعنوان «عمر أميرالاي نصَب
تذكاري لبطل سوري»
موقّعة في الكتاب باسم محمد رضا، وهي لأسامة محمد (ص. 47). مثلٌ ثالث:
مقالة بعنوان
«عمر
أميرالاي سينما اختراق الممنوع» موقّعة في الكتاب باسم أسامة محمد، في حين
أنها منشورة في «السفير» باسمي أنا. مثلٌ رابع: مقالة «يسمع صوت الإنسان
العادي
يمرّ في شرايين الحياة» منشورة في الكتاب باسم هيثم حقّي، مع
أنها مكتوبة بقلم محمد رضا.
هناك أيضاً مثلٌ عن رداءة الإعداد والتحرير: إذ كيف يُعقل أن تتغيّر بداية
مقالة هيثم حقّي بين الصحيفة والكتاب؟ في صفحة 40، نُشرت مقالة
حقّي بعنوان «عمر
أميرالاي... وحكاية جيل» (هنا أيضاً تبدّى الخطأ واضحاً: وضع اسم المخرج
الراحل قبل
العناوين الأصلية للمقالات، في تكرار ممل ولا فائدة منه)، مع تغيير «طفيف».
في
بداية المقالة الأصلية، كتب حقّي ما يلي: «كنا مجموعة يساريين
حالمين»، فإذا
بالجملة هذه تصبح: «كنا مجموعة المخرج الراحل عمر أميرالاي في دمشق ـ تصوير
أيهم
ديب يساريين حالمين».
بهذا المعنى، فَقَد الكتاب مصداقيته. فإلى جانب البساطة
الفاقعة بسطحيتها في الشكل والمضمون، طباعة ونوع الورق وحجم الحرف ونوعيته،
لم يشفع
صدق الرغبة في تكريم السينمائي الراحل بسقوط الكتاب في هذا الكَمّ من
الاستسهال
المؤدّي إلى وقوع أخطاء عدّة، وفي هذا النوع من الارتباك. عمر
أميرالاي، الذي
يستحقّ أن تُعرض أفلامه كلّها من دون استثناء في سوريا ولبنان والدول
العربية
والغربية، في هذا الوقت بالذات، بل في الأوقات كلّها، يستحقّ أيضاً ما هو
أكبر من
كتاب مشغول بتسرّع لم يحترم أصول الإعداد والتحرير: يستحقّ
كتباً نقدية سليمة، تعيد
سرد حكايته مع السينما الوثائقية، وتكشف مضامين أفلامه، وتروي سيرته
الصدامية
الجريئة ضد الأفكار المتحجّرة والسلوك الرجعيّ. يستحقّ اهتماماً نقدياً،
يتناول
عالمه الإبداعي الممتدّ من قلب سوريا إلى الجغرافيا العربية
والعالم منذ بداية
السبعينيات، ويتوقّف عند مكانته الإبداعية والإنسانية، وعند التزاماته
الفكرية
والأخلاقية قضايا الناس والمجتمع. إن «عمر أميرالاي: عاش مُحبّاً... ورحل
محبوباً»
أساء إلى المخرج، وإلى المُعدّ والمُحرِّر صاحب المكانة الثابتة والقديمة
في
الصحافة العربية، وإلى دار النشر التي يرتبط أصحابها بالمخرج الراحل بصلة
قرابة،
وإلى القارئ، وإلى الكتّاب الذين اختيرت مقالاتهم، وإلى محبّي
المخرج والمهتمّين
بسينماه.
بعد هذا كلّه، ألا تجدر المُطالبة بسحب الكتاب فوراً من الأسواق، كي
لا يتحوّل إلى مرجع مليء بأخطاء أساسية في أزمنة مقبلة، يعتمده أناسٌ لن
يعرفوا
وقوعه في فخّ الاستعجال؟
السفير اللبنانية في
05/04/2011
عمر أميرالاي... عاش محباً
اختار أصدقاء السينمائي السوري الراحل عمر أميرالاي (1944 - 2011) بيروت
للاحتفاء بذكراه في أربعين وفاته التي حلت منذ أيام، حيث عُرض
اثنان من أفلامه، «طوفان
في بلاد البعث» و{هناك أشياء كثيرة يمكن أن يقولها المرء،» وأُطلق كتاب
تكريمي.
