بعد (المومياء) قام شادي
عبدالسلام بإخراج (شكاوي الفلاح الفصيح)، وهو فيلم قصير استوحى
فكرته من بردية فرعونية عمرها أربعة آلاف سنة، تتناول قصة قصيرة عن
موضوع العدالة، قصة فلاح يستصرخ السلطة لتسترد له حقه وتقيم ميزان
العدل. والقضية لدى شادي «ليست مجرد تاريخ فقط، أو إحياء بردية لها
قيمة خاصة، ولكنها بالفعل صرخات احتماء بالعدالة، وهي صرخة قائمة
في كل العصور».
التاريخ يأخذ اهتماما
كبيراً من شادي عبدالسلام، فبالإضافة إلى (المومياء) و(شكاوي
الفلاح الفصيح) هناك فيلم (أخناتون) الذي كتبه وصممه ورسم مشاهده
على الكرتون لقطة بلقطة، ورحل عنه قبل أن يظهر إلى النور. يتحدث
شادي عبدالسلام عن رأيه في التاريخ، فيقول: (...أتصور بأن الأفلام
التاريخية التي أقدمها، ومصر عليها، هي نوع من البحث التاريخي،
بلغة الكاميرا، عن هموم وأشواق الحاضر...). صحيح بأن شادي يتناول
التاريخ في معظم أفلامه، ولكنه لم يكن مجرد تاريخ، وإنما هو في
الأصل محاولة لتحديد العلاقة بين الإنسان وتاريخه، وهي في تصوره
علاقة طبيعية. يواصل شادي، فيقول: (...أنا أرى الحياة في
استمراريتها سواء بالنسبة لي أو لغيري. ولا يمكن أن أعزل اليوم عن
الأمس، إذا أردت أن أرى جيداً ما يجري اليوم. فما نحن فيه اليوم هو
نتاج تاريخنا).
وفي الفترة مابين عامي
1974 و1980، قام شادي عبدالسلام بإخراج أربعة أفلام تسجيلية قصيرة،
بدأها مباشرة بعد استلامه لرئاسة مركز الفيلم التجريبي التابع
لهيئة السينما، وهي: (آفاق ـ 1974) وهو نموذج لأوجه النشاط الثقافي
المختلف في مصر، وفيلم (جيوش الشمس ـ 1976) ويتناول العبور وحرب
أكتوبر 73، ثم فيلم عن إحدى القرى الصغيرة التي تقع بالقرب من معبد
«أدفو» الفرعوني في أسوان. كذلك قام بعمل فيلم مدته ثلاث دقائق
ونصف عن ترميم واجهة بنك مصر.
وفي الفترة التي ابتعد
فيها شادي عبدالسلام عن إخراج الفيلم الروائي الطويل، كان كل
تفكيره وبحثه منصب على إيجاد منتج لفيلمه (أخناتون). لذلك اعتقد
الكثيرون بأنه قد توقف عن العمل في السينما، خصوصاً عندما صرح
لوكالات الأنباء بأنه قد يعتزل العمل السينمائي، وإنه سينصرف إلى
تربية الدواجن. ولم يكن هذا التصريح إلا احتجاجا على واقع السينما
العربية، وإن هذا الفنان الذي عاش للفن السينمائي لدرجة العشق، لم
ولن يتوقف عن العمل في السينما، والفترة التي يسميها البعض توقفاً،
يسميها هو لحظات عمل من خلال التأمل والدراسة، حيث يقول: (...أنا
في حالة عمل متواصل حول موضوع لا ينتهي، بل لا يمكن إيقافه. فإذا
لم أنجح في إيصاله إلى الشاشة، يمكن أن يصبح كتاباً مثلاً أو
محاضرات للتدريس، أي إنه يبقى عملاً أستطيع إيصاله إلى الناس،
وخاصة إن موضوعاتي لها علاقة بالتاريخ...).
يعود شادي عبدالسلام في
عام 1982 وفي جعبته عدة مشاريع لأفلام تنتمي إلى الفيلم التعليمي،
والذي يسعى من خلاله في مخاطبة العائلة المصرية عبر التليفزيون.
فلشادي عبدالسلام، منذ أن بدأ العمل في السينما، قضية هامة وهي
التاريخ الغائب أو المفقود. يقول شادي: (...إن الناس الذين نراهم
في الشوارع والبيوت والمزارع والمصانع، هؤلاء الناس لهم تاريخ، فقد
ساهموا يوماً في تشكيل وصناعة الحياة البشرية كلها، كيف نعيدهم
ليقوموا بنفس الدور؟! كيف نستعيد مساهمتهم الإيجابية والقوية في
صنع الحياة والتقدم؟! لا بد أولاً أن يعرفوا من هم، وماذا كانوا،
وماذا قدموا، لا بد أن تصل بين الإنسان الواقع والإنسان التاريخ،
لتقدم ورقي إنسان بكره، هذه هي قضيتي...).
وقد بدأ شادي هذه المشاريع
بفيلم (الكرسي)، والذي يسجل فيه بالكاميرا ترميم كرسي «توت عنخ
آمون»، ولكن بطريقة هي مزيج من التسجيلي والروائي. وكانت لديه آمال
لتحقيق سلسلة طويلة من الأفلام التعليمية الثقافية، والتي لا تخلو
من المتعة والتسلية في نفس الوقت، منها فيلم عن رمسيس الثاني، وآخر
عن بناة الأهرام، وثالث عن أول عاصمة في التاريخ الفرعوني «نخن».
كما فكر في تقديم «ماكبث» أسطورة شكسبير الخالدة، ولكن برؤية خاصة
من خلال تاريخ المماليك في مصر.
بعد إنتاج فيلم (الكرسي)
عام 1982، وتوزيعه للإتحاد السوفييتي وأوروبا، انقطعت أخبار شادي
عبدالسلام عن الجميع. إلى أن طالعتنا الصحف، وبشكل مفاجأ، في يونيو
من عام 1985، بأنه موجود في مستشفى «تيفناو» السويسري، لإجراء
عملية استئصال ورم خبيث، وهو المرض الذي توفي به وحرمه من تحقيق
مشروع (أخناتون).
وإذا كانت هناك من كلمة
أخيرة، فلا يسعنا إلا أن نقول بأنه إذا كان السرطان قد هدد الجسد
وقضى عليه، فإن دهاليز الأجهزة الثقافية المسئولة عن الإنتاج
السينمائي في الوطن العربي، لا بد أن تشل قدرة فنان مبدع وخلاق مثل
شادي عبدالسلام. |