فيلم (شارع السد ـ 1986)، بطولة
فاروق الفيشاوي وشيريهان، هو التجربة الثالثة التي جمعت الثنائي الفني
المخرج محمد حسيب والكاتب أحمد عبد الرحمن. بعد فيلميهما (الكف ـ إستغاثة
من العالم الآخر) والإثنان من إنتاج عام 1984.
والثنائيات في التأليف والإخراج ظاهرة منتشرة في العالم أجمع، وبدأت تتضح
معالمها بشكل أكثر في السينما المصرية. فهناك تجربة محمد خان مع كل من
بشير الديك ورؤوف توفيق وعاصم توفيق. وتجربة عاطف الطيب مع وحيد حامد.
وشريف عرفة مع وحيد حامد. وخيري بشارة مع فايز غالي. وتجربة علي عبد
الخالق مع محمود أبوزيد. وهي بالفعل تجارب حققت نجاحات كبيرة فنياً،
وذلك بسبب تقارب الطرفية في الإهتمامات والأفكار. فأي مخرج بالطبع يتمنى
أن يجد كاتب السيناريو الذي يعبر عن رؤيته وعما بداخله من أحلام وطموحات.
وأي كاتب سيناريو بدوره يحلم بالمخرج القادر على تجسيد النص الذي كتبه كما
تخيله ووفق ما يعتقده.
ويتحدث المخرج محمد حسيب في هذا الصدد، فيقول: (...شارع السد هو اللقاء
الثالث بيننا، أي إننا لم نتعاون في عدد كبير من الأفلام، وإن كنت أتمنى
ذلك، لأن أفكارنا وميولنا وإتجاهاتنا تتلاقى وتكمل بعضها البعض، وكلانا
مولع بالتجربة والرغبة في التجديد. وأرجو أن نوفق الى النجاح مع كل خطوة نخطوها سوياً...).
في الفيلمين الأولين تناول محمد حسيب وأحمد عبد الرحمن موضوعان جديدان على
السينما المصرية، وسلكا طريقاً محفوفاً بالمخاطر والمجازفة الفنية. حيث
تناولا عالم الغيبيات والميتافيزيقا في فيلمهما الأول، وظاهرة التخاطر (إستقبال
رسائل من الأموات) في فيلمهما الثاني. وقد نجحا الى حد كبير في إضافة دم
جديد للسينما المصرية. أما في فيلمهما الثالث (شارع السد) فقد إبتعدا
كثيراً عن هذه النوعية وقدما فيلماً واقعياً جزاً عن الحارة والشارع المصري
بشكل جميل ومتقن.
وقبل البدء في الحديث عن فيلم (شارع السد)، كان لابد لنا من التعريف
بالمخرج محمد حسيب. فقد بدأ إهتمامه بالسينما منذ كان في الثانوية، إنما
علاقته بالسينما والفن بشكل عام لم تبدأ إلا عندما أعلن التليفزيون المصري
عند إفتتاحه عن حاجته لموظفين في قسم الرسوم المتحركة. فإلتحق بالتليفزيون
ثم طلب نقله الى أستوديو مصر، بعد علمه بوجود أجهزة حديثة للرسوم المتحركة
هناك، تستخدم فقط في عمل تترات الأفلام. ومن أستوديو مصر الى مدينة
السينما، بدأت الفترة المهمة في حياته، حيث حقق فيها عدداً من الأفلام
التي إشتهرت في فترة الستينات. صحيح بأن محمد حسيب لم يدرس السينما ـ
علماً بأنه أصبح مشهوراً في مجال الإعلان والرسوم المتحركة ـ إلا أنه أبى
أن يظل إهتمامه منصباً عليهما فقط. من هنا بدأ يتفرغ لدراسة ما أتيح له من
كتب السينما، هذا إضافة الى إحتكاكه ببعض المخرجين الذين تتطلب أفلامهم
وجود بعض الخدع أو رسوم متحركة. حيث كانت بالنسبة له فرصة حقيقية للدخول
في مناقشات واسعة حول السينما، كما أكسبته معايشة تصوير هذه الأفلام خبرة
كبيرة. وإستمر هكذا يقرأ ويناقش ويعمل، حتى واتته الفرصة لإخراج أول
أفلامه (إن ربك لبالمرصاد ـ 1980)، بعد أن إلتقى مع كاتب السيناريو بشير
الديك، ولأنه واجه عقبات وصعوبات لإيجاد منتج يقبل الدخول في مغامرة مع
مخرج جديد، فقد صمم على إنتاج الفيلم بنفسه. وفعلاً حصل بعد أن ساهم نجما
الفيلم محمود ياسين وحسين فهمي في ظهور الفيلم الى النور. وقد نجح الفيلم
جماهيرياً، بل وإستمر عرضه إحدى عشر أسبوعاً بالرغم من إحتوائه على الكثير
من سلبيات العمل الأول. وقد أثار نجاح فيلم محمد حسيب دهشة بعض العاملين
في الوسط الفني، حيث كانوا يصفونه.. (تخيلوا مخرج الإعلانات ده.. حسيب
بتاع التترات). وهم لا يعرفون بأن خبرة محمد حسيب في مجال الرسوم
المتحركة قد جعلته يكتسب قدرة كبيرة في السيطرة على الكادر السينمائي
الواحد، حيث كان يقوم برسم الشخصيات وحجم اللقطة وشكل الحركة داخل الكادر
على الورق قبل بداية التصوير. ولم يكتفِ محمد حسيب بما حققه، بل تفرغ
تماماً للقراءة في كل العلوم الأخرى، فإتجه لدراسة علم النفس والإقتصاد
والموسيقى، وإلتحق بمعهد النقد الفني، وتعرف على الكثير من الأفكار
والإتجاهات النفسية والفكرية. وما كان سينجح بالطبع في فيلميه التاليين
(الكف ـ إستغاثة ..) لولا هذه الفترة التي درس فيها أصول علم النفس. ويأتي
فيلم (شارع السد) ليؤكد بأن محمد حسيب يعد واحداً من أبرز المخرجين
المصريين الشباب.