جاء الاحتفال في ختام تظاهرة «شاشات الواقع» في سينما «متروبوليس» في
بيروت،
التي استقبلت في اليوم الأخير جمعاً من أصدقاء الراحل من سورية
ولبنان، وفي مقدّمهم
المخرجان أسامة محمد وهالة عبد الله والمنتج عروة النيربية وآخرون. ومع
الاحتفالية،
أُطلق كتاب بعنوان «عمر أميرالاي، عاش محباً ورحل محبوباً» (الدار العربية
للعلوم
ناشرون) أعده فؤاد مطر وحرره، ويستعيد فيه آخر ما كُتب عن
أميرالاي إثر وفاته.
ينقسم الكتاب إلى فصلين: يتناول الأول خبر وفاة أميرالاي كما تناولته
وكالات
الأنباء والصحف وبعض محطات التلفزة، ثم أبرز المراثي
والتحليلات لكتّاب مثل عباس
بيضون وحازم صاغية والياس خوري ويوسف عبدلكي وميشال كيلو وسواهم. أما الفصل
الثاني،
فيقدّم الراحل من خلال حوارات أجراها معه محمد علي أتاسي وريما المسمار
وسامر محمد
اسماعيل وأبي حسن وسميرة عوض.
في تقديمه الكتاب، قال مطر: «هو تحية منا جميعاً لمبدع أغمض العينين فلم
يكحلهما
بتباشير النهوض في الأمة من المحيط إلى الخليج... وهو نهوض
نتمنى ألا يجانبه الوعي
كي لا تصيبه انتكاسة الغرور والعناد». وكتب أبناء خاله (صلاح، بسام، عماد،
غسان،
جهاد وبشار شبارو) أصحاب دار النشر: «كنت منشغلاً دائماً، حاملاً هموم
الأمة،
باحثاً عن بصيص نور، لا بل محاولاً بيديك العاريتين فتح ثغرة
في الكهف العربي يشرق
منها النور. وما إن تسلّلت خيوط النور واحداً إثر آخر، وأيقنت وصول
الرسالة، حتى
أسرعت بتسليم الأمانة. أنت الذي لم تنتشِ يوماً بعمل أنجزنه، ولم تسعد
يوماً بزوجة
أو طفل، فلم تتح لنا الفرصة لتهنئتك... فكان هذا الإهداء
لذكراك».
يُذكر أن السينمائي الراحل حمل الجنسيتين السورية واللبنانية، وهو من أم
لبنانية
وقد عاش جزءاً من طفولته في لبنان. فيلمه الأول كان «محاولة عن
سد الفرات» وفيلمه
الأخير «طوفان في بلاد البعث» كان عودة إلى الفرات من زاوية شديدة النقد.
بينهما،
أنجز قرابة 15 فيلماً لم يُعرض أي منها في سورية إلى يومنا هذا.
الجريدة الكويتية في
08/04/2011
رحيل عمر أميرالاي.. الفيلم الأخير لحياته!
إبراهيم صموئيل
بعد أن عانى المخرج السينمائي عمر أميرالاي طوال حياته (1944-2011) من
التعتيم المقصود والإهمال المتعمّد بسبب مواقفه المنحازة إلى الإنسان
المقهور والمفقر، وبسبب أفلامه التسجيلية التي رصدت بؤس الناس عارياً،
وتحوّلات عيشهم من السيئ إلى الأسوأ ومن الهوامش إلى ما دونها... حمل إليه
القدر عتمة الرحيل الأخير، لكأن هذا الفنان المبدع قد وُلد ليحمل على كاهله
الظلم والظلام طوال سبعة وستين عاماً.. حتى رحيله!.
ومع أن العديد من المخرجين السوريين قد اشتغلوا في حقل السينما
التسجيلية، وقاموا بعرض أفلامهم في مهرجانات عالمية، إلا أن السينما
التسجيلية قد ارتبطت باسم عمر أميرالاي ارتباطاً وثيقاً حيث لم يعد من
الممكن الحديث على المستوى العربي عن هذا اللون من الفن السابع دون أن يكون
اسم عمر في المقدمة بسبب تكريس جهده كله وموهبته كلها لهذا الحقل من عالم
السينما.
ومن سخرية المفارقات السوداء في حياة هذا الرجل أن يكون وداعه (6
شباط) فيلماً تسجيلياً يوثّق بامتياز الحال التي أحاقت بحياته وأعماله، كما
أحاقت وستحيق بمن هم مثله من المبدعين حملة المشاعل في هذا الليل الطويل،
فينضاف شريط تسجيلي جديد إلى مجمل أعماله، ليس مخرجه عمر أميرالاي هذه
المرة، بل الواقع البائس الذي كثيراً ما رصد أميرالاي مفرداته وتعبيراته
وتشكّلاته من خلال أفلامه العشرين وعلى امتداد خمسة وثلاثين عاماً!.
كان مشهد وداعه يشبه حياته:
فبعد الصلاة على الراحل في أحد المساجد وسط دمشق، وما إنْ أُخرج النعش
من الباب حتى استقبله عدد من الأصدقاء السينمائيين والكتّاب (في غياب لافت
لأي مسؤول يُذكر) بتصفيق مديد بدا مفعماً بالأسى والأسف، ومترعاً بالاعتذار
له عن حياة كان يستحق خلالها أن يُحتفى به وتكرّم أعماله ويتم توزيعها
وعرضها.. بيد أن ذلك كله وبقرار رسمي لم يحدث قط، فما كان من أصدقائه إلا
أن ودعوه على طريقتهم هذه معتذرين منه عن ذنبٍ لم يرتكبوه، بل كانوا ضحاياه
أيضاً! حُمل النعش إلى سيارة دفن الموتى، نادى المنادي: "ترحّموا على
الأستاذ...."، فضاع الصوت في ضجيج الشارع وتداخلت سيارة دفن الموتى مع
سيارات عابرة، متزاحمة، ثم تقاطرنا خلف النعش المحمول إلى مقبرة الشيخ
إبراهيم بالقرب من ضريح الشيخ محي الدين بن عربي على تخوم جبل قاسيون،
ليوارى هناك في مسقط رأسه وسط مزيج من ذهول وكآبة، وكثير من التخيلات
السوداوية التي راودت الأصدقاء المشيعين، إلى أن أخذنا نعود أدراجنا خائبين
خاسرين، كلٌّ في طريق!.
***
أراد عمر أميرالاي أن تكون السينما التسجيلية أداته الرئيسة في توثيق
حياة الناس، وبؤسهم، وأحلامهم، وفي توثيق سيرة وطن كما هي على الأرض، خارج
البهرجة الإعلامية الرسمية، وفي توثيق رؤاه ومواقفه وما يصبو إليه عبر صورة
تنقل الدلالة والمعنى، وترصد الخافي والهامشي والمتروك، وتسجّل المفارقات
الصارخة بين الواقع الحقيقي والتعبير المزيّف الرسمي عنه كما في فيلمه
الأشهر "الحياة اليومية في قرية سورية" الذي أنجزه بالتعاون مع الراحل سعد
الله ونوس العام 1974 (وأنتجته المؤسسة العامة للسينما ومنعت عرضه في آن!)
وقدّم خلاله "يوماً" هو عيّنة من أيام أُخر وأيام سبقت تصح أن تكون شهادة
على عصر ومرحلة نتلمس فيها ثقل الوجع، ومساحة الأحلام، ودرجة الإحباط، ومدى
الهدر.
وإذا كانت السينما التسجيلية تعتمد الواقع، وتقوم عليه، فإن عين
أميرالاي التقطت من هذا الواقع، بموهبة عالية وانتماء أصيل، الزوايا والصور
والمشاهد والتعابير التي تفصح عن مكنونه، وتعرّي لبَّه، وتثري عين المشاهد
لا بقسوة الواقع فحسب، وإنما أيضاً بجماليات الفن المتمكّن من رصد الواقع
الحي، حتى ليمكن القول إن الصورة لدى عمر أميرالاي المحتشدة بالحركة
والسكون، الممتلئة بالوجوه والأصابع والأجساد، والمشغولة بتفاصيل المكان
ونمنماته... لقادرة على التعبير من دون أي كلام أو حوار كما في فيلمه
"الدجاج" (1977) عن قرية "صدد" السورية التي يقول عنها أميرالاي: "لاحظت في
(صدد) هذا التحوّل العجيب من ضيعة عريقة كانت معروفة بصناعة البسط، إلى
دخول نمط رأسمالي صناعي هو تربية الدواجن (....)، فاخترت أن أحكي عن البشر
بلغة الحيوان، لأن في ذلك نوعاً من التعبير عن قهر المثقف وعجزه عن إنطاق
الناس".