تدور أحداث فيلم (شارع السد) في أحد الشوارع الشهيرة بحي السيدة زينب (شارع
السد)، حيث يحكي جانباً مختصراً لحياة الباعة الجوالين من خلال شخصية عطوة
(فاروق الفيشاوي) كنموذج هؤلاء الباعة المسلوبو الإرادة، الذين يتعرضون
لأبشع عملية إستغلال على يد التجار الكبار المستفيدون من مناخ الإنفتاح،
والمتحكمون في السوق ومحتكروا بضاعته، ويمثلهم في السوق المعلم عاشور
(إبراهيم عبد الرازق).
يتناول الفيلم هذا الصراع الدائر بين الطرفين (عطوة ـ عاشور). فنحن هنا
أمام شاب نازح من الريف يحاول أن يعيش حياته في شرف وأمانة دون الإنسياق
وراء الحرام رغم مغرياته الكثيرة. هذه هي الفكرة الرئيسية التي يعتمد
عليها الفيلم، إضافة الى فكرة الصراع التقليدي بين الخير والشر. وهي
أفكار بسيطة ومكررة في الكثير من الأفلام. إلا أن محمد حسيب وأحمد عبد
الرحمن قدما بها فيلماً غير تقليدي، وذلك بإبتعادهما عن المبالغات
الدرامية والإعتماد على الصدف التي تحويها أغلب الأفلام. كما إستطاعا الى
حد ما إضفاء إسقاطات عصرية للصراع الدائر بين الشرفاء ومافيا الإنفتاح في
شارع السد، وتبيان سيطرة هؤلاء التجار وحربهم الشرسة ضد عطوة وأمثاله،
حتى لا يبقى هناك من يتمرد على قوانينهم.
ما يعاب على الفيلم فقط، هو تركيزه على الصراع من جانب شخصي، والدخول في
مصادمات فردية بين عطوة وعاشور، وعدم إهتمامه بشكل أعمق بالشريحة
الإجتماعية نفسها وتجسيد معاناتها في إطار ذلك الصراع الإجتماعي. ولكن رغم
ذلك، فالفيلم نجح في توصيل هذا المفهوم البسيط من خلال نسيج درامي وطرح
واقعي مقنع وسيناريو متقن ومتكامل الى حد كبير.
وقد ساهم الأداء التمثيلي الجيد والطبيعي في الإرتقاء بمستوى الفيلم، حيث
قدم فاروق الفيشاوي واحداً من أهم أدواره على الشاشة، وإستطاع أن يثبت
بأنه ممثل قدير بإمكانه التنقل من مهنة عتال الى بائع حيلاتي وغيرها، وذلك
بخفة الدم الممزوجة بذكاء إبن البلد البسيط. وهناك أيضاً شيريهان التي
قدمت دوراً مميزاً ، وإن لم يكن أفضل أدوارها، فهي بهذا الدور قد بددت كل
ما يقال عنها بأنها مجرد ذيكور جميل وبضعة فساتين، وأكدت بأنها قادرة على
تجسيد أحاسيس ومشاعر لحالات نفسية عميقة.
أما المخرج محمد حسيب، فقد وفق كثيراً في السيطرة على كافة أدواته الفنية
والتقنية، بدءاً من إختياره لمجموعة الفنانين والفنيين الذين عملوا معه
الى إختياره الموفق لزوايا التصوير وحركة الكاميرا وأحجام كادراته الى
التحكم في درجات الإضاءة والظلال التي كان وراءها مدير التصوير المبدع سعيد
شيمي.
|