عمر أميرالاي الذي لم يعرف في حياته الشخصية والفكرية المساومة
والمهادنة، أو التملّق والتهريج، سعى لأن تكون أفلامه على غرار ما عاش دون
مهادنة أو تجميل للواقع أو قفز من فوقه. ومما له دلالة في هذا السياق أنه
في مطلع حياته وأحلامه الثورية أخرج فيلماً سمّاه "محاولة عن سد الفرات"
(1970) يمتدح فيه ذلك الصرح الحضاري، ثم عاد في العام 2003 إلى موقع السد
ليقدم فيلماً معاكساً تماماً، بعد أن تردّى الوضع وانهار، تحت عنوان "طوفان
في دولة البعث"، حيث لم يتردد في بداية الفيلم من انتقاد نفسه وتجربته
الماضية وأفكاره السابقة على غرار ما يقوم به الفيلم نفسه عبر التقاط ما
آلت إليه الأمور من تخريب المكان والبشر.
ولعل من الأفلام المهمة التي أخرجها أميرالاي فيلمه "هناك أشياء كثيرة
كان يمكن أن يقولها المرء" عن أيام المرض الأخيرة التي عاشها صديقه سعد
الله ونوس، وكذلك فيلمه "نور وظلال" بالمشاركة مع المخرج محمد ملص، إضافة
إلى فيلم أثار جدلاً واسعاً واختلافاً شديداً في الرأي بين معارض ومؤيد
بعنوان "الرجل ذو النعل الذهبي" عن حياة رفيق الحريري.
***
بدقة كاملة يمكن المصادقة على القول إن عمر أميرالاي صاحبُ أكبر قائمة
من الأفلام الممنوعة في السينما السورية، إذ واصلت الرقابة حجب أفلامه عن
العرض بشكل كامل حتى باتت أعماله أسيرة فئة قليلة من الأصدقاء وبعض
المتابعين، فيما ظل المخرج "من المغضوب عليهم" حتى بعد رحيله، إذ تمَّ
تشيعيه من دون اهتمام من الجهات الثقافية الرسمية، وامتنعت الصحف المحلية
عن ذكره والحديث عن أعماله امتناعاً مريباً إلا من رحمه ربه وأخجله التعتيم
المطبق فذكره على استحياء! بل أكثر من ذلك، فإن مدير المؤسسة العامة
للسينما لم يتلعثم وهو يقول بالفم الملآن على شاشة الفضائية السورية: "لدى
عمر أميرالاي مشكلة أساسية لم يتنبّه أحد إليها من الذين قيّموا تجربته،
فهو شخص تاه بين السياسي والمخرج التسجيلي"، مضيفاً ومعمّماً بالقول:
"المشكلة في أفلام عمر أميرالاي هي مشكلة كل السينمائيين السوريين، حيث
أخفق هؤلاء في نقل البيئة السورية المحلية"!.
ولِمَ ستكون سيرة عمر وحاله على غير ذلك؟! هو الذي قضى حياته فارساً
نبيلاً شجاعاً، لم يأبه يوماً بشباك التذاكر، ولم يسعَ لأن "يسوق بحسب
السوق" وفق المثل الدارج، إذ كان فن السينما، التسجيلية منها حصراً، عشقه
وولهه وهاجس حياته، يعمل على إنجاز أفلامه حراً، طليقاً من كل خوف، مناهضاً
للفساد والقمع، وناهضاً بهذا الفن إلى أرفع ما يستطيع، فيكون بذلك علامة
على الطريق لأجيال تأتي بعده. يقول في حديث عن تجربته ورؤيته: "أنا كمخرج
لا أستطيع أن أقدّم عملاً لا يكون شاهداً وصادقاً مع نفسه. إن عملاً يزيّف
الواقع أرفضه، ويجب أن ننقل هذا الواقع بموقف نقدي كي يصبح للعمل الفني،
وللفيلم التسجيلي تحديداً، معنى. وفي تجربتي الشخصية، فإنني ومع كل فيلم
أكتشف عاملاً رقابياً شخصياً".
أبرز وأعظم ما في تجربة عمر أميرالاي، ليس مشاكسته ومعارضته السياسية،
وجرأته على كشف الواقع وتعرية الفساد فقط، وإنما -وربما قبل ذلك وبما لا
يقلّ أهمية- شغله الدؤوب، وهاجسه المقيم، وهمّه الحافز على أن يرتفع بالفن
السينمائي، وعلى أن يؤسس لمشروع سينما تسجيلية توثّق عبر الصورة قبل
الكلمة، وتضيف جديداً إلى الإبداع من خلال المشهد، وزاوية النظر، وطريقة
التعبير المرئي، واللقطة، والافتتاح، والخاتمة... وعبر كل ما له صلة
بالنهوض بفن السينما وتقدّمه ورقيه وجدّته.
شهادات
- "كان عمر أميرالاي يعمل باحتراف كبير، لكنه يعرف متى يستّل
المفاجأة، متى يتلفظ الطرفة التي تتعدى الحرفة. كان حين يعمل يدير جهازاً
كاملاً من الاستعارات والمجازات والمواربة والإيعاز والإلغاز واللمح
والترميز، كل هذا الفن كان يجعل أعماله وخاصة الأخيرة قريبة من الصمت. لقد
كان عملاً على الإيقاع بحيث أن الفيلم يشبه أن يكون قطعة موسيقية تنتهي
بخاتمة حاسمة وتظل تتردد في ما بعد في ذاكرة المتلقي ووجدانه".
عباس بيضون
- "أميرالاي واحد من النادرين في هذا الالتصاق بين حياته وشخصيته
وأعماله الفنية التي كان قوامها الأساسي النقد الصاحي والحادّ للظواهر. ومن
المعيب أن نجد بعض المؤسسات الرسمية تحشر أنفها في جنازة هذا الحر، وهي
التي حاربته على مدى أربعين عاماً، ولم تعرض أفلامه في بلده. إن المؤسسات
دائماً تحب أن تُظهر حسن نواياها للأحرار والديمقراطيين عندما يغادرون
الحياة".
يوسف عبدلكي
- "عمر أميرالاي، كأي مبدع سينمائي حقيقي، صنع من رؤاه موقفاً تعمَّم
واكتسب جدارته من لحظة خروجه. أفلامه ليست من النوع الذي كان على المرء
العودة إليه لاحقاً لتقديره، بل كان قادراً على ترك البصمة السريعة على
وجدان المُشَاهد لأنه كان صادقاً، يعمل بمقتضى مفهوم واضح. مفهوم من وجد أن
عليه رسالة، ولديه موهبة، وكلاهما وجه واحد لعملية صوغ الدور الذي على
الإنسان أن يلعبه".
هيثم حقي
سيرة
• وُلد أميرالاي في دمشق العام 1944.
• درس الفن المسرحي في "مسرح الأمم" في باريس 1966 – 1967.
• انتقل لدراسة السينما في معهدIDHEC ، ومنه التحق بالمعهد العالي للدراسات السينمائية في باريس، لكنه
انقطع عن الدراسة بسبب أحداث الطلبة العام 1968.
• أفلامه: "محاولة عن سد الفرات" 1970، "الحياة اليومية في قرية
سورية" 1974، "الدجاج" 1977، "عن ثورة" 1978، "مصائب قوم" 1981، "رائحة
الجنة" 1982، "الحب المؤود" 1983، "فيديو على الرمال" 1984، "العدو الحميم"
1986، "سيدة شيبام" 1988، "شرقي عدن" 1988، "إلى جناب السيدة رئيسة الوزراء
بناظير بوتو" 1990، "نور وظلال" 1994، "فاتح المدرس" 1995، "في يوم من أيام
العنف العادي مات صديقي ميشيل سورا" 1996، "هنالك أشياء كثيرة كان يمكن أن
يتحدث عنها المرء" 1997، "طبق السردين" 1997، "الرجل ذو النعل الذهبي"
1999، "الطوفان" 2003.
الرأي الأردينة في
04/03/2011 |